غرافيتي الشارع التونسي: المقاومة على طريقة «مررنا من هنا»

الصورة: eL Seed

ضياء بوسالمي
نشر في 2017/08/24

تضم فنون الشارع مجموعة أنشطة يؤديها شباب من مختلف التوجهات. ولعل الغرافيتي أبرز التعبيرات الفنية التي يستولي من خلالها الفنان، رمزيًّا، على الفضاء العام. الغرافيتي فن تجسيد الرسوم على الجدران ووسائل النقل، وهو وليد حركة تحررية بدأت في أمريكا منذ ستينيات القرن الماضي. ومع الثورة التونسية، ازدهرت ثقافة الهيب هوب وتزايد الرسومات في أركان المدينة، وتحول هذا الفن إلى وسيلة لمقاومة السلطة ونقدها وتسليط الضوء على عيوب المجتمع.

الغرافيتي والمدينة

لوحات فناني الغرافيتي في باب سعدون بتونس

يقول الكاتب والصحفي التونسي توفيق بن بريك إن تونس كانت، قبل الثورة، تتلخص في قوات الأمن مركز الحزب الحاكم والمحاكم. ويبدو أن هذا التعريف لم يعد صالحًا بعد هبوب رياح ثورة 14 يناير، فقد انتشرت مجموعة من التعبيرات الفنية أهمها الغرافيتي، الذي أضفى على المدينة بعدًا جماليًّا غير معتاد، وأعطاها رونقًا خاصًّا بها.

في الأنفاق والمحطات وعلى خلفيات الحافلات، يترك الشباب بصمتهم بواسطة الغرافيتي، كأنهم يصيحون: «مررنا من هنا».

عمدت مجموعة من الشباب المولع بهذا الفن إلى تغيير الجدران برسومهم، التي كانت ممنوعة في الماضي وغير معتادة في المشهد التونسي. ألوان، أشكال، شعارات تحتل أماكن عمومية ووسائل نقل وإشارات مرور.

تحول فن الغرافيتي إلى وسيلة تواصل بين المواطن وأجزاء مدينته بتفاصيلها. فهذه الأعمال تسلط الضوء على البعد المخفي من المدينة، ليختلط الهامشي بالمركزي وضوضائه في لوحة فنية قد تَظهر، للوهلة الأولى، غير متناسقة، لكنها تستدعي المتلقي نحو مزيد من التعمق فيها، بل والتعايش معها، بما أنها تظل راسخة وغير قابلة للزوال.

في الأنفاق والمحطات وعلى خلفيات الحافلات، يترك الشباب بصمتهم بواسطة الغرافيتي، كأنهم يصيحون: «مررنا من هنا»، وقد نجحوا في لفت الانتباه إلى الثورة وتفاصيلها، وأكدوا أنهم إضافة إلى البُعد الجمالي، فهم مهتمين كذلك بالعلاقة بينهم وبين جدران المدينة، التي تتحول من مجرد بنايات صامتة مخيفة إلى لوحات فنية صاخبة بالحياة، تبث نفسًا جديدًا في المدينة وتؤثر إيجابيًّا على نفسية المواطن.

قد يهمك أيضًا: نزهة في مفهوم الموهبة

الجدران تقاوم بالألوان

الصورة: Ali Garboussi

كان الغرافيتي منبوذًا وغير محبَّذ من أغلب التونسيين، وذلك عائد أساسًا إلى الصورة النمطية التي رسختها السلطة في الأذهان، فقد كانت قوات الأمن تطارد كل من يرسم على الجدران أو في أي مكان عمومي.

بعد الثورة تغيرت الأوضاع، ولم يعد لفن الغرافيتي ذلك البعد الجمالي فقط، وخرج من الدائرة الضيقة التي كان سجينها قبل الثورة، والتي تقتصر على الشعارات المرتبطة بفرق كرة القدم وغيرها.

أبرز مجموعة رسم غرافيتي ظهرت في تونس بعد الثورة هي «أهل الكهف».

أصبح هذا الفن وسيلة مقاومة، وهو في الحقيقة تجسيد لقول الفيلسوف الفرنسي «جيل دولوز»، الذي كان يرى أن العمل الفني هو، قبل كل شيء، وسيلة للمقاومة.

في هذا السياق، وجدت مجموعة من الشباب الممارسين لهذا الفن أنفسهم، لا شعوريًّا، في خِضَمِّ حراك ثوري وصراع سياسي طغى على البلاد، فوجَّه رسومهم وأعمالهم لتصبح مرآة عاكسة لمطالب أبناء جيلهم، فترى مثلًا شعارًا كبيرًا في وسط المدينة «كل رجال الشرطة أنذال»، أو صورة لأحد رموز النظام القديم مع مقولة لفيلسوف عن طغيان السلطة وجبروتها.

المتمعن في هذه الأعمال وفي تموضعها في سياق الحراك الثوري التونسي يفهم أن راديكالية الجداريات كانت مستلهَمة من قوة التحركات الاحتجاجية، التي جاءت كرد فعل على تجاوزات أصحاب السلطة. لقد آمن فنانو الغرافيتي أن مهمتهم تجاوزت ذلك البعد الجمالي الإبداعي لتتحول إلى صوت الثورة وشبابها، فتحول الغرافيتي بهذه الطريقة بألوانه وأشكاله إلى وسيلة للتعبير عن المواقف السياسية.

لعل أبرز مجموعة لرسم الغرافيتي ظهرت بعد الثورة هي «أهل الكهف»، التي تضم شبابًا مبدعين ومولعين بهذا الفن. تأتي رمزية اسم المجموعة من الإشارة الى أن الغرافيتي كفن كان في حالة سبات طويلة، ولم يشهد صحوته الحقيقية سوى مع الثورة.

تُقسَّم العمليات والتحضيرات والأدوار كلٌّ حسب اختصاصه: مجموعة تحدد المكان، مجموعة تبتاع المواد اللازمة، إلخ، ويكون العمل جماعيًّا بهدف تجسيد الفكرة المتفق عليها.

قد يعجبك أيضًا: رشدي بلقاسمي: الراقص التونسي الثائر

السلطة.. العدو الأزلي

لماذا تُلاحَق مجموعة «زواولة» للغرافيتي قضائيًّا؟

تكتسب الحركة الثورية في تونس، خصوصًا الشباب المهتم بإيصال صوته عبر الغرافيتي، طابعًا أناركيًّا يرفض كل سلطة ولا يريد أن يكون مؤطَّرًا ضمن دوائر ضيقة. هاهُنا، يمكن استنتاج أن سبب الصراع الأزلي مع السلطة عمومًا هو هذا الحصار الذي تفرضه البلديات على فناني الغرافيتي، عن طريق إزالة أعمالهم التي سهروا على إنجازها بشغف.

أثار الغرافيتي مجموعة من المسائل المهمة، على رأسها علاقة الفرد بالفضاء العام، والحدود المفروضة التي لا يجب تجاوزها.

يفهم الشباب إزالة أعمالهم الفنية على أنه إعلان عداء ومصادرة لحرياتهم، ويرون أن الحراك والمسار الثوري أفرز مجموعة من الآليات التعبيرية الجديدة التي لا يمكن مصادرتها أو منعها وإن خالفت القوانين، رغم أن الغرافيتي جديد في تونس، ولم يظهر سوى منذ سنوات معدودة فقط.

يمارس فنانو الغرافيتي عملهم بشكل أساسي في الفضاء العام، لذلك يكونون في صراع مباشر مع قوات الأمن، وفي حالة كر وفر طَوَال الوقت، فمجموعة «زواولة» (فقراء باللهجة التونسية) أُلقي القبض على أعضائها عام 2013 بتهمة المس بالنظام العام.

اقرأ أيضًا: الإجابة تونس؟ نعم.. ربما.. ليس دائمًا

أثار فن الغرافيتي مجموعة من المسائل المهمة، على رأسها علاقة الفرد بالفضاء العام، والحدود المفروضة التي لا يجب تجاوزها، ومن يضبط تلك الحدود. وبهذا، أصبح الغرافيتي وسيلة لإعادة تعريف مجموعة من المفاهيم التي طالما كانت جامدة وغير قابلة للتغيير.

مستقبل غرافيتي تونس: نحو العالمية

غرافيتي من رسم مجموعة «أهل الكهف»

بإعادة احتلال الفضاء العام بمجموعة من أجمل اللوحات والرسومات في العالم، خرج فنانو الغرافيتي إلى العلن وواجهوا وتحدوا السلطة مستغلين الزخم الثوري في البلاد، الذي ساعدهم في لفت الانتباه وتركيز وسائل الإعلام العالمية على هذه الحركة الاحتجاجية الناشئة في تونس.

يدافع فنانو الغرافيتي عن حريتهم في ممارسة فنهم بعيدًا عن كل الضغوط، ويؤكدون في كل مرة ضرورة أن يكون الاحتجاج سلميًّا خاليًا من العنف. فعبر رسومهم وألوانهم، صاروا يسعون إلى تمثيل الثورة والشباب في المعارض الدولية، وهو ما يُسهم في إعطاء صورة مثالية عن الشباب التونسي المبدع.

كان فن الغرافيتي وليد حراك ثوري قاده إلى التحول لفن مقاوم ومسيَّس بامتياز، ففنانو الغرافيتي يتشكلون في مجموعات ويساندون سجناء الرأي وينادون بحرية التعبير. تحول الغرافيتي إلى وسيلة للتأريخ لفترة حاسمة من تاريخ البلاد التونسية، بتخليد المحطات الحاسمة على جدران المدن وجسورها.

مواضيع مشابهة