هذا الموضوع ضمن هاجس شهر ديسمبر «كيف تشكِّلنا الحرب؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
يمكن اعتبار الحروب والثورات بشكل عام أزمنة محورية بالنسبة إلى الفنون. وبعكس الشائع أن أزمنة الحروب تشهد تراجعًا للفنون، يمكن بملاحظة تاريخ الفن الحديث دحض هذا الاعتقاد.
تقول الكاتبة الأمريكية «سوزان سونتاغ» إننا «لا نستطيع أن نتخيل كم أن الحرب مخيفة ومرعبة، وكيف تصبح شيئًا عاديًّا. لا يمكننا أن نفهم، لا نستطيع التخيُّل».
ربما كانت مقولة سونتاغ تلك سابقة لزمننا الحالي، هذا الزمن الذي أصبحنا نعيش فيه حروبًا دائرة باستمرار، تجاوزت فكرة الحروب الإقليمية، إذ يمكن للحرب في سوريا أن تؤجج ثورة كبيرة داخل فنان من قارة أخرى، لكن لنتحدث في هذا السياق عن حروب بعينها أثرت تأثيرًا مباشرًا في فنون عالَمها.
غويا: اختراع لغة بصرية جديدة
بالعودة إلى بدايات القرن التاسع عشر، تحديدًا عام 1807 مع بداية الاحتلال الفرنسي لإسبانيا، كان الفنان الإسباني «فرانشيسكو دي غويا» من المرحبين بالمستعمر، اعتقادًا منه أن الفرنسيين حَمَلَة رايات التنوير، وأنهم سيخلصون البلاد من سيطرة الكنيسة والبلاط الملكي وسيادة محاكم التفتيش، التي تسيطر على تفاصيل حياة كل مواطن في إسبانيا.
لكن كما لكل حرب أو احتلال أو غزو مزاعم كاذبة، هناك أيضًا وقائع حقيقية تُظهر نية المستعمر الفعلية وبحثه عن المكاسب المادية أو الاقتصادية.
ففي عام 1808، حدثت انتفاضة شعبية في مدريد، هجمت بسببها القوات الفرنسية على الأهالي ودهستهم بالأحصنة وقتلتهم، لتصبح تلك الفترة من عمر إسبانيا مثالًا على الرعب والدمار والقتل، بالإضافة إلى المجاعات والأزمات الاقتصادية.
في سنوات الرعب والدمار بدأ غويا يراجع موقفه من المستعمر الفرنسي، فرسم الفظائع والجرائم الدموية في حق سكان إسبانيا بالكامل دون استثناء، وذلك في مجموعته الفنية من لوحات الحَفْر «العواقب القتالية لحروب إسبانيا الدامية مع بونابرت، وغيرها من الأهواء»، التي تُعَد تعبيرًا دقيقًا عن وحشية القتل والدماء وإعدام الأبرياء، وتمجيدًا لبشر عاديين ليسوا أبطالًا ولا عسكريين ولا حُكامًا ولا من البلاط الملكي.
يَعتبر مؤرخو الفن تلك المجموعة نوعًا من الاحتجاج المرئي ضد العنف، بعكس ما كان يرسمه غويا من قبل باعتباره فنانًا للبلاط الملكي الإسباني، أي أن اللوحات في الوقت الذي تمثل فيه فنًّا مضادًّا لفن البلاط الملكي، تمثل كذلك بشكل ما انعكاسًا للواقع دون تنميق، ويمكن اعتبارها أعمالًا ثورية متمردة، مقارنةً بالأعمال الفنية الكلاسيكية المتحفظة التي لا تخرج عن تقاليد البلاط والكنيسة.
بالحديث عن غويا، لا يمكن تجاهل الحركة الانطباعية التي يُعَد غويا من روادها الأوائل، تلك الحركة التي ظهرت بعد الثورة الفرنسية، وتخلى فنانوها عن كل تقاليد الفن الكلاسيكي، سواء في الخطوط والألوان أو حتى في موضوعات الرسم، التي أصبحت تتعلق بالحياة اليومية والمقاهي والبشر العاديين، بعيدًا عن فخامة القصور والبلاط وتعاليم الكنيسة.
التحرر الذي حدث للشعوب بعد تحريرهم من الملكية والسلطة الدينية، لازَمَتهُ رغبةٌ من الفنانين في التحرر الداخلي وبداية التعبير الشخصي في الفن التشكيلي الحديث، فقامت على الاهتمام بالانطباع الشخصي.
القرن العشرين: مسارات الفن الصاخبة
في القرن العشرين، تعددت المدارس الفنية وتوالت بسرعة تتناسب مع سرعة الحياة التي لم تكن هكذا من قبل، فاعتقد الفنانون أنهم جزء من مشروع أكبر لاختراع لغة بصرية جديدة للعالم الحديث.
بعد تراجع «الدادائية»، ظهرت السريالية واستمرت في الخروج عن القواعد، لكنها ارتكزت إلى نظريات التحليل النفسي.
اعتُبرت الحرب العالمية الأولى الوحيَ الأعظم بالنسبة إلى الفنانين الذين شاركوا فيها وتأثروا بها تأثرًا شخصيًّا، وحاولوا عن طريق الفن التعبير عن صراعهم الداخلي الذي تزامن مع الصراع الدائر على الأرض، مُحدثًا ذلك التحول من المقولة التي تعتبر الفن انعكاسًا للواقع، لتبدأ مرحلة جديدة مع ظهور الحركة «الدادائية»، التي نشأت كرد فعل للحروب والدمار الذي التهم البشر والحضارة والثقافة وكل المعاني السامية.
اقرأ أيضًا: «الدادائية»: الحركة الفنية التي تمردت على المنطق والمعنى
وُلدت الدادائية على أحد مقاهي زيورخ عام 1916، وهي الحركة التي لا تُعتبر اتجاهًا فنيًّا فحسب، بل أسلوبًا للتمرد على الواقع وقِيمه، وعلى النظام الاجتماعي والديني السائد، وعلى المجتمع البرجوازي وعاداته، وحتى التمرد على الخالق الذي يراقب الدمار دون تحرك، من وجهة نظرهم.
أصبحت الحركة رمزًا للتمرد والثورة، خصوصًا في إطارها الزمني الذي يتوازى مع حروب وثورة روسيا والحرب العالمية الأولى، وما تبعها من نشوء حركات ثورية في مختلف أنحاء أوروبا.
حاول الدادائيون هدم كل ما هو ثابت عن طريق التشويه والتخريب، وأنتجوا فنًّا ليس فقط بمفاهيم غير مسبوقة، بل بخامات غير مسبوقة، خامات مبتذلة قذرة، يمكن أن تراها داخل صناديق القمامة، وكانت تلك وسيلتهم للتمرد وقطع الصلة بكل ما هو سابق، كما يظهر من تبنيهم لشعار «ديكارت»، أبو الفلسفة الحديثة: «لا أريد أن أعرف أنه كان هناك رجال قبلي»، وكانت طبيعة الدادائية متسقة مع ما ساد العالم من شعور بالعبث وتبدد الأحلام والظلامية.
بعد تراجع الدادائية، ظهرت «السيريالية» أو ما فوق الواقعية. قامت على أنقاض الدادائية، واستمرت في الخروج عن القواعد، لكنها ارتكزت أكثر إلى نظريات التحليل النفسي التي فتحت مسارات جديدة من الوعي بالعقل البشري، استغلها السيرياليون لكشف الدوافع الشخصية لكل فنان، عن طريق تجاوز الواقع الفعلي وتمجيد الأحلام واللاوعي دون التقيد برقابة العقل والمنطق.
ذلك الهرب من الواقع أيضًا هو ابن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، الواقع الذي يموت فيه ملايين ليس حَرَيًّا بالتفاعل الفني.
وكأن ما لم يستطع الفنان تغييره في الواقع يحاول إنجازه في اللوحة، باعتبار اللوحة مساحة بيضاء للحياة، يخُط الفنان مسارها كما يريد، بخلاف ما كان يفعله من قبل باعتبار اللوحة انعكاسًا للواقع. أصبح لِوجهة نظر الفنان الأهمية الكبرى، إعلاءً لفرديته وشخصيته التي انتهكتها الحروب، وكأنه يقول: «أنا أيضًا يمكنني خلق حيوات وأفكار داخل اللوحة، أنا لست انعكاسًا لذلك الواقع الذي أناقضه ولكن لا يمكنني تغييره».
أدرك الفنانون في ذلك الوقت أن الفن يمكن أن يكون مبحثًا عن الذات، عن اليقين المفقود في السلطة والجماعة والإله، أرضًا حرة للتعبير عن التشكك والاحتراق الداخلي للفنان دون رقابة، لذا يمكن اعتبار الفن الحديث قائمًا على فكرة مضادة تمامًا للمدارس الفنية الكلاسيكية في الفن، التي كانت مجرد ذراع للسلطة الدينية أو السلطة الملكية.
هتلر: فنان فاشل وسارق لوحات
من أجل «تقويم» الذوق الألماني، جمع هتلر كل ما اعتبره متدهورًا في معرض أطلق عليه «معرض الفن المنحط»، ضمّ أكثر من 650 عمل فني.
بعد صعود النازية واجتياح أوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي، كان أحد أهم سماتها «سرقة الفن». نهب النازيون بشكل منظم أصولًا فنية من الدول الأوروبية منذ عام 1933 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
اللافت أن هتلر نفسه كان فنانًا غير ناجح، وهو مِن الذين رُفض قبولهم في أكاديمية فيينا للفنون الجميلة. ومع ذلك، فقد قال إنه يرى نفسه كشخص متذوق للفنون. وفي كتابه «كفاحي»، هاجم الفن الحديث بشراسة ووصفه بأنه «متدهور ومنحط»، بما في ذلك الفنون التكعيبية، والفنون المستقبلية، والدادائية، واعتبرها جميعًا نتاجًا منحطًّا لمجتمع القرن العشرين.
وعندما صار مستشار ألمانيا عام 1933، جعل هتلر الفن الرسمي والنموذج الجمالي الأعلى هو الطبيعية الكلاسيكية التي كتبها السادة القدماء، خصوصًا مَن هم من أصول جرمانية.
ولأجل «تقويم» الذوق الألماني، جمع كل ما اعتبره منحطًّا في مكان واحد، وأسماه «معرض الفن المنحط». ولأجل ذلك، صادر أكثر من 650 من المنحوتات واللوحات والمطبوعات والكتب من المتاحف الألمانية العامة، وأمر بترتيبها بشكل عشوائي لجعلها تبدو أقل جاذبية، وبأن يُكتب تحتها توضيحات تقلل من شأنها.
نقاد التاريخ الفني اعتبروا أنه أحد أهم المعارض الفنية في تاريخ الإنسانية، لكن مصير محتوياته كان الحرق أو البيع أو بيوت كبار الشخصيات النازية. بعد الحرب، جعل الحلفاء على رأس أولوياتهم استعادة تلك التحف الفنية، وهو ما كان، لكن كثيرًا من هذا المنجز الفني ما زال مفقودًا.
الغرافيتي: فن الواقع المضاد
بشكل أكثر قُربًا من واقعنا الحالي، يمكن ملاحظة الفن المضاد في الغرافيتي المصاحب لثورة 25 يناير المصرية، وكيف تطارده الدولة في كل الشوارع خوفًا من نزعته الثورية، في الوقت الذي تؤجِّج فيه الفن الذي يمجد السلطة وتوزع تماثيله ولوحاته في الميادين والمؤسسات، في عودة إلى الفن الجماعي الذي يتنافى مع فكرة الفردية الخاصة لكل فنان.
اقرأ أيضًا: غرافيتي الشارع التونسي: المقاومة على طريقة «مررنا من هنا»
يظهر الفن الثوري في الشوارع والميادين والأنفاق، بعكس ما كنا نرى سابقًا: حبيس القاعات الدولية الفاخرة الباردة. الفن الثوري المضاد مشتعل يحاول البحث عن مساراته الخاصة، في خِضَم الصراعات المتأججة، لذا تبدو العلاقة طردية بين الحروب والثورات وبين ازدهار الحركات الفنية بشكل عام، عندما يصبح الفن علاجًا وتعبيرًا عن أزمات الفنان الكبرى وصراعاته المستمرة مع السلطة بأشكالها كافة.