هذا الموضوع ضمن هاجس شهر أكتوبر «في مصنع خيال الطفل». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
تبدو صور الطفل في الأدب، العربي والعالمي، كأنها تتشكل في مساحة شاسعة من النصوص وعبر مستويات ثقافية مختلفة. لا تكاد معظم الروايات تخلو من شخصية الطفل، ذلك لأن الطفولة تجربة كونية، مرحلة يتشاركها كل البشر.
تنطوي الطفولة على معنى البداية، فأي محاولة لرسم معالم شخصية ما تبدأ من الطفولة، إما لتقصي الأسباب والعوامل التي جعلتها ما هي عليه، أو عبر استعادة الطفولة كزمن مفقود. والطفل هو النموذج الأثير في الأدب الذي تتجلى عبره السلطة وتمثيلاتها، الأبوية والدينية والتعليمية.
قد يوحي التواتر المهول لشخصية الطفل في الأدب بقدر موازٍ من التنوع والتباين في تمثيلاته، لكن الطفولة ربما ظلت حبيسة جملة من التصورات والكليشيهات التي تعاملت مع بعض المعاني، كالبراءة واللعب والملائكية، ورمزيات كالبداية والمستقبل، بوصفها صفات قارَّة داخل الطفولة نفسها.
لا تنحصر تلك التصورات القَبَلية في مجموعة من الرؤى المتفائلة، وإنما تقابلها أيضًا بعض الافتراضات والأفكار عن الشر «الكامن» وولادته مع الطفل.
في الأدب العربي، النوستالجيا هي المَعبر الملكي إلى الطفولة. على مدار عقود، تمحورت صورة الطفل في السرد حول عدد من الثيمات مثل: حكايات الجدة، ذكريات القرية، الحب الخائب. وأخذت الرواية العربية الوليدة تقدم صيغًا مختلفة من نموذج «الصبي الواعد»، بتعبير فيصل دراج، تعبيرًا عن التوق إلى التحرر الوطني وتبشيرًا بمستقبل عربي تنويري، في فترة الاستعمار وما قبل نشأة القوميات العربية، حتى هزيمة يونيو 1967.
يشير دراج إلى استلهام هذا النموذج من رواية التكوين والتعلم الألمانية، والرواية الإنجليزية في القرنين الثامن والتاسع عشر. ومن أهم الروايات التي قدمت صياغة لنموذج «الصبي الواعد»: «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، و«الرغيف» ليوسف عواد، وروايات جبرا إبراهيم جبرا، خصوصًا «البحث عن وليد مسعود»، مع صورة الطفل الفلسطيني الذي يلهو في روابي القدس ويستحم في مائها ويذهب إلى كهوف النُسَّاك.
يمكننا أن نلحظ مدى التأثر العالمي بأحد أهم رموز إنسانية «تشارلز ديكنز» الرومانسية المتمثلة في براءة الطفولة، فروايات ديكنز «تدفع هذه الطفولة إلى الانخراط في سلسلة من العلاقات البنيوية المعقدة مع تجربة الكبار»، وفقًا لـ«تيري إيجلتون»، ويوجه من خلالها نقده للمجتمع البرجوازي.
الأطفال لا يكتبون الأدب، فما المشكلة؟
تُعرَّف الطفولة بأنها أول مرحلة من «المراحل النمائية العمرية التي يمر بها الإنسان، وتبدأ منذ لحظة الولادة حتى سن البلوغ». ومن مراحلها: ما قبل الميلاد، الرضاعة، الطفولة المبكرة، فالمتوسطة، وانتهاءً بالطفولة المتأخرة، التي تبدأ من تسعة أعوام حتى 12 عامًا.
ما الأيديولوجيا التي يقدمها الطفل داخل الأدب؟ أو بالأدق: ما الأديولوجيا التي تُقدَّم عبره؟
لا يعرف تاريخ الأدب فنانًا مثل «موتسارت»، استطاع إنتاج عمل فني في فترة مبكرة جدًّا من حياته. لا نتحدث عن فعل الكتابة نفسه عند الطفل، وإنما عن كتب مكتملة منشورة كُتَّابها أطفال. النماذج النادرة، مثل «آرثر رامبو»، تنتمي إلى المراهقة أو مراحل الشباب الأولى، لا الطفولة.
الطفل لا يُمثل نفسه داخل الأدب، بل يجري تمثيله وتقديمه من قِبل الكبار.
الطفل في الأدب هو طفل مستعاد. يتحدث الآخر «الكبير» نيابة عنه، وحتى في السير الذاتية فإن الطفولة يعاد رسمها بواسطة الذاكرة، أو الذهنية التي اختبرت الحياة. في أدب الطفل يبرز مجاز «الطفل داخل الكاتب»، والقول إن كاتب الأطفال يعيش طفل داخله، يحتويه، كي يمكنه من الشعور بأحاسيس الأطفال وخيالهم.
ما نتيجة هذا التمثيل؟ وما الدلالات أو الرمزيات التي صاغها؟ وإذا كان المتكلم في الرواية هو صانع أيديولوجيا، كما وَضَّحَ «ميخائيل باختين»، فما الأيديولوجيا التي يقدمها الطفل داخل الأدب، أو بالأدق، تُقدَّم من خلاله؟
نحاول هنا رصد صور مغايرة للطفل في الأدب، تحديدًا السرد، بعيدًا عن النظرة «الكيتشية» تجاه الأطفال، بتعبير «ميلان كونديرا». وقد نعرض بعض الثيمات المكررة التي جاء توظيفها مغايرًا في ثنايا نصوص بعينها. كذلك، استبعدنا أدب الطفل كنوع (genre) إلا عددًا من نماذجه الفارقة التي استعصت على التصنيف، أو تجاوزته.
الخبز الحافي: الطفولة سيرة قهر
تتعدد السير الذاتية الروائية في الأدب العربي، لكن ما قدمه الكاتب المغربي محمد شكري في سيرته بجزءيها، «الخبز الحافي» و«الشطار»، كان مناقضًا ومتحديًا لكل المواضع المستقرة والأعراف التقليدية لكتابات السيرة العربية. سيرة جريئة، عنيفة، صادمة. تكمن مغايرتها في قوة حياة صاحبها وفرادتها وفوضاها العنيفة والصاخبة.
تزخر «الخبز الحافي» بكل أشكال العنف الجسدي. يطالعنا في الفصل الأول مشهد قتل الأب للأخ الصغير، الباكي من شدة الجوع. المشهد مروي من منظور الطفل الذي يرى هجوم أبيه على أخيه الأصغر. يستقر المشهد المروع في وعي الطفل الراوي منذ طفولته الباكرة، إذ وقع وهو في السابعة من عمره. يهرب بعدها الراوي من عنف الأب الذي اعتاد ضربه وأمه، ليتشرد في عالم القاع بقسوته وبؤسه.
ترسم السيرة صورة الطفل المقهور المشرد، الواقع تحت شتى صنوف العنف الجسدي والجنسي، في صورة معاكسة للدراما الديكنزية. ينتهك شكري غلالات البراءة المتوهمة، يحاول الطفل اكتشاف جسده، ويحركه نزوع شبقي. تتجاوز الرواية الرغبة في قتل الأب بالمعنى المجازي، الفرويدي، لتصل إلى رغبة حقيقية في الإجهاز على السلطة الأبوية.
التلصص: الطفل في ظلال الأب
نرى في «التلصص» تفاصيل العالم بعيون الطفل، الذي يتلصص على الخادمات ويسترق السمع إلى أحاديث والده الجنسية مع الأصدقاء.
يقدم صنع الله إبراهيم في رواية «التلصص» «دراما صغيرة»، حسب وصفه، لصبي في التاسعة من عمره، وأب في الخامسة والستين، يرسمها على خلفية من القاهرة عام 1948: نهاية الحرب العالمية الثانية، ونشوب حرب فلسطين، وتظاهرات الاحتجاج ضد الملك فاروق.
لكن الرواية التزمت في سردها الوصفي بالفعل المضارع، حتى في استرجاع الطفل ذكرياته ولحظاته مع الأم الغائبة. هنا نرى تفاصيل العالم بعيون الطفل، الذي يتلصص على الخادمات ويسترق السمع إلى أحاديث والده الجنسية مع الأصدقاء. الطفل يعشق والده الكهل ويُفتن بكافة أقواله وأفعاله، خصوصًا أن الأخير يحاول أداء كل واجبات التربية والمساعدة في حفظ الدروس وتعويض غياب الأم.
صورة الطفل في «التلصص» هي العُملة في وجهها الآخر، حيث الطفولة والكهولة وجهان لعملة واحدة. يلتقي الابن الذي تبدأ غريزته الجنسية في الإعلان عن نفسها، بالأب الذي تذوي فحولته بالتدريج، عند نقطة التقاء هي «دفء» المرأة.
اقرأ أيضًا: ديفيد ويليامز: كيف يكتب حكم «Britain's Got Talent» أدب أطفال ناجح؟
كل أحذيتي ضيقة: الأم والطفولة والفيتشية
يقول الكاتب عادل أسعد الميري في أحد حواراته إن صورة الأم عادةً ما تكون «إيجابية» في الأدب المصري. يؤكد الميري أن تأثير أمه في حياته كان متناقضًا، فهي من ناحية «كانت مستبدة تمامًا ومتحكمة في كل شيء في حياتي»، ومن ناحية أخرى «جعلت من القراءة مصدرًا دائمًا للمعرفة»، واشترت له آلة كمان وهو في العاشرة، ثم جيتارًا في سن الخامسة عشرة.
يمزج الميري بين السيرة الذاتية والتخييل الروائي، خصوصًا في «كل أحذيتي ضيقة». من خلال كتابة الاعترافات، تبرز صورة الطفل الصغير تحت وطأة التربية المعتلة نفسيًّا. وتؤدي تراكمات الكبت والقهر ومعاناة الطفولة إلى مصاعب في حياته الجنسية وخلل في علاقته بالأنثى. ويعترف في ألم، وهو في السادسة والخمسين، بأنه لم يستطع بعد أن يغفر لأمه ما فعلته، رغم تقلبه بين المهن والأماكن
ينتبه عادل الميري إلى الكبت والإحباط في الطفولة، ويصورهما كخبرة مؤلمة، لا كمحاولة لإخضاع شخصية الطفل لإثبات صحة منطلقات التحليل النفسي.
يصف الكاتب الأَسْر النفسي والعاطفي للأم ﺑـ«الإخصاء النفسي»، ويعيد استخدام نفس الكلمة في «فخ البراءة»، فيرسم صورة الولد كدمية في يد الأم المتسلطة.
في «فخ البراءة»، نشاهد الولع الفيتشي للراوي بأقدام النساء، وحين يتقصى أسباب عجزه، يجد أصل الفيتشية في ما كانت تفعله أمه أيام الطفولة المبكرة: «فعندما كنت في الرابعة أو الخامسة، ألعب على السجادة في أوضة القعاد، وكان أخي قد ذهب إلى المدرسة، وأبي في عمله، كانت تخلع البانتوفلي، وتدعك لي بطني بقدمها، ثم تزحف بها إلى أسفل البطن...».
يتوسل السرد بمنجزات الطب النفسي في إيضاحه لتأثير الحياة الجنسية للطفل وخبرات الطفولة المبكرة. ينتبه عادل الميري إلى الكبت والإحباط داخل الطفولة، ويصورهما كخبرة مؤلمة، لا كمحاولة لإخضاع شخصية الطفل، بشكل قبلي، لإثبات صحة منطلقات التحليل النفسي.
بيت النخيل: الطفل والتسلط الديني
يقف الطفل لا حول له، عاجزًا ومندهشًا، أمام التقاليد الدينية البالية. بعض الممارسات الدينية تتضح لنا عبثيتها حين تتخذ من الطفل موضوعًا لها.
في رواية الكاتب السوداني طارق الطيب «بيت النخيل»، يجبِر شيخ الكُتَّاب الأولاد على شرب الماء الآسن من جردل صدئ قديم، يغسل فيه الأطفال ألواحهم التي كتبوا عليها آيات القرآن. يصبح الماء مقدسًا حين تغسَل فيه الألواح.
بصورة مشابهة، نطالع في «التلصص» الأب الذي يجبر ابنه على شرب الماء من الطبق الذي كُتبت عليه سورة الفاتحة بقلم حبر.
وقد يكون الموروث الشعبي، ممثلًا في الحكي الشفاهي، مصدر إخضاع وترهيب للطفل، كما في رواية منصورة عز الدين «وراء الفردوس». كانت ثريا، وهي تحكي لابنتها حكاية كمونة، تصر على أن تُنهي الحدوتة الشعبية وكمونة مخطوفة ومحمولة في جيب رجل ضخم، ولم تقل للابنة إن الطفلة الماكرة استطاعت الرجوع إلى بيتها.
الأطفال في أغلب الحواديت الشعبية المصرية مغرر بهم وضحايا، وعواقب أفعالهم سيئة، عكس شخصيات حكايات الأطفال في الغرب، الأبطال الحكماء الشجعان، كما سنبين لاحقًا.
اقرأ أيضًا: أدب الأطفال الأمازيغي: بين غرابة الحكاية وضرورة التدوين
الأمير الصغير: سحر البراءة الأولى
طفل أشقر، صغير الحجم، ملحاح، لا يكف لحظةً عن الدهشة وإثارة الأسئلة.
في حكاية شعرية فريدة وبسيطة، يقدم «أنطوان دو سانت إكزوبيري» نموذج الطفل الأبدي الذي يخترق عمق ذواتنا. رواية هي الأكثر قراءةً وترجمةً في تاريخ الأدب الفرنسي.
يسخر الأمير الصغير من عالم الكبار وقضاياهم، ويذكِّرنا بالجوهر المفقود للأشياء، وينظر إلى كل صباح في دهشة صادقة، وكأنه الصباح الأول على الأرض.
«كل الأشخاص الكبار كانوا في البداية أطفالًا»، هكذا يقول سانت إكزوبيري في إهداء روايته «الأمير الصغير» إلى صديقه «ليون فيرث».
الأمير الصغير هو رمز الفطرة والبراءة والدهشة، وهو كالمرشد الروحي الذي يكشف المعنى الحقيقي للحياة عبر أسئلته الكونية وتأملاته الوجودية الطفولية. إنه محاولة الكاتب لاستعادة الإيمان بالإنسان والانحياز إليه رغم دموية الحرب العالمية الثانية، ومن خلال حكاية مستوحاة من حادثة شخصية.
يسخر الأمير الصغير من عالم الكبار وقضاياهم. وفي رؤية متعاطفة مع الإنسانية، يذكِّرنا هذا الطفل العالمي بالجوهر المفقود للأشياء، وينظر إلى كل صباح في دهشة صادقة، وكأنه الصباح الأول على الأرض.
آليس: نقد المجتمع الفيكتوري
تتضخم «آليس» وتنكمش، وتتمنى أن تتمكن من طي نفسها مثل التليسكوب لتصبح أقصر وتمر من فتحة الباب، وتستمع إلى نصيحة من دودة تدخن النرجيلة.
يقدم «لويس كارول» في «آليس في بلاد العجائب» و«آليس في المرآة» حكايات خيالية زاخرة بالفكاهة المبدعة، ينقد من خلالها المجتمع الفيكتوري وتزمته. وفي محاكمة عبثية لولد الكوتشينة المتهم بسرقة الكعكات، تتعرف آليس في سرور إلى معنى كلمة «القمع»، حين تراها ممثلة في ضباط المحكمة.
يستخدم كارول في «آليس في المرآة» طريقة الشطرنج. تترقى آليس من عسكري إلى ملكة في نهاية اللعبة، لكن ارتقاء عرش الملكة لا يسفر عن امتلاكها زمام القوة الاجتماعية، وإنما هو «حلم عابر تصحو منه»، كما تبيِّن المترجمة سهام بنت سنية وعبد السلام.
آليس طفلة حاذقة، تجادل الحيوانات والملكات حول المبادئ ومسائل التعليم.
يمكننا القول إنه عند اختراق آليس للمرآة لتكشف العالم الموجود داخلها، تتوحد مع هذه الحالة الخيالية للوجود، أو «مرحلة المرآة» كما سماها «جاك لاكان» بعد ذلك. ترغب في التوحد مع صورتها، ومعرفة ذاتها. لكن آليس ليست ذاتًا نرجسية بالمعنى اللاكاني (نسبةً إلى «جاك لاكان»)، فهي تقبل أن تلعب دور العسكري وتأمل في الترقي، وتستمع إلى توبيخات الملك والملكة رغم تتويجها على العرش.
قد يعجبك أيضًا: لماذا أفسدوا ليالي طفولتنا بحكاياتهم المخيفة؟
مَوغلي: أغنية ضد البشر
«مَوغلي» طفل بشري تربى وسط قطيع من الذئاب، صديق الحيوانات المفترسة لا يخافها، ينصاع لقانون الغابة ويتأفف من رائحة البشر.
«في تلك الليلة من كل عام، إذا التقيت بذلك الكائن عديم الشعر، وهو من يدعونه الإنسان، لن تخاف منه، بل هو الذي سيخاف منك، لأنك كنت قاضي الغابة وسيد كل الكائنات. في تلك الليلة امنحه الرحمة من خوفه، لأنك تعرف ما هو الخوف». يستمع مَوغلي إلى هذه الكلمات النهائية للحكاية التي توضح كيف نشأ الخوف.
مَوغلي هو الشخصية التي أبدعها الروائي الإنجليزي الحائز على نوبل «روديارد كيبلنغ».
في «كتاب الغابة» بجزءيه الأول والثاني، الذي حولته «ديزني» إلى فيلم كارتون في الستينيات، وأعادت إنتاجه عام 2016 كفيلم مغامرة ثلاثي الأبعاد، نرى مَوغلي، الطفل البشري الذي تربى وسط قطيع من الذئاب. إنه صديق الحيوانات المفترسة لا يخافها. ينصاع إلى قانون الغابة ويتأفف من رائحة البشر. وديع رغم وحشية الغابة.
يصف إدوارد سعيد، في «الثقافة والإمبريالية»، كيبلنغ بأن لديه مخزونًا لا ينضب من «المتعة الصبيانية» ولذة اللعب، ويمكن أن تُقرأ أعماله باحترام واهتمام «بعد المراهقة بسنوات، من القارئ العام والناقد سواءً بسواء».
الطفولة الشريرة: غولدنغ يواجه كيبلنغ و سانت إكزوبيري
على خلاف كيبلنغ، فإن وليام جولدنغ، البريطاني مثله والحائز على نوبل كذلك، لا يحاول إظهار صفات البطولة والشجاعة والآدمية خلف القناع الوحشي، كما فعل كيبلنغ مع مَوغلي، رغم تشابه الظروف التي يخلقها جولدنغ للأطفال في روايته «أمير الذباب».
تدور أحداث الرواية حول مجموعة من الأطفال يجدون أنفسهم بمفردهم على جزيرة مهجورة، بعد تحطم الطائرة التي كانت تقلهم. يحاولون تنظيم أنفسهم وانتظار النجاة. ينتخب الأطفال واحدًا منهم ليكون زعيمًا، وآخر ليكون قائدًا للصيادين. يتابعون إشعال النار وبناء الكوخ وعقد الاجتماعات.
ما الذي ستؤول إليه الأمور عندما تتولى مجموعة من الأطفال مقاليد السلطة في مجتمع دون كبار؟
تتطور الأمور إلى مصير مفزع، ينتقل الأطفال من طور اللعب والتسلية إلى طور العنف والوحشية، وفي النهاية يقتلون بعضهم بعضًا، ويهرب البطل بحياته، ويجد نفسه وجهًا لوجه مع ضابط بحري هبط لتوه على شاطئ الجزيرة، بعد أن تنبهت سفينته إلى الدخان المتصاعد، ويعلق الضابط على منظر الأطفال بحرابهم ووجوههم المطلية: «صبية يلعبون».
تؤكد رواية «أمير الذباب» فطرية العدوان لدى الإنسان، أو ما قرره فرويد من أن «النزعة إلى العدوان استعداد فطري غريزي قائم بذاته في نفس الإنسان».
مَوغلي، رغم الصيد والبداوة، ظل محتفظًا بشيء من الوداعة، كأن هناك جوهرًا أصيلًا غير متغير للطبيعة البشرية. هنا تتجلى نقطتان مهمتان:
- كيبلنغ كاتب أطفال
- توفي كيبلنغ عام 1936، أي قبل الحرب العالمية الثانية بثلاث سنوات، بينما شارك جولدنغ في الحرب والتحق بالخدمة لسنوات في سلاح البحرية
غير أن استجابة جولدنغ للحرب جاءت مغايرة لسانت إكزوبيري، الطيار الحربي في الأساس. الأمير الصغير، الذي تعطلت مركبته في الصحراء، يطل علينا ببراءة الطفل ليذكرنا بحقيقة الإنسان المنسية وسط طغيان الكبار وعالمهم. أما بطل جولدنغ فيبكي في خاتمة الرواية، «نهاية البراءة» و«ظلمة قلب الإنسان».
إذًا، هل الكبار سبب دمار العالم؟
يطرحغجولدنج فرضية أخلاقية في روايته الرمزية، تؤكد عنف الطبيعة البشرية ونزوعها إلى التدمير.
تؤكد «أمير الذباب» فطرية العدوان لدى الإنسان، أو ما قرره فرويد من أن «النزعة إلى العدوان استعداد فطري غريزي قائم بذاته في نفس الإنسان». يقول فرويد في «ما فوق مبدأ اللذة» إن النزوع إلى القسوة والعنف والتدمير يمكن مشاهدته بين «جماعات الصغار» التي لا تتورع أحيانًا في توجيه إيذائها إلى بعض أفرادها أو إلى بعض الحيوان، من تشويه وقتل.
لكن لا يمكننا اختصار «أمير الذباب» في افتراض أخلاقي، وإنما تنطلق الرواية من افتراضات أخلاقية في جوهرها، لا لتأكيد حقائق معدَّة سلفًا في ذهن جولدنغ، بل لبيان أثر الحرب على البشرية، وعلى الأطفال، الذين سقطت طائرتهم بنيران الحرب وقذائفها.
أوسكار: طفل ضد النازية
بعيدًا عن السمات الأليجورية (التي تقصد أشياء أبعد مما تقولها) لروايات كارول وسانت إكزوبيري، ورمزية جولدنغ الأخلاقية، يرسم الكاتب الألماني «غونتر غراس» في «طبل الصفيح» واحدة من أكثر الشخصيات تفرُّدًا في تاريخ الأدب العالمي: «أوسكار ماتسرات».
يحمل أوسكار ملامح الطفل ظاهريًّا، لكنه يشيخ على المستوى الباطني. فلديه وعي الكبار وهو في سن الثالثة، ويقرر أن لا يكبر أبدًا.
شخصية أوسكار القزم تتجاوز الرمز، لأنها غير قابلة للتكرار، وهي عَصية على الاختزال كمجرد مجاز لمقاومة النازية وقيمها.
أوسكار يرفض، واعيًا، قِيم «البطولة» و«العظمة»، أي الأيقونات المؤسسة للأيديولوجيا النازية. يقرع على طبل معلق على صدره، وصراخه قادر على تحطيم الزجاج. كأن صراخ القزم أوسكار هو نقيض الصمت، صمت المجتمع على جرائم النازية، وصمت الضحايا أيضًا. والتطبيل والصراخ هما نقيضا الغنائية والاحتفالية للرايخ الثالث. وهو قزم في مجتمع يعتنق التفوق العرقي، ويبيد الضعفاء.
يوجه غراس نقده للمجتمع الألماني في عمل يجمع بين السخرية والخيال الفانتازي والتعقيد السردي المركب، الزاخر بالإحالات الثقافية والتاريخية.
أوسكار لا ينتظر النجدة من الكبار مثل أطفال جولدنغ، ولا يحاول إرشادهم مثل الأمير الصغير، وتنطوي شخصيته على مفارقة حادة: فهو يحمل ملامح الطفل ظاهريًّا، لكنه يشيخ على المستوى الباطني. لديه وعي الكبار وهو في سن الثالثة، فيقرر أن لا يكبر أبدًا عن تلك السن.
طفولة أوسكار شكلانية، لأن أفعاله تنتمي في معظمها إلى البالغين. يظن أنه الأب الحقيقي لابن «ماريا»، عشيقته السرية التي تزوجها أبوه بعد وفاة زوجته، أم أوسكار. طفولة أوسكار الشائخة هي معكوس ألمانيا في فترتها النازية، وكأنها دولة ترتد، عن وعي، عن رشدها، لتتقزم، بينما هي تتغنى بالعظمة والتقدم.
أطفال مازن معروف: السادية والسذاجة
يقدم الكاتب الفلسطيني مازن معروف، في مجموعتيه القصصيتين «نكات للمسلحين» و«الجرذان التي لحست أذنَي بطل الكاراتيه»، مقاربةً خلاقةً للذهنية الطفولية ورؤيتها للحرب، ولعلها من أفضل ما كُتب عن الحرب في السرد العربي. غالبية أبطال القصص من الأطفال، وهو يجري نوعًا من الحكايات الدموية على ألسنتهم.
معروف، المولود في بيروت، لا يشير إلى حرب بعينها، لكن أجواءها مشابهة للحرب الأهلية اللبنانية، حين كانت الميليشيات والمسلحون عند كل ناصية وداخل كل منزل.
الأطفال في قصص معروف جلادون ومسلحون، يقتلون ويعذبون غيرهم من الأطفال والحيوانات. يقدم الكاتب منظورًا فريدًا لعالم الحرب، تمثيل لعالم كارتوني رسمه الخيال الطفولي الذي يمزج بين الجنيات والتعذيب، بين الأبطال الخارقين والأشلاء المتطايرة. هناك الطفل الذي يحاول بيع أخيه التوأم، وآخر يجلد أطفالًا في السجن، ويطعمهم بودرة «الجلو» (الصمغ)، فيهرب الأولاد في النهاية ويغتصبونه.
القصص محاكاة للمخيلة الطفولية، فالحرب لعبة دموية يمارسها الأطفال، بعبثية وسذاجة وسادية. صور الأطفال كالشخصيات الكارتونية، لكنها قاتمة ووحشية.
أطفال الديستوبيا
كثيرًا ما تصوَّر الديستوبيا كأنها عالم دون أطفال، ويصير العقم كارثة كونية تهدد الجنس البشري بالفناء.
في رواية «أطفال الرجال»، للإنجليزية «بي دي جيمس»، التي حولها المخرج المكسيكي «ألفونسو كوران» إلى فيلم سينمائي لاقى احتفاءً كبيرًا، نرى حالة هائلة من الحروب والدمار والاضطرابات في لندن 2027، مما أدى إلى عدم ولادة أي طفل لما يقرب من 18 عامًا.
يجد «فارون»، الناشط السياسي السابق، نفسه مسؤولًا عن حماية أول سيدة تحمل منذ بداية الفوضى. يحاول تأمين سلامتها حتى تضع طفلها. في المستقبل القريب، يبدو العقم عاقبةً أخلاقيةً للدمار الذي يحدثه الإنسان في العالم.
الأطفال هم الوحيدون الذين حرص محمد ربيع على خلاصهم من الجحيم في روايته «عُطارد»، فتنطفئ حواسهم ليصبحوا في عزلة عما حولهم من عذاب لا يستحقونه.
في رواية «مارجريت إتوود» «حكاية خادمة»، التي صارت مسلسلًا تليفزيونيًّا شهيرًا حاز جائزة «إيمي» عام 2017، تكون ندرة المواليد دافعًا لقيام نظام ثيوقراطي ذكوري دموي، لا يُسمح فيه للنساء بالقراءة أو العمل أو قيادة السيارات.
هل ينجو الأطفال من الجحيم؟
الأطفال هم الوحيدون الذين حرص محمد ربيع على خلاصهم من الجحيم في روايته «عُطارد»، عبر طمس حواسهم وإخفائها. تنغلق العينان والفم ويسقط صيوانا الأذنين، ويسقط الأنف في النهاية تاركًا ثقبين مكانه. لا يستحق الأطفال عذاب الجحيم، تُطفأ حواسهم ليصبحوا في عزلة عما حولهم من عذاب لا يستحقونه. نرى الطفلة زهرة وهي تفقد حواسها تدريجيًّا، وكذلك سمير، الصبي الطيب، الذي يصبح الموت خلاصه.
تتنوع مجازات الميلاد والموت في الديستوبيا (عكس اليوتوبيا)، فميلاد طفل قد يمثل بداية الخلاص، وقد يكون السبب في بداية الرعب. أما موت الأطفال فيبدو في رؤى أبوكاليبتية أخرى كنهاية سعيدة أو كرحمة إلهية.
الولادة السياسية للأطفال
تتجلى بعض التمثيلات السياسية للطفل في الأعمال الروائية، فتبدو عملية الولادة ذات دلالات سياسية وثقافية متنوعة.
في رواية «جي. إم. كوتسي» «العار»، تتعرض ابنة أستاذ جامعي أبيض للاغتصاب من مجموعة من السود، لكنها ترفض إجهاض الطفل.
نحن هنا في جنوب إفريقيا. «لوسي»، الابنة، مؤمنة بأن عليها ضريبة يجب دفعها. كأن ولادة طفلها، المزيج من الجنسين، سيكفر عن عار جنسها الأبيض. ولادة الطفل محو لعار التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا. الطفل/الجنين في «العار» هو تمثيل عميق لإمكانية التعايش بعد نهاية نظام الفصل العنصري «الأبارتايد». يعتمل هذا النقد السياسي بين سطور النص، دون مباشرة أو بروباغندا.
ليس كل رضيع هو بداية لحياة متوازنة لا صدام فيها، فـ«آدم دنون»، في رواية إلياس خوري «أولاد الغيتو - اسمي آدم»، يكتشف حكايته «الحقيقية» التي فاجأه بها مأمون الأعمى، أستاذه في الصغر.
يقول مأمون إنه خرج من مدينة اللد بعد سقوطها، ومشى في «مسيرة الموت تحت الرصاص والشمس والعطش»، وقبل وصوله رأى طفلًا رضيعًا، تحت شجرة زيتون، مرميًّا على صدر جثة أمه، فأخذه إلى «غيتو اللد» حيث استقر المقام بالناجين من المذبحة الكبرى، محاصرين داخل سياج من الأسلاك الشائكة، حول الحي المحيط بالمستشفى والمسجد والكنيسة.
تتبنى منال، إحدى ساكنات الغيتو، الطفل، وتدعي أنها أنجبته من زوجها حسن دنون، شهيد المقاومة. يستقر الأهالي على تسميته «آدم»، أول مولود للغيتو. يقول: «آدم هو الاسم الأكثر تعبيرًا عن حقيقتي، فأنا ابن الأرض، ولا آباء لي».
نبشُ الماضي هو نبش حكاية غيتو اللد، المكان الذي بدأت فيه حكايته، وهو نبش في حكايات المذبحة التي وُلد مع أهوالها، إذ هاجمت القوات الإسرائيلية مدينة اللد بعد حصارها. دخلتها قوات الهاجاناه والبَلماح وارتكبت مجازر، قتل عشوائي وقصف من الطائرات والمدافع، «جثث ممزقة على حيطان جامع دهمش، أشلاء آدمية في الطرقات».
طرد شامل للسكان واللاجئين في ما عرف بـ«مسيرة الموت»، أكثر من 50 ألف إنسان وجدوا أنفسهم يتدافعون في مسيرة أمرت بها القوات الإسرائيلية، في الوعر والعطش وتحت الشمس الحارقة والذباب الأزرق.
يعيد السرد خلق آدم تحت ظلال الأنبياء، وكأنه طفل القيامة، الأخ يترك أخاه والأب يتخلى عن ابنه، والمذبحة هي نهاية العالم وبدايته.
لوليتا: الحورية المغتصَبة في الأدب الرفيع
اسمها الحقيقي هو «دولوريس». تبلغ من العمر 12 عاما. خُلِّدت «لوليتا» كأشهر ضحية للاعتداء الجنسي في تاريخ الأدب.
في «لوليتا»، رائعة «فيلادمير نابوكوف»، فتاة صغيرة هي موضوع هوس جنسي لبروفيسير ثلاثيني يدعى «هامبرت»، ينسج المخططات للتغرير بالطفلة والإيقاع بها.
يروي هامبرت من زنزانته، وهو في انتظار بدء محاكمته، حكايته مع لوليتا. وتتخذ الرواية شكل الدفاع الذاتي في أسلوب سردي منمق، ونثر بديع، يحاول من خلاله الراوي التلاعب بالقارئ كما تلاعب بالطفلة من قبل. يحمل الراوي هيامًا خاصًّا أو هوسًا شهوانيًّا بالفتيات اللواتي تترواح أعمارهن بين 9 و14 سنة، ويصفهن بالحوريات.
يخلق النص من خلال لغته البديعة وبلاغته الخلابة تفاعلًا بين الخيالات اللاواعية والدفاعات الواعية ضدها. يُعري انحياز القارئ حين يجد نفسه متعاطفًا مع الراوي، أو آملًا في نجاح مخطط هامبرت الإجرامي.
لذلك، فالعمل لا يطمح إلى تأكيد التعامل مع الأطفال بوصفهم موضوعات جنسية، لكنه يُقوِّض مركز الغواية داخل البالغ، لا برسم صورة ملائكية ساذجة للضحية، ولا بخطاب أخلاقي نادم عن البيدوفيليا (اشتهاء الأطفال جنسيًّا)، وإنما بتصويره لامتلاك جسد لوليتا، والسخرية الشيطانية التي يخلعها على الملائكة، كمجاز للفتيات الحوريات، فيكشف عن واقعية الراوي الشرسة التي اجتهد في إخفائها خلف لغة شعرية وأسلوبية متعالية.
من الطفل الأناني إلى الطفل الميت
«ماشيةً سوف ترجع، متأملةً وحالمة، دائمًا وحدها، لأن الطفل شيطان أناني، تعوزه الرقة ويعوزه الصبر، بل إنه لا يسعه، كالحيوان البريء، كالكلب أو القط، أن يكون نجيًّا لأوجاع الوحدة». «شارل بودلير»، من قصيدة «الأرامل».
ربما تكون الأنانية هي الصفة التي لاقت شبه إجماع على وجودها داخل الطفل.
لطالما نظرنا إلى الأطفال بوصفهم تحت هالة ما من العناية الإلهية. هكذا أخبرتنا قصص الأنبياء، أن بإمكان الطفل أن ينجو من الغرق بعد رميه في البحر ويرجع إلى حضن أمه، أن بإمكانه النجاة من المؤامرات والدسائس والهوة المظلمة ليصير ملكًا في النهاية على خزائن الأرض. لكن عالم اليوم يحمل لنا صورًا لأشلاء الأطفال وجثثهم الملقاة على شواطئ البحر، أو المختنقة بالغاز السام.
في لوحة «زحل يلتهم ابنه» للفنان الإسباني «فرانشيسكو غويا»، يأكل الجبار «كرونوس»، وفقًا للأسطورة الإغريقية، أبنائه كلهم عقب ولادتهم، خوفًا من أن يطيحوا به إذا كبروا.
هل كانت الحياة دومًا قريبة إلى هذه الدرجة من الميثولوجيا الإغريقية؟