عاش خاين ومات كافر: هل يشبه المنتحر في السينما العربية نظيره في الأفلام الغربية؟

إسراء مقيدم
نشر في 2016/11/21

إذا كنت تفكر في اﻻنتحار، توجَّه إلى شخص مُقرَّب واطلب منه المساعدة، أو يمكنك زيارة هذا الموقع.


تنويه: ربما «يحرق» هذا الموضوع  أحداث كثير من الأفلام العربية والغربية التي تتضمن انتحار أحد الشخصيات.

في الوقت الذي حطَّ فيه الفيلسوف «إيمانويل كانط» من شأن الشخص المنتحر باعتباره مٌسيئًا للإنسانية في المقام الأول ويحق للمجتمع استعماله كما تُستعمل البهائم، نظر الفيلسوف «ألبير كامو» للانتحار باعتباره المعضلة الحقيقية الوحيدة في هذا العالم. بالنسبة له، فإن موقف الإنسان من الحياة ينبغي أن يأتي في المقدمة؛ أن تقرر إذا ما كانت الحياة تستحق أن تُعاش أم لا ، ذلك هو السؤال الأهم على الإطلاق، والذي ينبغي لكل فرد الإجابة عليه أولًا، ومن ثم يمكن لباقي الآراء الفلسفية أن تتشكل بعد ذلك.

ما الذي قد يدفع الإنسان لإنهاء حياته؟

سؤال كهذا لطالما أثار حفيظة المجتمَعيْن الغربي والعربي معًا؛ فبرغم تناول فلاسفة القرن الـ18 الميلادي للانتحار من وجهات نظر مختلفة وغير محدودة، إلا أن المجتمعات نفسها ظلَّت لفترة طويلة نسبيًا محتفظةً بأفكارها الأولى بشأن كونه خطيئة دينية محظور الوقوف عليها بأي شكل.

انعكس هذا في تناول السينما النمطي للمنتحر لعقود، قبل أن تبدأ السينما الأوروبية في توسيع رؤيتها بتطور المجتمع، في مقابل احتفاظ السينما العربية بنظرتها القاصرة. وبنظرة إلى الاختلاف بين التناولين، يمكن تسليط الضوء على فجوة آخذة في الاتساع بين مجتمعَيْن شديدَي التباين في نظرة كل منهما للمنتحر.

الاختلاف الأول: التطَرُّق

صورة من فيلم (The Fire Within)

أحد أوائل مَن حاولوا كسر هذا «التابو» في المجتمع الأوروبي كان المخرج الفرنسي «لويس ماليه»؛ إذ تبنى تساؤلات الفيلسوف «ألبير كامو» بشأن الانتحار في مواجهة كل الأفكار الكاثوليكية التي نشأ عليها والمحرِّمة للفعل نفسه. هذا التبني تجسّد عام 1963 عندما قدّم «ماليه» للجمهور فيلمه الروائي الخامس (The Fire Within)، والذي كان معنيًّا بالأساس باليوم الأخير في حياة كاتب ومدمن كحول يقرر الذهاب لمقابلة أصدقائه في باريس، كمحاولة أخيرة، ربما، للبحث عن سبب واحد يقنعه بالعدول عن قراره.

السينما الغربية كانت أشجع في تناول الانتحار والمنتحرين معًا.

الفيلم محاولة قد تكون الأولى لفهم سيكولوجية الشخص ذي الميول الانتحارية وما قد يدفعه نحو ذلك، في فترة زمنية كان المجتمع الغربي لا يزال محتفظًا خلالها بأفكاره النمطية. يفسر هذا استقبال الجماهير الفاتر للفيلم في مقابل احتفاء النقّاد به.

ربما يكون هذا هو الفارق الأول بين المجتمعين؛ فبينما تناولت السينما الأوروبية الانتحار بصفته موضوعًا قائمًا بذاته، يستحق إفراد مساحة خاصة له دون إدماجه في أي قوالب، قدمته السينما المصرية على استحياء مُبالغ فيه بعض الشيء. وبعكس تعدد الأفلام الغربية التي بنيت أساسًا على مسألة انتحار أبطالها، مثل (Leaving Las Vegas) و(The Virgin Suicides)، لم تتطرق له السينما المصرية باعتباره موضوعًا للنقاش، وغالبًا ما تم تقديمه فقط كمصير لشخصيات بعينها، أو كنهاية منطقية تفرضها طبيعة الشخصية (التي لا بُد أن تكون مُتسيّبة) واختياراتها (السيئة بالضرورة).

لذا، يمكن القول إن السينما الغربية كانت أشجع في تناول الانتحار والمنتحرين معًا، بخلاف السينما العربية التي اكتفت بتقديم نماذج متعددة لمنتحرين دون التعرّض لموضوع الانتحار بصفته. ولكن كيف اختلفت الصناعتان في تقديم المنتحر؟

الاختلاف الثاني: التناول؛ كيف أظهرت الشاشة المنتحر؟

1. الخطيئة في مقابل الجريمة

لقطة من فيلم «بداية ونهاية»

تقديم النمط نفسه دون أي اختلاف أو معالجة يفضح الكثير عن ارتباط فعل الانتحار في المجتمع العربي كمصير مُستحق بأشخاص مُدانين مجتمعيًا.

ألقت «نفيسة» في نهاية فيلم «بداية ونهاية» بجسدها في النيل لجلبها العار لأسرتها، السبب ذاته الذي دفع «شفا» في فيلم «عرق البلح» لإحراق نفسها بعد أن حمِلت سفاحًا من أحد رجال القرية المجاورة، في حين أقدمت «ياسمين» في فيلم «أسرار البنات» على الانتحار بعد أن وضعت طفلتها دون زواج رسمي، والتصرف نفسه اختارته «ولاء» في فيلم «دماء على الأسفلت» بعد أن اكتشف أخوها عملها بالدعارة.

النموذج ذاته يُستخدم بتنويعات مختلفة لنساء دفعتهن إدانة المجتمع لأفعالهن نحو الانتحار. وبرغم الفارق الزمني بين فيلم «بداية ونهاية» والأفلام التي أعقبته، إلا أن تقديم النمط نفسه دون أي اختلاف أو معالجة يفضح الكثير عن ارتباط فعل الانتحار في المجتمع العربي كمصير مُستحق بأشخاص مُدانين مجتمعيًا. كذلك يعكس جمود نظرة المجتمع بتعدد شرائحه (فنفيسة وشفا وياسمين وولاء من بيئات مجتمعية متباينة) تجاه الأفعال المُدانة أخلاقيًا أو مجتمعيًا. هل يعني ذلك أن السينما الغربية لم تتناول تلك الزاوية؟

الإجابة هي النفي، فمثلما غاب رجال القرية عن نسائهم في فيلم «عرق البلح»، غاب رجال قرية أخرى عن زوجاتهم في الفيلم الألباني (Three Windows and a Hanging)، ومثلما ألقى المخرج الراحل رضوان الكاشف اللوم على المجتمع بانتحار «شفا»، أدان المخرج «إزا كوسجا» مجتمعه عن طريق انتحار واحدة من نساء القرية عقب تعرّضها للاغتصاب. إلا أن إدانة الأخير جاءت بشكل أكثر صراحة دون مواربة أو ترك فرصة واحدة لإلقاء اللوم على نساء القرية.

2. العادي في مقابل المأساوي

لقطة من فيلم (Night, Mother)

على الرغم من تميُّز السينما المستقلة بجرأتها في الطرح، إلا أن التيار المستقل في السينما المصرية لم يجد الشجاعة الكافية بعد لفهم طبيعة المدمن، دون السقوط في فخ التناول الأحادي للموضوع. حتى محاولة المخرج المصري عمرو سلامة، وهو مخرج محسوب على السينما المستقلة، من خلال فيلم «زي النهاردة» لم تخلُ من قصور الرؤية؛ فبخلاف أن الموضوع تم تقديمه بشكل مُسرَّب ضمن سياق أكبر، فقد جاء انتحار «هالة» بعد فشلها في الإقلاع عن الإدمان بشكلٍ وَعظي إلى حد كبير، دون الإشارة لمأساتها أو ثقل تجربتها الإنسانية، ودون ترك مساحة للتعاطف مع الشخصية، كما لو أنه مصير يستحقه الشخص المدمن، كما لو أن الحكاية كلها من تقديم «هيئة الشؤون المعنوية» (هيئة تابعة للقوات المسلحة المصرية تهتم بإنتاج الأغاني والأعمال الفنية الوطنية والقومية) للتوعية بمخاطر الإدمان.

قدّرت السينما الأمريكية قيمة الحياة والأثر المفجع الذي يتركه رحيل إنسان عن أحِبَّته.

في الجهة المقابلة (السينما الغربية عمومًا)، فالنظرة نفسها تغيرت لتصبح أكثر نضجًا، فبجانب فيلم (The Fire Within) السابق ذكره، حاول الفيلم النرويجي (Oslo August 31) تبني منظور أكثر وعيًا بالمسألة. كلا الفيلمين يتناول محاولة مدمن متعافٍ للانخراط مرة أخرى في الحياة، وكلا الفيلمين ينتهي بانتحار الشخصية، لا لرفض المجتمع قبوله، بل لهشاشتهما النفسية وعجزهما عن التآلف مع عالم قاسٍ كالذي نحياه.

وبينما أهملت السينما المصرية التعرُّض للأثر الذي يُحدِثْه غياب المنتحر عن عالمه الخاص ، قدّرت السينما الأمريكية قيمة الحياة والأثر المفجع الذي يتركه رحيل إنسان عن أحِبَّته، إلى درجة تخصيص أفلامٍ كاملة للحديث في هذا الشأن. أقرب مثال على ذلك هو الفيلم الأمريكي (Night, Mother) الذي يُعنى بتتبع محاولة أم يائسة لإقناع ابنتها بالعدول عن قرارها إنهاء حياتها، فلا يُنظر للانتحار كحدث عادي، بل كمأساة فردية من شأنها إغراق جماعة كاملة. ربما يكون الفيلم من أكثر الأفلام التي انتصرت للتجربة الإنسانية عمومًا.

3. البطولة في مقابل الثورة

لقطة من فيلم أصحاب ولا بيزنس
لقطة من فيلم «أصحاب ولَّا بيزنس»

الزاوية الوحيدة التي تسامحت منها السينما المصرية مع الانتحار، كانت عن طريق تقديمه كعمل بطولي أو فدائي. يدفع «أحمد» بنفسه أمام سيارة ضخمة فداءً لأسرته في فيلم «ألف مبروك»، ويفجّر «جهاد» نفسه في نقطة تفتيش إسرائيلية في فيلم «أصحاب ولَّا بيزنس»، كما لو أنه لا بد من تبرير تصرّف المنتحر في صيغة بطولية ليقبله المشاهد.

ربما يكون محمد خان هو المخرج المصري الوحيد الذي نجا من تبرير فعل الانتحار في أفلامه.

الأمر نفسه حاولت السينما الأمريكية تقديمه في شكل أكثر نضجًا، في حالات استثنائية تحوَّل فيها فعل الانتحار لقرار ثوري يخص صاحبه، فتنتحر «ثيلما» و«لويز» في نهاية فيلم (Thelma and Louis) لتَتحرَّر كلٌ منهما من القيود التي ربطتها بالعالم. وينتحر «داميال» الملاك في فيلم (Wings of Desire) الألماني؛ ليتحرر من قيوده كملاك ويتمكن من اختبار تجربة الحياة بكامل ثقلها.

برغم ذلك، ربما يكون محمد خان هو المخرج المصري الوحيد الذي نجا من تبرير فعل الانتحار في أفلامه؛ فإلقاء «هيام» بنفسها من شرفتها في فيلم «فتاة المصنع»؛ لرفضها وضعًا مهينًا عرّضتها له أسرتها، وانتحار «نوال» في فيلم «موعد على العشاء»؛ لرفضها الاستسلام لأنانية زوجها وتملّكه إيَّاها، هي أفعال ثورية بالأساس وليست بطولية.

4. الدراما في مقابل الحصار

لقطة من فيلم (Suicide Club)

حاولت السينما تقديم المراهقة كإطار ضاغط قد يدفع الإنسان لإنهاء حياته، إلا أن تقديم السينما المصرية كان مختزلًا، بشكل مُخلّ، في الضغط المجتمعي الذي قد يعانيه المراهق. تمثل هذا في محاولة «ندى» في فيلم «المراهقات» إنهاء حياتها بسبب الضغوط التي يعرّضها أهلها لها، وانتهاء أزمتها بتزويجها ممن تحب.

في حين أن السينما اليابانية تعرّضت لمفهوم الحصار بشكل أكثر اتساعًا؛ تنتحر المراهقات جماعيًا في فيلم (Suicide Club)؛ لحصارهن في عالم لا يساعدهن على التواصل مع أنفسهن. وينتحر «تشارلي» في فيلم (The Perks of Being a Wallflower) الأمريكي؛ لكونه محاصرًا بهشاشته التي لا تساعده في التواصل مع العالم.

اقرأ أيضًا: في اليابان.. نُفضِّل أن ننتحر معًا

الانتحار في المجتمعات الغربية يُعامَل باعتباره مسألة فردية تخص المجتمع.

أسباب مثل هذه تعكس نظرة أعمق وأكثر احترامًا لمرحلة على ذلك القدر من الحساسية في عمر الإنسان؛ فلا تصوّر المراهق كما لو أنه فتى عديم الخبرة محكوم برغباته في الانطلاق والجموح، ولكنّ تقدمه كفتى مرتبك قابل للتشتت في عالم متفكك بالفعل. الأمر يشبه تحويل المسار والعبور للضفة الأخرى من النهر، حيث تستبدل السينما الأسى بالقسوة، والرثاء بإقامة الحد.

الاختلاف الثالث والجوهري: المجتمع نفسه

مشهد الانتحار في فيلم (Ida)

في الوقت الذي انحازت فيه السينما المصرية بشكل فج ضد المنتحر عن طريق تقديمه كشخص مدان أخلاقيًا بالأساس، مثلما حدث في فيلم «العار»، وبالتالي يستحق مصيرًا شائنًا كالانتحار (من وجهة نظر المجتمع)، لم تحاول السينما الغربية الانحياز مع أو ضد الشخص المنتحر ، بقدر ما حاولت فهم الظاهرة نفسها والوقوف على أسباب أكثر صدقًا من الأسباب الظاهرية التي قد تبدو في مرآة المجتمع.

يأخذنا هذا إلى الفارق الجوهري؛ فالانتحار في المجتمعات الغربية يُعامَل باعتباره مسألة فردية تخص المجتمع، ومحاولات التوعية بشأنه تتم كلها من منظور إنساني ونفسي ولكونه أحد أشكال الاكتئاب، بغض النظر عن موقف الدين منه. أما في المجتمعات الشرقية، فـلا يزال يُنظّر للانتحار بصفته خروجًا عن الإرادة الإلهية قبل أي شيء آخر ، لدرجة وصلت إلى تبنّي صريح لرأي الدين من خلال جملة «عاش خاين ومات كافر»، التي قيلت تعقيبًا على انتحار «جابر عبد الغفار» في نهاية فيلم «بئر الخيانة».

قد يهمك أيضًا: كريستين تشاباك: إليكم انتحارًا على الهواء مباشرةً

لا يعني ذلك بالضرورة  أن على السينما المصرية، وبالتالي المجتمع ثم الفرد، اتخاذ موقف مؤيد للانتحار، ولكنّ الرفض لا يشترط الحدة؛ فلا تحتاج لتقديم أشخاص سيئين لتربط مصيرهم بالموت انتحارًا، كما لا يشترط أن تكون «كانط» كي تصبح رافضًا للفعل، ولكن يمكن تناوله من زوايا أكثر رحابة، مثل الانحياز للفرد، وإدانة الفعل نفسه كضيف ثقيل يفرض حضوره، وعدم الانصياع لرؤية مجتمع منحاز لنفسه عن طريق إدانة أفراده.

هذا الموضوع جزء من ملف منشور عن الانتحار، لقراءة موضوعات أخرى في الملف، اضغط هنا.

مواضيع مشابهة