«الدادائية»: الحركة الفنية التي تمردت على المنطق والمعنى

عرض فني في ملهى «فولتير»، حيث نشأت «الدادائية» - الصورة: Adrian Michael

ندى حنان
نشر في 2017/03/16

هذا الموضوع ضمن ملف «الثورة والثوار». لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.


داخل أحد ملاهي مدينة زيورخ الليلية في سويسرا، وبينما كان عشرات الآلاف يُقتلون يوميًّا في معارك الحرب العالمية الأولى، نهض الشاعر والكاتب والمفكر الألماني «هوغو بال»، ووقف على المسرح أمام جماعة من الفنانين والكُتَّاب والسياسيين والمثقفين من شتى أنحاء أوروبا، ليلقي قصيدته الغريبة وغير المفهومة التي يقول مطلعها:

«غادجي بيري بيمبا

غلاندريدي لاولا لوني كادوري

غادياما غراما بريدا بيمبالا

غلاندري غالاساسا لاوليتالوميني».

اخترع «بال» قصائد بلا كلمات مفهومة عُرفت باسم «الشعر الصوتي»، كانت تقع على مسامع غير المُطَّلعين لتعرِّفهم بسِمات حركة «الدادائية»، التي غيرت مفهوم الفن وشكله لتحوِّله إلى كلام فارغ لا قيمة له.

وناقش مقال على موقع «The Telegraph» ماهيَّة «الدادائية»، كيف نشأت وإلى أين صارت، وأهمية تأثيرها في الفن بشكله الحالي.

فن اللا فن

قصيدة «هوغو بال» الغريبة

«دادا» (Dada) كلمة بسيطة متعددة الدلالات، يستخدمها الطفل الصغير خلال محاولاته الأولى للتكلُّم. لو كان ذلك الطفل ألمانيًّا فإن معناها كما يقصده هو الإشارة مرتين إلى شيء بعيد، أما لو كان يقضي طفولته في فرنسا فإنه يعني الحصان الخشبي الهزاز.

أما في سويسرا مطلع القرن العشرين، فإن «دادا» صارت ترمز إلى نمط فني جديد بعيد كلَّ البعد عن المنطقية التي انتهجتها المدرسة الواقعية في ذاك الوقت. اعتمدت «الدادائية» على الإشارات الاستفزازية لتحفيز عقل المتلقي، كما لجأت إلى التجريد، وسرعان ما تحولت إلى واحدة من أكثر الحركات تأثيرًا في الفن الحديث، رغم عمرها القصير الذي لم يستمر لأكثر من عشر سنوات.

الهروب من الحرب العالمية: نشأة «الدادائية»

عروض «الدادائية» الفنية في ملهى «فولتير»

رحَّب العديد من المثقفين والفنانين ببدء الحرب العالمية الأولى، ظنًّا منهم أنها ستُحدث تغييرًا في شكل المجتمع الأوروبي إلى الأفضل، وشاركهم هوغو بال الشعور نفسه، إذ رأى أنها ستنهي التفكير المادي الذي سيطر على المجتمع برُمَّته، وتفتح آفاقًا أرحب للثقافة.

لكن الشاعر الألماني ما لبث أن تخلى عن هذا الاقتناع حين زار خطوط الحرب الأمامية في بلجيكا، ورأى بنفسه المجزرة التي تحدث هناك، فكَرِهَ منذ تلك اللحظة طبيعة الفن السائد في أوروبا وقتها، لأنه اعتبره وجهًا آخر للثقافة المادية والعقلانية التي تسببت في نشوب الحرب.

فرَّ «بال» من الحرب إلى زيورخ برفقة حبيبته «إيمي هينينجس» مستعينًا بأوراق مزورة. كان مفلسًا تمامًا، فقرر أن يعزف البيانو في الملاهي الليلية حتى يجمع المال اللازم ليفتح ملهاهُ الخاص، «فولتير»، الذي ستولَد فيه «الدادا» لاحقًا.

في ليلة افتتاح الملهى، التقى هوغو بال الشابَّ الروماني «تريستان سارا» (Tristan Tzara)، الذي كان طالب فلسفة، وسرعان ما ترك دراسته لينضم إلى «الدادا» ويُسهم في تحويلها إلى حركة فنية، إذ اشترك في طباعة الملصقات والمجلات وأرسلها إلى الفنانين في أرجاء أوروبا، فأخذت الحركة دفعةً قوية خارج وطنها الأم.

أُقيمت أول أمسية رسمية للـ«دادائية» في الرابع عشر من يوليو عام 1916، وفيها قرأ «بال» البيان الرسمي للحركة على الملأ، ثم سافر خارج زيورخ ومات بعدها بسنوات، عام 1927، في ظروف غامضة.

ظهرت «الدادا» من جديد في ألمانيا لكن بصبغة سياسية، كما نقلها تريستان سارا إلى باريس، لتخرج منها الحركة السريالية في بداية القرن العشرين.

اقرأ أيضًا: كيف تشَارَك الفنانون والثوريون في إطلاق «السريالية»؟

جاء مؤسسو «الدادا» من بلدان مختلفة، لكنهم اشتركوا في التمرد على عقلانية الفن.

وحتى اليوم، نتذكر «الدادائية» باعتبارها الحركة الفنية التي رفضت العقلانية المُغالَى فيها للحضارة الغربية، ورأتها سببًا للدمار الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى.

كان معتنقو فِكر «الدادا» يحاربون ضد فكرة أن الحياة تُعرف بالعقلانية والعلم، وأن شخصياتنا تحددها القوى الاقتصادية، واعتبروا الحرب العالمية الأولى ذروة هذه الحِقبة من العقلانية، بحسب تعبير «أدريان نوتز»، المسؤول عن إدارة ملهى «فولتير» الآن.

ينبوع الفن الذي لم يكن سوى «مَبْوَلة»

العمل الفني "الينبوع" لمارسيل دوشام
العمل الفني «الينبوع» لـ«مارسيل دوشام» - الصورة:  Alfred Stieglitz

يُعتبر «مارسيل دوشام» أحد أشهر معتنقي «الدادائية»، وهو الفنان الفرنسي الذي وضع توقيعًا ساخرًا على «مَبْوَلة» ثم عرضها كعمل فني أسماه «الينبوع»، ويعتبره بعض النقاد أحد أهم فناني القرن العشرين.

كان دوشام هاربًا من الحرب الدائرة في بلاده إلى نيويورك عندما تفتَّحت «الدادا» في زيورخ، لكنه حمَلَ خلال فراره من الحرب نفس النزعة المضادة للعقلانية.

قد يهمك أيضًا: عندما تخلق الحرب فنًّا: موسيقى الروك في فيتنام نموذجًا

كان عرض «مَبْوَلة» في متحف منطقيًّا عند جيل سَئِم المُثُل العليا الغربية وما آلت إليه من عنف.

جاء مؤسسو حركة «الدادا» من بلدان مختلفة، لكنهم اشتركوا في التمرد على ما رأوه عقلانيةً مفرطة أصابت الفن، وتحول هذا التمرد إلى منبع لحركات فنية كثيرة ومؤثرة. كان ما يحركهم هو المفهوم الذي ذكره هوغو بال في قوله: «لنذكِّر العالم بأن هناك أشخاصًا ذوي عقول مستقلة، لا تسيطر عليها الحرب أو القومية، يعيشون لأجل مبادئ مختلفة ».

انبثقت العديد من الحركات الفنية من «الدادائية»، فلولاها لما ظهر الفن السريالي، والفن المفاهيمي (Conceptual Art)، وفن البوب آرت (Pop Art)، ولاختلفت صورة الفن كثيرًا عما هي عليه اليوم.

قد يرى معظمنا أن عرض «مَبْوَلة» في متحف شيء سخيف على أقل تقدير، لكنه كان منطقيًّا تمامًا بالنسبة إلى جيل أوروبي سَئِم المُثُل العليا الغربية وما آلت إليه في ذاك الوقت من عنف وتدمير، ووجد التعبير الأمثل عن هذا السَّأَم في التمرد على العقل نفسه.

مواضيع مشابهة