تزامنًا مع انتهاء فترة رئاسته، أجرت صحيفة نيويورك تايمز حوارًا مع الرئيس الأمريكي السابق «باراك أوباما»، تحدث فيه بتأمُّل عن الدور الذي لعبته القراءة في رئاسته وحياته بشكل عام، مشيرًا إلى أهميتها في حثِّه على التأني والنظر إلى الأشياء من زوايا مختلفة، وعلى أن يضع نفسه موضع الآخرين، خصوصًا عندما تمضي الأحداث بسرعة شديدة ويكون الإلمام بالمعلومات صعبًا.
وذكر أوباما أيضًا أنه يحب روايات الأديب الكولومبي «غابرييل غارسيا ماركيز» (Gabriel García Márquez)، وكاتب الخيال العلمي الصيني «ليو تسي شين» (Liu Cixin)، بالإضافة إلى كتابات الرئيس الأمريكي الأسبق «لينكولن» (Abraham Lincoln)، و«غاندي» و«مانديلا» و«مارتن لوثر كينغ» (Martin Luther King).
أوباما كاتب جميل ذو صوت جليٍّ رنان، تلوح في كلماته القدرة على التعبير عن أحاسيس الطموح والشك في الذات.
من المنطقي إذًا أن يكون لاطِّلاع الرئيس الخارج من البيت الأبيض أثر كبير في حياته وقدرته على طرح أفكاره ورؤيته في كتابته، لكن في موضوعها على موقع (Brain Pickings)، تُلقي الكاتبة «ماريا بوبوفا» (Maria Popova) الضوء على عنصر آخر كان له أثر أكبر في حياة أوباما؛ هو علاقته بأمه، وكيف استطاع التعبير عنها كتابةً.
اقرأ أيضًا: ربما يصبح العالم أكثر سلامًا تحت حكم المجانين
لم يكن أول رئيس أسود لأمريكا فقط
تحكي الكاتبة أن أوباما لم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره بعد عندما اختير رئيسًا لتحرير الجريدة الفصليَّة لجامعة هارفارد للقانون (Harvard Law Review) في عام 1990، وتشير إلى أنه كان أول أمريكي من أصل إفريقي يشغل المنصب، وكان عمله في الكتابة والتحرير مميزًا لدرجة أنه جذب انتباه جريدة نيويورك تايمز، التي عرضت عليه أن يُصدر كتابًا لحسابها، وهكذا بدأ أوباما الكتابة عن الفجوة بين الأعراق المختلفة، والهوية، ووثبات تقدُّم الإنسان عبر الزمن، وصدام الحضارات.
تحول ما كتبه أوباما فيما بعد إلى كتابه «أحلام من أبي» (Dreams from My Father)، الذي صدر في عام 1995، وتصف الكاتبة أوباما بعد قراءته بأنه كاتب جميل ذو صوت جليٍّ رنان، تلوح في كلماته القدرة على التعبير عن أحاسيس الطموح والشك في الذات، التي يعرفها الكُتَّاب وتعتمل في أنفسهم بقوة أكبر في شبابهم.
وتُدلِّل كاتبة الموضوع على هذا بمقطع من الكتاب يقول فيه أوباما: «كجميع من يجربون التأليف للمرة الأولى، ملأني خليط من الأمل واليأس في آنٍ واحد عندما نُشر الكتاب؛ الأمل في أن يتجاوز نجاح الكتاب أحلامي ككاتب شاب، واليأس لاعتقادي أني أخفقت في أن أقول شيئًا يستحق القول».
لكن الاهتمام الأوسع بكتابة أوباما لم يبدأ حقًّا حتى ظهر في المشهد السياسي، ونذكر هنا أن الكتاب لم يترجَم إلى أغلب اللغات، ومنها العربية، إلا بعد انتخابه لرئاسة أمريكا بالفعل.
تقول الكاتبة إن لـ«ستانلي آن أوباما» (Stanley Ann Obama) حضورًا كبيرًا في الكتاب، رغم أن عنوانه يشير إلى أبيه، لكنها لم تعش للأسف لتشهد نجاح ابنها، فبعد أشهر قليلة من صدور الكتاب تُوفِّيت بالسرطان.
قد يعجبك أيضًا: اقتراحات الويك إند: 6 أفلام عن السرطان.. لأنه لا يأخذ عطلة في نهاية الأسبوع
علمته قوة الحب
كانت أم أوباما مَن علمته قوة الحب، ليس فقط في عالم العلاقات المتشابكة الذي تفرضه السياسة، والبناء على تجربة «مارتن لوثر كينغ» في الحب، بل أيضًا من الناحية الأكثر حميمية لاختيار فردين أن يمضيا ما تبقى لهما من الحياة معًا، واستمرارهما في تجديد هذا الاختيار طيلة العمر مع كل ما يصيبهما من خير أو شر.
تضرب الكاتبة مثلًا على ما علمته أم أوباما إياه عن الحب، فتقتبس من كتابه جزءًا يحكي فيه ما روته له أمه عن بداية علاقتها بأبيه:
تنهَّدت أمي ممرِّرةً يدها في شعرها، وقالت: «كنتُ أصغر منك الآن، وكان هو يكبرني ببضعة أعوام»، ثم توقفت وضحكت لنفسها، قبل أن تتابع: «هل قلتُ لك من قبل إنه تأخر على موعدنا الأول؟ كان قد طلب مني أن أقابله أمام مكتبة الجامعة في الساعة الواحدة، وحين وصلتُ لم يكن قد جاء بعد، ففكرت أن أمهله دقائق قليلة إضافية. كان الجوُّ صحوًا يومها، فتمددت على أحد المقاعد، وسرعان ما غبت في النوم. ثم، بعد ساعة، ساعة كاملة، ظهر أبوك مع اثنين من أصدقائه، واستيقظت لأجد ثلاثتهم واقفين أمامي، وسمعت أباك يقول بمنتهى الجدية: «قلتُ إنها فتاة رائعة، وإنها ستنتظرني».
وتأمَّل في الحكاية
تقول الكاتبة إن الحكاية تنطوي على تأملات في معنى الزمن، وكيف أن تجربة الإنسان واحدة في كل مكان، وتراها دليلًا على أن الحب الحقيقي لا يتَّسم بالمثالية، لكنه غير مشروط دائمًا، ثم تعاود الاستشهاد بكلام أوباما نفسه وما جال بباله إثر سماعه هذه الحكاية:
كانت أمي تشعر بالإطراء من اهتمام أبي بها، لكنها كانت حائرة وحيدة كذلك، وتحاول التحرر من قبضة الحياة التي فرضها عليها أبواها.
ضحكتْ أمي ثانية، ومرة أخرى رأيتُ فيها الطفلة التي كانتها في ذلك الحين، غير أني رأيت شيئًا آخر هذه المرة؛ ففي ابتسامتها وملامح وجهها المرتبكة بعض الشيء لمحتُ ما يجب أن يراه كل طفل في مرحلة ما إذا أراد أن ينضج؛ حياة أبويه إذ تنكشف له منفصلةً مستقلة، تتجاوز اقترانهما ومولد أطفالهما، تنبسط صفحاتها المطوية لتفصح عن تاريخ من الأجداد والأسلاف، وعن عدد لا نهائي من اللقاءات التي تمت مصادفة، وسوء الفهم، والآمال، والظروف المحدودة.
كانت أمي تشعر بالإطراء من اهتمام أبي بها، لكنها كانت حائرة وحيدة كذلك، وتحاول التحرر من قبضة الحياة التي فرضها عليها أبواها. ما سمعتُه من أمي يومها عن أبي كان حبًّا يحسُّه شخص عرف الحياة حقَّ المعرفة، حبًّا لا تُطفئه خيبة الأمل. لقد كانت ترى أبي كما يأمل كل واحد منا أن يراه ولو شخص واحد، وحاولتْ أن تجعل طفله الذي لم يعرفه قَط يراه مثلها. هذه النظرة على وجهها هي ما تذكرته بعد أشهر قليلة، حين اتصلتُ بها لأخبرها بوفاة أبي، فسمعتُ بكاءها.
طبَّق ما تعلمه مع زوجته
التقى أوباما شريكة حياته «ميشيل» (Michelle LaVaughn Robinson) للمرة الأولى في الصيف الذي بدأ فيه وضع مسوَّدة كتابه، وبعد مرور ثلاث سنوات تزوجا، وبدأ أوباما يستعيد ما علمته أمه إياه عن الحب.
ميشيل امرأة ذات شخصية قوية للغاية، لكن أوباما رغم ذلك يستطيع أن يرى في عينيها لمحة من الهشاشة.
تحكي الكاتبة عن زيارة المصورة «ماريانا كوك» (Mariana Cook) الزوجين في منزلهما في شيكاغو عام 1998، حين كان أوباما لا يزال حائرًا في الاختيار بين احتراف السياسة أم الكتابة. وأجرت «كوك» حوارًا قصيرًا مع من سيصبحان رئيس الولايات المتحدة وسيدتها الأولى، وفيه تحدث أوباما عن زوجته مؤكدًا أن قوة علاقتهما تكمن في أنه سعيد للغاية معها، وجزء من هذا أنه يعرفها لأقصى حد، ويستطيع أن يكون نفسه تمامًا معها، ويثق فيها بالكامل، لكنها في الآن ذاته تظل قادرة على إدهاشه.
يتجلَّى هنا ما تعلمه أوباما من أمه عن الحب في علاقته بميشيل، حين قال عنها إنها ذات شخصية قوية للغاية، وكذلك إحساسها بنفسها وبهويتها، ورغم ذلك يستطيع أن يرى في عينيها لمحة من الهشاشة لا يلاحظها أغلب الناس؛ لأن العالم لا يرى من هذه المرأة الجميلة الواثقة من نفسها غير جانبها القوي، لكن جزءًا ما في أعماقها يظل هشًّا وصغيرًا، وفي بعض الأحيان خائفًا، ورؤيته هذين الجانبين معًا في ميشيل هو ما جذبه إليها.
وتؤكد الكاتبة أن تجربة قراءة «أحلام من أبي» ممتعة ككل، وتختتم كلامها باقتباس آخر من الكتاب، يقول فيه أوباما:
«لعل أي حب يبدأ هكذا؛ بقوى دافعة غامضة وصور ضبابية تتيح لنا أن نهدم جدران العزلة، وإذا كنا محظوظين، سيتحول هذا الضباب عندئذ إلى شيء أصلب».
قد يهمك أيضًا: لماذا يصعب على جيل الألفية العثور على شريك الحياة؟