في السحابة: لماذا تلجأ أعداد متزايدة من الناس لتجربة «السايكديليك»؟
منذ عصور الفراعنة والمايا والحضارات القديمة، ارتبطت النهضة الحضارية بالسمو الروحي، فبَنَت تلك الحضارات المعابد والمدن التي لا تزال شاهدة عليها حتى بعد غياب أصحابها، وكان للدين، بأشكاله المتعددة، دورًا في تطور الإنسان والبشرية والحضارة.
يقول «جيمس كارني» (James Carney)، باحث علم النفس المساعد في جامعة لانكاستر ببريطانيا، في مقال له على موقع (The Conversation)، إن تلك التجارب الروحية التي ارتقت بحضارات سابقة هي ما يدفع العديد من الناس اليوم لتعاطي العقاقير أو المخدرات التي تغير انطباعاتهم عن الواقع، أو «السايكديليك» (Psychedelics)، بغرض الوصول إلى تجربة روحية سامية.
قد يهمك أيضًا: 6 اختلافات أساسية بين الدين والروحانية
هذا النوع من العقاقير يزوِّد المرء بطريق مختصرة لبلوغ التجارب الروحانية أو السامية ذات الطابع الديني.
ويشير «كارني» إلى أنه من السهل تفسير الإغراءات التي تقدمها مخدرات كالهيروين والكوكايين؛ التي تنشط مراكز المكافأة في المخ مباشرة، فتولِّد إحساسًا فوريًّا باللذة، لكن لماذا تحظى العقاقير «السايكديليك» بإقبال متزايد، رغم أنها تقدم تجربة مختلفة عن الهيروين والكوكايين؟
إن حالات الإدراك أو الوعي غير الطبيعي ترتبط عادةً بأشياء كريهة؛ كالمرض أو الاحتضار أو أعراض التسمم، فمادة الـ(LSD) مثلًا تؤدي إلى حدوث اختلالات في الرؤية والمزاج والتفكير وتغيُّر الإحساس بمرور الوقت، وكذلك تفعل مادة «السيلوسيبين» (Psilocybin) الموجودة في أكثر من 200 نوع من المشروم.
أفيون الشعوب
يخاطر العديد من الناس يوميًّا باستخدام «السايكديليك»، معرضين أنفسهم للتشوش الذهني وإمكانية دخول السجن في سبيل ذلك. ويرى «كارني» أن هذا النوع من العقاقير يزوِّد المرء بطريق مختصرة لبلوغ التجارب الروحانية أو السامية (Transcendental Experiences) ذات الطابع الديني، التي لعبت دورًا مهمًّا في تطور الإنسان.
طابع التجارب التي يخوضها المرء تحت تأثير هذه العقاقير روحاني، فيحسُّ كأن حجابًا قد انزاح عن العالم وانكشفت له بعض الحقائق الكونية.
ويتضح المنطق الذي تقوم عليه هذه الفكرة أكثر عندما ننظر إلى التاريخ، ونرى كيف شكَّل الدين الثقافة البشرية. يقول «آرا نورنزايان» (Ara Norenzayan)، وهو أستاذ علم نفس بجامعة بريتيش كولومبيا، إن الحضارات التي نشأت في الشرق الأوسط قبل 12 ألف عام استغلت العنصر الديني في نهضتها، كما ترى أبحاث أخرى أن الدين يلعب دورًا مهمًّا في صنع روابط قوية بين الغرباء ضمن المجموعات الكبيرة.
ويشير «كارني» إلى أن هناك وجهًا ثانيًا مهمًّا للدين؛ إذ يصنع للناس واقعًا آخر أكبر منهم، أو فكرة الحياة في العالم الآخر، أو حتى الكون ككل؛ وهو ما يمنحهم الاطمئنان تجاه حياتهم ويجعلهم أكثر ميلًا للمحبة والتعاون، مع إدراكهم أن عاقبة هذا التعاون لن تكون فورية بل مؤجَّلة.
وفي عالم بدأ يتخلى عن العقيدة الدينية بشكل متزايد، بدت هذه العقاقير كمن يحل محل الدين في بعث هذا الاطمئنان والمحبة في نفوس الناس، الأمر الذي يمنحهم السعادة والقوة في مواجهة الحياة والتطور، إذ إن طابع التجارب التي يخوضها عقل المرء تحت تأثير هذه العقاقير روحاني، فيحسُّ كأن حجابًا قد انزاح عن العالم، فانكشفت له حقائق كونية ما.
وأحيانًا يُخيَّل لمن يتعاطى تلك العقاقير أنه بلغ خلاصة الحكمة، أي إن هذه الحالة العقلية تحاكي الحالات الأخرى ذات الطابع الديني، التي لعبت دورًا فعالًا في تطوُّر الإنسان وجعلت تعاونه ممكنًا.
قد يعجبك أيضًا: دع معتقداتك جانبًا، علينا أن نفكر جديًّا بشأن نظرية التطور
الدين يتعاطى المخدرات
لكن هل يعني هذا أن تطوُّر الإنسان مرادف لتعاطيه عقاقير «السايكديليك»؟ لا، لكن الكاتب يرى أنه من الممكن تفسير الرغبة في تعاطي هذه العقاقير من وجهة نظر التطور، باعتبارها وسيلة تعجِّل ببلوغ حالة من السمو الروحاني.
ويرى «كارني» أن تعاطي «السايكديليك» لا يختلف من حيث المبدأ عن الطقوس التي يمارسها المتدينون في سبيل الوصول إلى حالة مغايرة من الوعي، رغم تفهُّمه اعتراض البعض على تعاطي هذه العقاقير؛ لأنه يفتقر إلى التهذيب الروحاني الذي تتضمنه الطقوس بطبيعتها.
مثلما ﻻ يلغي منع النشاط الجنسي وجود الرغبة، فإن تجريم «السايكديليك» لن يلغي رغبة البشر في خوض تجارب روحانية.
ويضيف كذلك أن هناك ديانات وثقافات كثيرة تستخدم العقاقير النفسية في طقوسها، وهو ما جعله يجري بحثًا سريعًا عن أمثلة، فوجد أن من أشهرها في العالم على الإطلاق «الأياهواسكا» (Ayahuasca)، الذي اكتشفته بعثات التبشير الإسبانية والبرتغالية في غابات الأمازون خلال القرن السادس عشر، ويستخدمه سكان المناطق التي ينمو فيها للارتقاء بوعيهم إلى أبعاد روحانية من وراء العالم.
أيضًا، يتعاطى السكان الأصليون للمكسيك، ومنذ حقبة الأزتك (Aztec)، عقارًا من زهرة «مجد الصباح» (Morning Glory)، وفي سيبيريا يتعاطون مستخلصًا من فطر «أمانيت الطائر» (Fly Agaric)، بالإضافة إلى القِنَّب (Cannabis)؛ الذي يعد أشهر نبات يستخدم لتيسير الدخول في تجربة روحانية الطابع، واقترن كثيرًا بالطقوس الدينية في جميع أنحاء العالم.
اقرأ أيضًا: كيف تطور الوعي البشري عبر التاريخ؟
هل نمنع التعاطي؟
يرى «كارني» أن منع هذه العقاقير لن يؤدي إلى حلول فعالة. فتمامًا كما ﻻ يلغي منع النشاط الجنسي وجود الرغبة الجنسية، فإن تجريم العقاقير «السايكديليك» لن يلغي الرغبة المتأصلة لدى البشر في خوض التجارب الروحانية، والأفضل من هذا أن يكون الأمر في إطار قانوني من شأنه تقليل المخاطر.
ويشير إلى أنه ثمة نتائج إيجابية للأبحاث التي تُجرى على علاج الاكتئاب وتحسين الحالة النفسية لمرضى الحالات الميؤوس منها بالعقاقير «السايكديليك»، مع أن هذا قد لا يصلح للجميع، وإن كان دليلًا على أن هناك شريحة لا بأس بها من الناس تستجيب لهذا النوع من العلاج.
الحقيقة أنه لا يوجد نظام قانوني عبر التاريخ نجح في تغيير طبيعة الإنسان، وليس هناك ما يدعو للاعتقاد أن تجريم هذه العقاقير سيؤدي إلى أي نتائج مختلفة.
هشام فهمي