في عام 1982، حكى المخرج الياباني «أكيرا كوروساوا» في كتابه «ما يشبه السيرة الذاتية» عن ذكراه الأولى على الإطلاق، عندما انقلب به حوض المياه وأمه تستعد لكي تحمِّمه.
وعلى الرغم من أن تلك الذكرى تعود إلى السنة الأولى من عمره، فإن كوروساوا أكَّد أنه لا يزال يتذكر «مشاعر» تجربة انقلاب الحوض به: رهبة طيرانه والبلل الذي طال أثاث الحجرة، ثم إظلام الحوض من حوله، وهلع أمه وخوفها من أن يكون قد أصابه مكروه، وسطوع النور فجأة من مصباح الكيروسين المعلَّق فوق رأسه.
«لا أعرف لماذا تأرجحتُ عندما حدَّقت أمي إلى وجهي، وأطلَّت من خلفها وجوه كثيرة».
‒ كوروساوا في سيرته الذاتية
بعد ثماني سنوات من البوح بتلك الذكرى، قدم كوروساوا للجمهور ذكرى ثانية، آتية من عقله الباطن هذه المرة، يحكي فيها عن أمٍّ أكثر صلابة، تغلق بوابة البيت في وجه ابنها ذي الأعوام السبعة، لأنه أصبح الآن يعرف أكثر مما ينبغي. يصدِّر كوروساوا تلك الذكرى في افتتاحية فيلمه «Dreams» عام 1990، ليمهد لنا الطريق لمطالعة سيرة أكثر التباسًا وخصوصية من مذكراته.
أن تروي مذكراتك أمر، وأن تحكي أحلامك أمر آخَر؛ الأخير يفصح عادةً عمَّا لا نحبِّذ الإفصاح عنه، ما تواريه نفوسنا وتُؤثِر دفنه عميقًا في طيَّات العقل.
لعل هذا هو ما يُكسب فيلم «Dreams» هذه الأهمية، فقد لا يكون أفضل أعمال المخرج صاحب «Rashomon» و«Seven Samurai»، المعروف بكونه أول من عَبَر بالسينما اليابانية إلى حدود العالم، لكنه بالتأكيد الفيلم الأكثر خصوصية والأكثر تماسًّا معه.
في «Dreams»، قرر المخرج الأكثر تأثيرًا في السينما اليابانية الخروج في نهاية حياته من وراء كل ستائر الخيال التي لطالما استعان بها في أفلامه السابقة، وفضَّل الاستعارة من ذاكرته الشخصية، جنبًا إلى جنب مع عقله الباطن، ليحكي بصراحة ودون مواراة عن عدة أشياء تثير ارتباكه بشأن الحياة الطويلة التي عاشها. فما الذي تقوله لنا أحلام كوروساوا؟
عالم واحد كبير يعكس ضآلتنا
ظاهريًّا، تبدو الأحلام بسيطة في تقديمها، إلا أنها تُسائِل، بعنفٍ، علاقتنا بالعالم من حولنا.
في فيلم «Dreams»، الذي يبدأ بمراسم زواج وينتهي بمراسم دفن، قدَّم أكيرا كوروساوا حكاية بصرية من ثمانية فصول، شروق الشمس خلال المطر، بستان الخوخ، العاصفة الثلجية، النفق، غربان، جبل فوجي الأحمر، الشيطان المنتحِب، قرية الطواحين المائية، ويمثِّل كل فصل فيها واحدًا من أحلامه التي راودته في نومه على مدار حياته، من الطفولة إلى الشيخوخة، ومن الأكثر أرقًا إلى الأكثر سَكِينة.
يفعل كوروساوا ذلك في سن الثمانين، وفي مرحلة عمرية عادةً ما يختار فيها الجميع التزام الصمت، ويفعله بشكل يختلف عن النمط التقليدي الذي تسير وفقه جميع الحكايات، فلا توجد بداية واضحة أو نهاية أو عقدة في كل حكاية منها، بل مواقف أشبه بسقوطك في النوم لتجد نفسك فجأة في منتصف حلم.
لا يوجد عنصر سردي يجمع الأحلام الثمانية سوى كوروساوا نفسه، لذا يختار للأحلام الثمانية بطلًا واحدًا، يمنحه اسما واحدًا هو «i» (آي، الحرف الإنجليزي)، في مراحل مختلفة وتجارب مختلفة، ومن منظور شخصي لصاحب الحكايات، كوروساوا ذاته.
اقرأ أيضًا: 4 مخرجين بمثابة مدارس سينمائية مستقلة
ظاهريًّا، تبدو الحكايات الثماني بسيطة في تقديمها، إلا أنها تُسائِل، بعنفٍ، علاقتنا بالعالم من حولنا. ففي الحلم الأول «شروق الشمس خلال المطر»، تطرد الأم ابنها لأنه تَسلَّل إلى الغابة وشهد مراسم تزاوُج الثعالب، تمنحه خنجرًا وتطلب منه إما طعن نفسه، وإما العودة إلى الغابة وتقديم الاعتذار للثعالب، «غير أن الثعالب نادرًا ما تقبل الاعتذارات»، هكذا تنبِّهه الأم قبل أن تغلق الباب في وجهه.
يمضي الطفل بمفرده في عالم واسع غير محدود، يحاول فيه تَلمُّس خُطًى صحيحة للغابة.
يختار كوروساوا تلك اللحظة لتصبح مُلصَق الفيلم لأهميتها في كونها لحظةً تأسيسية لما يعقبها من حكايات ومشاهد، فكل الحكايات التالية مجرد تنويعات على الطفل الذي تلفظه أمه (مساحة أمانِه)، ليجد نفسه وحيدًا في مرج متَّسِع تحوطه الجبال ويحفُّه أفق ممتد لا يمكن للطفل أن يبصر حدوده، كل الحكايات هي القصة ذاتها بتنويعات مختلفة، سنتعرض لها لاحقًا، عن شخص واحد يجد نفسه في موقف، مكان، حالة شعورية، أكبر منه (لأن الحياة أكبر منَّا ربما؟).
اقرأ أيضًا: العُزلة ليست وصمة
معظم كادرات الفيلم واسعة، تعكس ضآلتنا أمام عالم كبير يقع فيه الكثير، ولا حيلة لنا إلا استكمال المسير.
وعلى عكس الحلم الأول الذي يبدأ بالطفل داخل حدود منزله ومساحة أمانِه، تبدأ كل الأحلام التالية بالطفل بعيدًا عن البيت، في مكان غير مألوف، في مراحل عمرية مختلفة، كأنها كلها استكمال لمسيرة الطفل الذي يحاول التماس العذر من الثعالب في الغابة، وما يصادفه في أثناء تلك الرحلة من مواقف.
يصادف الطفل في رحلته مواقف تختبر درجة صلابته، مثل ما حدث في الحلم الثالث «العاصفة»، الذي يحكي عن متسلق جبال يقاوم النوم كي لا يموت متجمدًا، أو تختبر هشاشته، مثل ما حدث في الحلم الثاني «بستان الخوخ»، إذ يبكي الطفل أمام أرواح أشجار الخوخ التي اجتزَّها والده من الحديقة، لشعوره أن الأشجار تلومه لعدم دفاعه عنها.
يختار كوروساوا تقنية الـFading، أو الخفوت التدريجي، ليقطع بين كل حلم والذي يليه، ليضيف التأثير الذي نحسُّه ونحن نرى أحلامنا.
بالإضافة إلى ذلك، ولأن الأحلام الثمانية تنويعات مستمرة على تورُّط الشخصية الرئيسية في مواقف لم يطلبها ولم يسعَ لها، مواقف دائمًا أكبر منه، قياسًا على سنِّه في أثناء اختبارها، اختار كوروساوا معظم كادرات الفيلم في إطارات شديدة الاتساع، تعكس كلها ضآلتنا أمام عالم كبير يحدث فيه الكثير، ولا حيلة لنا إلا استكمال المسير، كلٌّ في طريق غابته، مثلنا مثل الطفل في الحلم الأول «شروق الشمس خلال المطر»، حريصين أن لا يبتلعنا العالم، مثلنا مثل كوروساوا نفسه.
الجمال الذي ربما ينقذ العالم، قد يخذلنا نحن
في سيرته الذاتية، يحكي أكيرا كوروساوا أن أكثر من أثَّر فيه على المستوى الشخصي كان الفنان «فان غوخ»، الذي، حسب تعبير كوروساوا، «يجيد تقديم العالم في شكل أجمل مما هو عليه في الواقع».
تأثُّر كوروساوا بغوخ كان أكبر من مجرد إعجاب شخصي، حتى إنه في بداية حياته حاول الرسم وتمنَّى لو يصير رسَّامًا، إلا أنه تَخلَّى عن هذه الأمنية لإدراكه أنه لا يملك من الموهبة ما يكفي لتجميل شكل العالم من خلالها، فقرَّر الإبقاء على حبه للرسم هوايةً، والتحول إلى السينما.
مع ذلك لم يغادره شغفه هذا قَطُّ، حتى إنه خلال ثمانينيات القرن العشرين عندما فشل في إقناع شركات الإنتاج بتمويل فيلمه «Ran»، ظل لسنوات يرسم تصوراته البصرية للفيلم في اسكتشاته الخاصة، فقط كي يُبقِي على هذا العالم في ذهنه ويحميه من التبخر.
ظهر هذا أيضًا في اللوحات البصرية التي خلقها كوروساوا على الشاشة في فيلم «Dreams»، ولأننا هنا نتحرك داخل أحلام كوروساوا الشخصية، كان من الطبيعي أن يَلُوح فان غوخ بقوة، لدرجة إفراد حلم كامل له.
في الحلم الخامس «غربان» يستحضر كوروساوا شغفه بالجمال، يدخل «آي»، بطل الفيلم، حرفيًّا في لوحات فان غوخ المرسومة ويتجول فيها، من لوحة إلى أخرى، ومن اسكتش إلى آخَر، إلى أن يقابل غوخ نفسه (أدَّى دوره المخرج «مارتن سكورسيزي») بأذنه المقطوعة وعقله الذي لم يفلح العالَم في الإبقاء عليه، ولتحقيق ذلك يقرر كوروساوا تصوير حلمه هذا في أماكن تشبه كثيرًا اللوحات التي رسمها فان غوخ.
هنا يحكي كوروساوا عن أحد أكثر من أسهموا في تكوينه، عن معاناته في نقل الجمال المتشكِّل داخل قلبه إلى العالم الخارجي، لأن «مشهدًا يبدو كلوحة لا يصنع لوحة، عليك أن تحاول»، كما يخبره فان غوخ في الحلم.
قد يهمك أيضًا: «فان غوخ» يقابل «ياو مينج»: «الميمز» تعيد تقييم الفن
أدرك كوروساوا أن العالم ليس بمكان جميل، لكنه ممتلئ بأناس يحاولون خلق الجمال.
وجود حلم فان غوخ بين حلم «النفق» وحلم «جبل فوجي الأحمر»، والأخير يروي فيه كوروساوا «الأبوكاليبس» (نهاية العالم) الذي يتعرض له العالم بسبب الأسلحة النووية، يحكي كثيرًا عن موقف كوروساوا من الجمال، ونظرته إليه باعتباره قادرًا على تغيير العالم وتقديمه في شكل أفضل مما يبدو عليه.
للوهلة الأولى، يبدو الحلم بجماليته البصرية دخيلًا على سائر الأحلام بشكل غير متماشٍ، لكنه يتقاطع مع حياة كوروساوا الصعبة بشكل يجعله أكثر من مجرد هدنة جمالية في الفيلم، فعلى الرغم من نجاحه عالميًّا وكونه أول مخرج ياباني يصل إلى العالمية بفيلم «راشومون»، لم يلقَ كوروساوا النجاح ذاته في بلده، ربما لأنه يقدم فنًّا أكثر منه صناعة ربحية، وهو ما تَسبَّب في نفور شركات الإنتاج من تمويله.
في السبعينيات، فشل أول فيلم ملوَّن لكوروساوا «Dodesukaden» لدرجة دفعته إلى محاولة الانتحار، كما أن فيلمه الذي نتحدث عنه «Dreams» رفضته عدة شركات إنتاج يابانية، قبل أن يتحمس المخرج الأمريكي «ستيفن سبيلبرغ» لإنتاجه. وحسب سيرته الذاتية، فإن إحباطات كهذه وتَعطُّل مسيرته لسنوات كانت دومًا تثير تساؤلاته حول جدوى الاستمرار في صناعة السينما.
قد يهمك أيضًا: هل يشبه المنتحر في السينما العربية نظيره في الأفلام الغربية؟
«أعمل وأكافح، أقود نفسي كدرَّاجة بخارية، ثم أبدأ في الرسم»، هكذا يخبره فان غوخ، وقد يكون هذا هو العنصر المشترك بينه وبين كوروساوا، فكلاهما كان يحاول، كلاهما لم يُقَدَّر بما يليق، كلاهما حاول الانتحار وإن اختلفت الأسباب والدوافع. كوروساوا كان مدركًا أن العالم ليس بمكان جميل، إلا أنه ممتلئ بأناس يحاولون خلق الجمال، وفي أثناء تلك المحاولات يتضررون من بشاعته.
الموت الذي يلاحقنا
الموت عنصر رئيسي في أحلام أكيرا كوروساوا، سواءً في موت أشجار الخوخ في الحلم الثاني «بستان الخوخ»، أو احتمالية موت متسلق الجبال في الحلم الذي يليه «العاصفة»، وسواءً في الماضي الذي يرفض أن يموت كما في الحلم الرابع «النفق»، عندما يظهر شبح جندي ميت يرفض تصديق حقيقة موته، أو في موات العالم نفسه كما في الحلم السادس «جبل فوجي الأحمر»، إذ يتعرض العالم للدمار بسبب الأسلحة النووية.
قد يعجبك أيضًا: عندما تخلق الحرب فنًّا: موسيقى الروك في فيتنام نموذجًا
دومًا يحضر الموت بكل صوره وأشكاله، ربما لأنه حاصر كوروساوا على مدار حياته، بدءًا من انتحار شقيقه المراهق، مرورًا بمحاولة انتحاره هو نفسه، وحتى «انتحار العالم» أكثر من مرة بالحروب المستمرة التي شهدها المخرج الياباني، حروب عالمية وحروب أهلية.
ليس غريبًا إذًا أن تدور ثلاثة من أحلامه، «النفق» و«جبل فوجي الأحمر» و«الشيطان المنتحِب»، كعواقب لتلك الحروب، بل إن تيمة الحروب ظهرت في أفلامه الأخرى، مثل «I Live in Fear» و«Rhapsody in August». على الجانب الآخر، فإن تقديم الأحلام الثلاثة يلخِّص تصوُّر كوروساوا لِمَا سينتهي إليه العالم إذا استمر البشر على هذا المنوال: أبوكاليبس.
ورغم اتخاذ أحلام كوروساوا الحروبَ سياقًا للعرض، فإنها تحكي عن البشر أكثر منها عن الحرب، تحديدًا عن مخلَّفات تلك الحروب في نفوس البشر، خصوصًا الشعور بالذنب، فيشعر قائد الكتيبة بالذنب تجاه موت فصيلته في حلم «النفق»، ويشعر البشر بالذنب تجاه تخريبهم العالم في حلم «الجبل الأحمر»، بل حتى شياطين ما بعد نهاية العالم يُثقلهم الذنب.
في حلم «الشيطان المنتحِب»، لا يقدم لنا كوروساوا شريرًا بالمفهوم التقليدي للشيطان، بل مُزارعًا اعتاد أن يلقي بأوعية الحليب في النهر ليُبقِي سعره مرتفعًا، وبشكل ما يتسبب جُرمُه هذا في انتهاء العالم وتحوُّله (المُزارع) إلى شيطان. جرائم بذلك الصِّغَر تتسبب في كوارث بهذا الكبر، هكذا هي الحرب عند كوروساوا.
اقرأ أيضًا: «أصغر فرهادي»: الطيبون في حرب لم يُرِدها أحد
«غباء البشر لا يُصَدَّق، النشاط الإشعاعي كان خفيًّا في بادئ الأمر، ثم منحوه ألوانًا حسب خطورته، فقط ليخبروك بأي طريقة ستموت: الأحمر يصيبك بالسرطان، والأصفر يصيبك باللوكيميا، والقرمزي يجعلك مسخًا».
‒ العالِم النووي في حلم «الجبل الأحمر»
مع كل ذلك لا يُعَدُّ «Dreams» ثوريًّا بأي شكل، فكوروساوا لا يحاول إصلاح العالم أو حتى تقديم دعوة سلمية لإنهاء الحروب، لا يُعنَى بأيٍّ من ذلك. كل ما في الأمر أنه عاش عمرًا طويلًا، صادف فيه الحروب بأوجُه متعددة، لا يقلُّ أيٌّ منها قبحًا عن الآخر. شهد كوروساوا البشاعة وعايش الخوف، واحتفظ عقله بمخلَّفات ذلك الخوف كما لو أنه صندوق نفايات للعالَم الذي نحياه.
كوروساوا الذي نشبهه بقدر ما يشبه نفسه
تبدأ الأحلام من قرية بدائية ثم تصل إلى أقصى درجات الحداثة، قبل أن تهوي وتنهار، ثم تعود مرة أخرى إلى البدايات في الحلم الأخير «قرية الطواحين المائية»، الذي يحكي عن قرية بسيطة يعيش أهلها على الأساسيات ويتخلون عن كل مظاهر الحداثة كالكهرباء.
يؤمن كوروساوا أن الجمال قد يقلل بشاعة العالم، لكنه يزيد إحساسنا بتلك البشاعة.
الزمن أيضًا له حضوره الطاغي، فيمرُّ الفيلم بمراحل زمنية متعاقبة من الطفولة إلى الشباب، ثم تنتهي بالشيخوخة. بالمثل، تتطور المعرفة في أثناء ذلك، معرفة «آي»، ومعرفتنا نحن بكوروساوا، نعرف في النهاية أن المخرج لم يعبأ بتغيير العالم، بل باكتشافه، حاله كحال بطله الذي خرج إلى الغابة في الحلم الأول.
قد يعجبك أيضًا: 7 أفلام عن الزمن الذي يمر فوق أجسادنا
نعرف أنها سيرة ذاتية لمخرج كان يحاول فهم العالم، يحاول النجاة منه أحيانًا كما في حلم «متسلق الجبال»، ثم يحاول التغلب على شعور الذنب المصاحب لنجاته تلك كما في حلم «النفق».
يؤمن كوروساوا أن الجمال قد يقلل بشاعة العالم، لكنه يزيد إحساسنا بتلك البشاعة، وبعد كابوسين يقدِّم فيهما تصوُّراته للأبوكاليبس، يقدم تصوُّرًا في الحلم الأخير ليوتوبيا (المدينة الفاضلة) يدرك جيدًا استحالة تحقُّقها، فيعود مرة أخرى إلى القرية والحياة البسيطة، وهو بذلك لا يطالب بالعودة إلى البدايات وتقليل الاستهلاكية، لا يُعنَى بأيٍّ من هذا، بل يحاول فقط التوصُّل إلى أكثر وسيلة مناسبة للعيش.
في سيرة كوروساوا الذاتية، يحكي أن أخته رَوَتْ له أنه جاء إلى هذا العالم صامتًا، لا باكيًا كسائر الأطفال، عاقدًا يديه إلى صدره بشكل سبَّب كدمات زرقاء في جسده الضئيل. وتنبئنا أحلامه بأن طريقه لم يكُن ممهَّدًا، بل معبَّأ بالذنب والسخط والإحباط. خوفه من ابتلاع العالم له لا يمنعه من مواصلة المسير إلى الغابة، ويحاول جاهدًا طوال حياته أن لا يستسلم للنوم كي لا يأكله الصقيع، حتى وهو عاجز عن مواصلة تسلُّق الجبل لكثافة الضباب.
أحلام أكيرا كوروساوا تحكي عنه وعن حياته وثِقَل وطأة وجوده في هذا العالم، ربما تكون محاولة قبل أخيرة أن لا تتحول أطرافه كلها إلى اللون الأزرق الذي كان عليه صدره لحظة ولادته.