ماذا تبقى من الصحوة الإسلامية؟
تمتَّع الإسلاميون لمدة أربعة عقود بحق الكلام منفردين دون أن يقدر أحد على نقدهم، كانوا شبه محتكرين لحق النقد الحاد والسخرية من خصومهم، وفي ما عدا بعض الناس المستندين إلى الأنظمة، لم يكن بمقدور أحد أن ينتقد المنطلَقات الفكرية للإسلاميين ويأمَن على نتائج فعلته تلك.
الآن، وبشكل عفوي، أصبح الناس يتناقلون بحسٍّ نقدي وساخر أحيانًا مقاطع فيديو لشيخ مثل محمد حسين يعقوب يتحدث فيها عن الحور العين. لم يكن ذلك يخطر على بال أحد قبل عشر سنوات فقط، ولا يتعلق الأمر بموقف من السلفيين فحسب، فحتى عمرو خالد، الداعية المعتدل شبه المعتمَد لدى الطبقات الوسطى والعليا، أصبح كل ظهور له مدعاةً للنقد والسخرية، حتى وإن كان يدعو في الحج ووراءه الكعبة.
مقاطع وصف الحور العين والدعاء المتباكي ليست جديدة في إنتاجات الإسلاميين، لكن ما تغير كان المشاهدون، وصارت السلوكيات المعتادة للدعاة، التي كثيرًا ما تسببت في نجاحهم وشهرتهم، هي نفسها ما يجلب لهم «الكلام».
ربما لا يكون هذا التغير بعيدًا عن تغير موقف الشارع العربي من الإسلاميين بعد ما أُطلق عليه ثورات «الربيع العربي»، فنقد التيارات الإسلامية السياسية، وتحولها من التيار المهيمن الأساسي إلى إحدى القوى السياسية الموجودة في أحسن الأحوال، وفي أسوئها إلى القوة التي ينبني النظام السياسي بأكمله على معاداتها، جعل الساحة مفتوحة لنقد أجنحتهم الدعوية.
كلما ورَّط الإسلاميون أنفسهم في معارك مع خصومهم تزداد السخرية، ولم يعد اتهام الناس في دينهم له نفس المفعول القديم.
يفترض الهاجس أن الإسلاميين لم يعودوا في موقع «المتمكنين سياسيًّا»، وأنهم عادوا إلى المربع الأول الذي انطلقوا منه كمهزومين، لكن هذه الهزيمة لا يمكنها أن تكون مثل هزيمتهم الأولى، إذ تأتي هذه المرة بعد سنوات طويلة من صَوَلاتهم الاجتماعية والثقافية. الهزيمة الحالية لا تعني بالضرورة أن الإسلام السياسي أصبح كأن لَم يكن، بل ربما أن هزيمته تلك لم تكن ممكنة إلا باستبطان المنتصرين لأبرز منتجاته الثقافية التي كان يجب تحييدها من المعركة، بامتلاك الجميع لها، لكي تكون هزيمته ممكنة.
منذ الثورات العربية، خسر الإسلام السياسي مكانته كتنين لا يمكن مجابهته ثقافيًّا وفكريًّا. كلما ورَّط الإسلاميون أنفسهم في معارك خطابية مع خصومهم كانت السخرية تزداد حدة، ولم تعد أسلحتهم الخطابية مثل اتهام الناس في دينهم لها نفس المفعول القديم، كما لم يعد التيار نفسه تيارًا فتِيًّا مُنتِجًا، بل أقرب إلى الشيخوخة.
كان آخر حراك ديني في مصر خلال أواخر سنين مبارك، حين فُتحت الفضائيات والمساجد للسلفيين، في ما رآه بعض المحللين خطةً من الدولة لمواجهة الهيمنة الإخوانية. ومن وقتها ظل الإسلاميون يحصدون نتاج هيمنتهم وانتصاراتهم القديمة، وينفقون من رأسمالهم الرمزي والمعنوي الذي راكموه لسنوات طويلة، وكانت الدهشة حين بددوا كل ذلك بسرعة رهيبة.
خلال ما يقرب من أربعة عقود، عاشت الدول العربية في حالة تمركز حول الدين، تراجعت الأحلام القومية لدول ما بعد الاستقلال وحلَّت مكانها أحلام يوتوبيا دينية، وشعارات التقدم والتحديث استُبدِل بها شعارات العودة إلى الدين وتطبيق الشريعة.
التيارات الإسلامية التي نشأت في السبعينيات لم تكن شبيهة بأي تيار سابق لها ولو بعقود، كي نفترض أنها تمثل «صحوة» له من نومه.
ببعض الاختزال، يمكن القول إن «الصحوة» كانت روح عصرٍ ما، لم تحدث متزامنةً بشكل كامل في الدول العربية، وإن كانت قريبة زمنيًّا من بعضها بعضًا.
فمثلًا في مصر، يؤَرَّخ للصحوة الإسلامية برحيل عبد الناصر ومجيء السادات، ومحاربته للجناح اليساري الناصري في الدولة لصالح جناح أكثر يمينيةً ومحافَظَة كان مستعدًا للتفاهم مع الإسلاميين ضد اليساريين، الذين كانوا أقرب إلى المزاج الناصري ومدافعين ضمنيًّا عن تِركة عبدالناصر، على الأقل على مستوى السياسات الاقتصادية والقومية.
خرج الإخوان من السجون، وانتشرت الجماعات الإسلامية في الجامعات، وتكونت عشرات الجماعات الإسلامية التكفيرية والمعتدلة والمسلحة، واندمجت أغلب الحركة الإسلامية الجامعية في جماعة الإخوان، وكوَّن الباقي «الجماعة الإسلامية»، التي أصبحت اسمًا لجماعة محددة أكثر عنفًا، وانتهجت سبيل الخروج المسلح ضد الدولة، ثم انهزمت بشكل كامل بعد ذلك.
في السعودية مثلًا، التأريخ مختلف قليلًا، فعادةً ما تُربَط «الصحوة» بحادثة جهيمان العتيبي، واحتلاله الحرم وإعلانه وجود المهدي المنتظر. الاحتلال هذا انتهى بإعدامه ومن معه جميعًا بعد ذلك، لكنه أربك الحكم هناك، وقطع الطريق على أي إصلاحات عصرية كانت المملكة في الطريق إليها، لصالح نشأة تيار ديني متشدد ومسيَّس سيَمُر بتقلبات عنيفة مع السلطة.
«الصحوة» مصطلح مفضل للإسلاميين غالبًا، فهو يفترض وجود هُوية ثابتة للشعوب، تم «تنويمها» عمدًا وبالقهر من قِبل السلطات، قبل أن تستيقظ لتطالب بما كان لها من الأصل، وهو لذلك مصطلح غير دقيق، فالتيارات الإسلامية التي نشأت في سبعينيات القرن العشرين لم تكن شبيهة بأي تيار سابق لها ولو بعقود كي نفترض أنها تمثل صحوة له من نومه.
كانت الدولة تُسايِر الإسلاميين حتى يُبدون تهديدًا وجوديًّا لها، حينها تبدأ ضربهم بقسوة.
كانت تلك تيارات جديدة تمامًا، وحتى الفروق في جماعة مثل الإخوان، بين نشأتها الأولى على يد حسن البنا ونشأتها الثانية في السبعينيات، تبدو أكبر من مجرد إحالة الثانية إلى الأولى. الثانية أكثر تبلورًا وحدةً في موقفها من الدولة، بينما الأولى كانت تتخبط بين «ميراثها السُّني» الذي يعترف بالمَلك كنظام شرعي، وحداثتها التي تمنح لـ«الأفندية» حق التطلع إلى السلطة لتطبيق أفكارهم.
لأربعة عقود، كان الإسلام هو الحوار المستمر في السياسة والاقتصاد والمجتمع بل والرياضة والعلوم، أيًّا كان الموضوع محل النقاش، فالإسلام كان المدخل، ومحل الشرعية لأي فكرة، والناقض لأي فكرة لا تتمكن من أن تمنح نفسها تبريرًا دينيًّا واضحًا.
بالطبع أصبح الإسلاميون أنفسهم محل انتباه واسع من معارضيهم قبل مؤيديهم، كل نقاش سياسي يبدأ وينتهي بنقاش هذه التيارات الجديدة، كل تفكير في الديمقراطية هو تفكير في موقعهم منها. أصبح المجال السياسي متمحورًا حولهم سلبًا وإيجابًا، وأصبح معارضوهم يُعرِّفون أنفسهم كمعارضين للإسلاميين أكثر من كونهم أصحاب فكر، ليبرالي أو يساري.
أصاب هذا التمحور الإسلاميين بالغرور والانتباه، وأصبحوا متيقنين أن أي انفتاح سياسي سينتج عنه بالضرورة انتصارهم الأبدي، ومن هذه الثقة بدؤوا تحليلهم للديمقراطية والليبرالية.
وفي مواجهة الإسلاميين، لم تبدُ الدول وكأنها كانت تمتلك طرحًا مغايرًا، فكانت تُسايِر الإسلاميين حتى اللحظة التي يُبدون فيها تهديدًا وجوديًّا لها، حينها تبدأ ضربهم بقسوة، ليكوِّنوا هم مظلومية جديدة يحتكرون بها المستقبل السياسي، بوصفهم الخصوم الأكثر نضالًا للأنظمة الحاكمة.
نحاول التفكير في هذا الملف في أثر الإسلاميين الأبقى واﻷكثر تجاوزًا لهزيمتهم السياسية، وفي ما تغير في المجتمعات بعد أربعة عقود من التمركز حول الدين.
سنستمر في إضافة موضوعات جديدة إلى هذا الملف خلال الشهر الحالي.