هذا الموضوع ضمن هاجس شهر أكتوبر «في مصنع خيال الطفل». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
عندما فكرت في الكتابة عن حكايات الرعب التي تُروى للأطفال، لم يستطع عقلي تجاوز الحكايات المرعبة المدفونة داخل ذاكرتي، التي هبَّت فجأة ليتجسد أبطالها من جديد في عقلي وأمام عينيَّ، كل حكايات الطفولة المرعبة التي بدأت ولم تنتهِ بداخلي حتى الآن، وما زلت أشعر بذلك الرعب الطفولي البدائي كلما ذكرتها.
أولى هذه الحكايات كان من زوجة خالي التي كانت تزورنا من وقت إلى آخر، وبعد العشاء تذكِّرني بـ«الشمَّامة»، التي ستأتي وتتشمم فمي، وتأكلني إذا لم يكن نظيفًا ولم تكن أسناني مغسولة بالفرشاة والمعجون. كنت طفلة في الرابعة أو الخامسة، وما زلت أذكر حتى الآن هلعي الذي كان يدفعني إلى غسل فمي وأسناني بسرعة، ثم الاندساس أسفل الأغطية خوفًا من الشمامة، التي رغم تنظيفي لأسناني دومًا، كنت أثق أنها ستأتي لتلتهمني.
الصورة المرعبة لتلك الشمامة تربعت داخل عقلي الطفل، حتى مع غسيلي المستمر لأسناني لم أستطع تجاوزها، لم أستطع منع نفسي من تغطية فمي قبل النوم حتى لا تستطيع الوصول إليه، كم من الليالي المرعبة مرت عليَّ دون أن أخبر أحدًا بمشاعري، وكم من الخوف كان ينفجر داخلي فقط عندما أعلم أن «طنط صباح» ستزورنا، وكأنها تحضر تلك الشمامة معها في حقيبتها.
الحكاية الثانية التي ما زالت رابضة في ذاكرتي منذ الطفولة هي حكاية «نادية المحروقة»، التي تروي قصة سيدة أشعلت في نفسها النيران في حمام منزلها، ثم خرجت وهي مشتعلة تجري في الشوارع، وخلال جريها سقطت منها فردة حذاء، لذلك فأي فردة حذاء قديمة ملقاة في الشارع بالتأكيد تخصها، وكلما كان الحذاء قذرًا وقديمًا، كانت احتمالات صلته بها أكبر.
حكاية نادية المحروقة كانت تحكيها لنا واحدة من الأقارب أيضًا أكبر سنًّا، كانت في الثانية عشرة تقريبًا، وكنا جميعًا أطفالًا لم نتخطَّ السادسة. عن طريق الحكايات المرعبة، التي كانت تحكيها في الظلام وبمؤثرات حركية وصوتية، كانت تفرض سطوتها علينا نحن الصغار، لنكون طوعًا لها، نعطيها من أكياس الحلوى التي تخصنا، أو لا نخبر الكبار عن تسللها للعب في الخارج، أو حتى لمجرد مراقبة ملامح الخوف والرعب على وجوهنا.
ربما يمكننا أن نفهم منطق تلك المراهِقة الصغيرة، التي كانت تتلذذ ببث الرعب في نفوس الصغار كنوع من الابتزاز، لتحصل على مكتسبات طفولية أكثر، حتى لو لم نقبل ذلك المنطق، لكن التساؤل الذي يفرض نفسه بقوة هنا يخص الكبار (الآباء، الأمهات، الجدات، الجارات المسنات، إلخ): لماذا يحكي هؤلاء قصصًا مرعبة للأطفال؟
حكايات مرعبة كي ننصاع للأوامر
تفسر نظرية سيغموند فرويد حب الأطفال للحكايات المرعبة، إذ يقول إن الإنسان توجد داخله غرائز عدوانية ورغبة دائمة وبدائية في العنف.
اعتدنا منذ زمن طويل تلك الحكايات، التي تعتمد بشكل أساسي على تخويف الأطفال، إما للتخلي عن سلوك سيئ أو للانصياع للأوامر بشكل عام.
التخويف إذًا وسيلة للسيطرة على الطفل، تقول الأم: «هيا لتذهب إلى النوم» ولا يذهب الصغير، فلا تجد وسيلة أخرى سوى الحكاية المرعبة، التي تجمع بين كونها حكاية، لا تحتاج إلى حركة، يمكنها أن ترويها وهي بجوار الطفل دون مجهود، بالإضافة إلى كونها ممتعة للطفل.
لكن الجدات والأمهات اخترن الحكايات المرعبة حتى لا تكون هناك فرصة للنهوض مجددًا، الظلام ووقت النوم وحكاية مرعبة، بالطبع لن يفكر الطفل في النهوض خارج مساحته الصغيرة الآمنة بجوار جدته أو أمه أو أيًّا كان الراوي، الذي يستغل فضول الطفل لمزيد من الأحداث المثيرة ليحكي له هذه الحكايات المرعبة، فينام الطفل وآخِر ما يذكره عقله هو ذلك الرعب المتجسد في الحكايات. وربما يطلب في الليلة التالية تكرار الحكاية المرعبة ذاتها، أو يطلب حكاية أكثر رعبًا.
هنا يجب أن نفكر: لماذا يجدد الأطفال طلب تلك الحكايات المرعبة، المتخمة بالدماء والجان والعفاريت، رغم توترهم وخوفهم خلال الحكي؟
مِن أقدم النظريات التي تفسر حب الأطفال بشكل خاص والإنسان بشكل عام للحكايات المرعبة، نظرية فرويد، التي توضح أن الإنسان بداخله غرائز عدوانية ورغبة دائمة وبدائية في العنف، اختفت بفعل المدنية التي أصبحت تجرِّم العنف وتجبر الإنسان على أن يكون أكثر تحضرًا، نفس الرغبة التي حفزت ظهور الرياضات العنيفة، التي تتلخص متعتها في الأذى الجسدي والعنف المتبادل بين اللاعبين.
هذه الرغبة البدائية مستمرة مع الإنسان منذ بداية وجوده على الأرض، فرضها شكل الحياة في هذه الحقبة العتيقة من الزمن، عندما كان يصارع الحيوانات من أجل البقاء، ويشعل النيران من أجل محاربة قوى الظلام، ويرسم على جدران وأسقف الكهوف ليواجه خوفه من الحيوانات.
كل هذه الأفعال لم تعد مناسبة ولا حاجة لها في زمننا الحالي، اختفت دون أن تختفي الرغبة البدائية في الصراع والخوف، بقيت مثل وحش كامن بحاجة إلى الإشباع، مثل الرغبات الجنسية غير المشبعة.
ولأن الأطفال في سنوات عمرهم الأولى هم الحالة الإنسانية الأقرب إلى الإنسان البدائي، بمشاعرهم غير المهذبة وأنانيتهم ونظرتهم الذاتية إلى الحياة، تلامست الحكايات المرعبة مع ذلك الجزء البدائي بداخلهم، بالإضافة إلى إشباعها لفضولهم الطفولي عن الظواهر التي لا يعرفون تفسيرها.
إذًا، الاستماع إلى الحكايات المرعبة، أو حتى مشاهدة أفلام الرعب، يشبه تمامًا محاولة الإشباع الجنسي الآمن دون تجربة جنسية حقيقية. يشرح «ستيفن كينغ»، كاتب روايات الرعب الشهير، أن حكايات الرعب تمثل بالفعل تفريغًا للرغبات والغرائز العدوانية بداخل الإنسان، مما يجعله أكثر اتساقًا وبعدًا عن العنف في الواقع، تمامًا مثل من يمارس العادة السرية لينظم رغبته الجنسية ويهذبها ويبتعد عن التحرش أو الاغتصاب.
عوضًا عن المرور بتجربة الإثارة والخوف الحقيقيين، يمكن اعتبار الحكايات المرعبة هي «الخوف الآمن»، الذي يعرِّض الإنسان لمشاعر الإثارة وهو في مكانه، بشكل يجعلها إثارة عقلية تستند في نهاية الأمر إلى حد يفصلها عن الرعب أو الخوف الفعلي.
الرعب في سبيل الدين
منذ زمن قديم لم تتوقف المخيلة الشعبية ولا بعض رجال الدين عن تضخيم الحكايات التي تخص عذاب القبر، وعذاب جهنم، وأهوال يوم القيامة، والمسيح الدجال، بكل ما تتضمنه تلك الحكايات من ثيمات مرعبة، مثل الثعبان الأقرع الذي يعذب تارك الصلاة، أو الكاذب الذي سيعلق من لسانه في حديد منصهر في جهنم، أو المسيح الدجال صاحب العين الواحدة التي تشبه حبة عنب متعفنة في منتصف الرأس.
لست بصدد تقييم صدق تلك الحكايات أو التشكيك فيها، لكني أتساءل عن جدوى حكي مثلها للأطفال، وعن كم الرعب الذي تتركه ينمو داخلهم، وهل من المناسب فعلًا أن تكون تلك الحكايات مدخلًا لتعليم الأطفال أساسيات وقواعد الدين؟
بعد حكاية جارتي عن المسيح الدجال رأيته في مخيلتي بهيئته الضخمة، لم أتخلص من رعب المشهد الذي زرعَتْه بداخلي بسبب المؤثرات التي تعمدتْ استعمالها.
أذكر في سنوات طفولتي أن إحدى الجارات حكت لي مشهد خروج المسيح الدجال من بركان ما، وكيف انشقت الأرض وأخرجته، لتنقسم بعدها إلى نصفين، نصف للمؤمنين ونصف للكفار الذين سيتبعونه.
لم تكن تحكي فقط، لكنها كانت تضع مؤثرات صوتية ومشهدية تمثيلية، لتُظهر هول المشهد لطفلة لم تتعدَّ السابعة، وهي تظن أنها بذلك تحثني على الصلاة أو فعل الخير، حتى أنجو من هذه الأهوال ومن هذا الرعب. لم تعرف أنها بحكاياتها غرزت الرعب بداخلي، حتى أني انهرت في البكاء خوفًا من الموت ومن أهوال يوم القيامة.
استمر الخوف معي لسنوات طويلة، ولم أتغلب عليه إلا بمحاولات جادة في القراءة والمعرفة وتكوين وجهة نظر شخصية، لكن للحق لم أتخلص تمامًا من رعب المشهد الذي زرعَتْه داخلي جارتي، وجسدت حكايتها كل المخاوف الطفولية الكامنة بداخلي من كل هذه الأساطير التي تتسرب إلى عقلي.
رأيت في مخيلتي الطريقان مرسومان أمامي، رأيت المسيح الدجال بهيئته الضخمة يتقدم مريديه، كل هذا بسبب المؤثرات المختلفة التي تعمدت استعمالها لتجعل تأثير حكايتها أعمق داخلي، دون أن أكون داخل المشهد بالفعل، وهو ما يقترب إلى حد كبير من «نظرية التطهير» التي طرحها أرسطو في كتابه «فن الشعر»، عن التراجيديا أو المسرح، والذي يمكن أن ينسحب على الحكاية أيضًا بشكل ما.
بمعنى أن الانفعالات والمشاعر التي يشعر بها المتلقي تحرره من مشاعر الخوف والعدوانية، تجعله يتخيل نفسه في موقف ما دون خوضٍ فعلي للتجربة.
اعتبر أرسطو «التطهير» غاية التراجيديا من حيث تأثيرها الطبي والتربوي على الإنسان، وربط بين التطهير والانفعال الناتج عن متابعة المصير المأساوي أو المرعب لأبطال الحكاية، ورأى أن المشاعر الناتجة عن مشاهدة العنف تشكِّل عملية تنقية وتفريغ لشحنة العنف الموجودة عند المتفرج، مما يصنع له التوازن في الحياة والتعاملات الإنسانية، ويهذب اختياراته الحياتية.
يمكن ملاحظة وجود تقارب بين نظرية فرويد ونظرية أرسطو، لكن تبقى كل من النظريتين، نظريات غير قائمة على التجريب، لذا لا يمكن اعتمادهما بشكل يقيني، ولا يمكن بالطبع تعميم إيجابية تأثيرهم.
علم النفس السلوكي الحديث
أسهمت حكاية عن دمية مرعبة في امتناع كثيرين عن شراء الدمى المحشوة، وتخلص بعضهم منها، خصوصًا الدمى الكبيرة.
تختلف مدرسة علم النفس السلوكي الحديث مع نظرية فرويد، ويعتقد السلوكيون أن الحكايات المرعبة والمخيفة تترك رواسب مخيفة في مخيلة الأطفال، حتى يصبح الخوف ملازمًا لهم، ويمنعهم في بعض الأوقات من التحرك بحرية إلا في وجود شخص آخر معهم، وربما تتغير عادات نوم الأطفال بعد هذه الحكايات ليصبح أكثر اضطرابًا، أو يصبح الطفل أكثر عدوانية، وقد يصل الأمر مع بعض الأطفال إلى مرض الوسواس القهري الذي يمنع الطفل من الحياة بحرية.
بعض حكايات الجن والعفاريت قد لا يستطيع الطفل التفريق بينها وبين الواقع، فيسيطر على خياله خوف مستمر، قد يتحول إلى خوف مزمن. بعض الحكايات المرعبة قد تلفت انتباه الطفل إلى أنواع مختلفة من الخوف لم يعرفها من قبل، وتصيبه بأنواع من الفوبيا (الخوف المرضي غير المنطقي)، مثل الحكاية التي اشتهرت في تسعينييات القرن الماضي عن دمية الدب الضخمة.
حُكي أن زوجًا أحضر لزوجته دمية كبيرة يقترب حجمها من طفل كبير، وفي إحدى المرات عند عودتهما إلى المنزل وجدا الدمية الكبيرة تطهو الطعام في المطبخ. أرجعت الحكاية ذلك إلى أن قطن حشو الدمية جاء من بقايا الأكفان، أو أسمال الميتين من المشرحة.
أسهمت تلك الحكاية، التي انتشرت بشكل كبير وقتها، في امتناع كثيرين عن شراء الدمى المحشوة، أو دفعهم إلى التخلص من بعضها، خصوصًا الكبيرة منها.
لا يمكن تجاهل دمى «Voodoo» في الثقافات الشعبية القديمة، أو حتى الدمى الورقية التي كانت تصنعها جداتنا، والتي ترتبط بالسحر والشعوذة، ويمكن حرقها أو ثقبها لإحداث أذى لشخص ما.
هنا نستطيع تتبع كل أنواع الخوف التي تبدو غير منطقية، لنجد لها أسبابًا منطقية في نهاية الأمر داخل اللاوعي الفردي للطفل، أو اللاوعي الجمعي للجماعة وثقافتها بشكل عام.
الخوف من المرايا
أصاب قناع فيلم «Scream» بناتي بالخوف الشديد فوضعناه في الدولاب، ومنذ هذا الوقت تخشى طفلتي الصغيرة الاقتراب من الدولاب حتى بعد أن تخلصنا من القناع.
هذا خوف مرضي قديم بسبب علاقة المرايا بقصص الأشباح والجن، أو بسبب اعتبارها مدخلًا إلى عالم غيبي لا يعرفه أحد، أو أن النظر إلى المرآة يؤدي إلى اتصال روحي مع عوالم غيبية، وهو ما قد يكون خوفًا متأصلًا بسبب الأساطير القديمة عن المرايا.
أسطورة «ماري الدموية» هي الحكاية المخيفة الأشهر عن المرآة، وأسهمت في الخوف من النظر إلى المرآة، خصوصًا في الظلام أو على ضوء الشموع، وكثير من الحكايات المرعبة تعتمد بشكل كامل على ثيمة المرآة.
أذكر عندما كنت في العاشرة أني قرأت حكاية عن مرآة تعكس صور الجان، ومن وقتها حتى الآن أخاف أن أطيل النظر إلى المرآة، وأخاف أن أنظر إليها بشكل مفاجئ، وأعرف بشكل شخصي سيدة تغطي المرايا في منزلها حتى لا ينظر أبناؤها إليها ويتلبسهم الجن.
عندما أصبحت أمًّا، بدأت في ملاحظة الخوف لدى الأطفال وكيف يتكون وتنبت بذرته الأولى داخلهم، عبر حدثين مر بهما أطفالي:
- اشترت ابنتي الكبرى ذات مرة قناع فيلم «Scream»، لكن ابنتيَّ الأصغر أصابهما خوف شديد من شكله، فوضعناه في الدولاب أمام الصغيرتين كي نطمئنهما إلى أنه لن يكون قريبًا منهما. منذ هذا الوقت وطفلتي الصغيرة تخشى الاقتراب من الدولاب، حتى بعد أن تخلصنا من القناع تمامًا أمامها، ووضعنا ألعابًا في الدولاب، ولم يتوقف خوفها من الدولاب حتى بعد مرور وقت طويل على الحدث.
- كان الوقت مساءً، وبينما تنتقل صغيرتي من غرفة إلى أخرى انقطع التيار الكهربائي وهي في غرفة بمفردها، فانتابها رعب كبير، ومن وقتها تخشى الجلوس بمفردها في أي غرفة حتى لا ينقطع التيار وهي وحيدة مجددًا.
إذًا، لا يمكن الجزم بتأثير حكايات الرعب في كل طفل، نتيجة الاختلافات الفردية من طفل إلى آخر. الحكايات التي قد تثير رعب الأطفال يمكن أن تكون محفزًا مثيرًا لآخرين، لاستكشاف مشاعر جديدة وخيالات أكثر اتساعًا، ومعرفة الجانب المظلم البدائي للإنسان.
ربما يكون هناك نوع من الدروس المفيدة التي يتعلمها الأطفال من الحكايات المرعبة، مثل عدم الحديث مع الغرباء، أو عدم المشي ليلًا في أماكن مظلمة، لكن يجب أن يكون هناك حدٌّ فاصل للحكاية المرعبة، يتوقف على هدف الحكي وحساسية الحكَّاء، التي تستشعر عمق الطفل واحتياجه اعتمادًا على سنه وخبراته الشخصية، إذ يكون بعض الأطفال أكثر تقبلًا لهذا النوع من الحكايات من أطفال آخرين، وهذا بالتحديد هو الخط الرقيق الذي يفصل المتعة عن الخوف.
يجب احترام خوف الطفل وعدم السخرية منه، وعدم إجباره على الاستماع إلى حكاية مرعبة لأي غرض آخر غير الاستمتاع، لأنه في حالة طغيان الخوف على الطفل، ستصير الحكاية تعذيبًا وليست متعة.