إحساس بالذنب أم سعي إلى السعادة: لماذا نشأت الأخلاق؟
«الإنسان كائن اجتماعي»، فكرة كهذه تبدو بديهية كلما تفجرت في فعل إنساني كما هي عادتها، كلما خطونا خطوة على رصيف شارع، أو شدتنا حاجة إلى التواصل مع شخص ما، إنشاء علاقات معه حتى ولو كانت عداوة، أو أتعبنا الرُّهَاب العميق من الوحدة، التي ترهق حتى أكثر البشر كرهًا للإنسانية ومباهاةً بنزعتهم إلى الانعزال.
الأخلاق رهينة السمة الاجتماعية للإنسان، نتاج لهذا النمط من العيش الذي اختارته البشرية، عن طواعية ربما أو عن إرغام، ولذلك يمكننا النبش في جذور النزعة الأخلاقية باعتبارها نزعة إنسانية محضة.
البحث في الأخلاق وأسبابها أمر معقد، لأن «الإيتيقا» وعلم الأخلاق مبحثان فلسفيان ضخمان، لكن بوسعنا أن نلقي نظرة سريعة على أهم النظريات التي وضعها المفكرون منذ الإغريق حتى الآن، لتفسير نشأة الأخلاق في المجتمعات البشرية.
الحكمة فضيلةٌ للعقل
يضعنا «نيتشه» في كتابه «الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي» أمام أوليات نشأة الفلسفة عند الإغريق، والقطيعة التي أنشأتها مع الأسطورة، وكيف تجسدت الميتافيزيقا مبحثًا في الكليات.
بنفس النسق يتعاطى الفلاسفة اليونانيون، وأخصهم أفلاطون وأرسطو، فيعرِّف لنا أفلاطون الخير كأسمى المُثل، كمصدر للوجود والكمال، ويحدد لنا الأخلاق كمبتغًى للخير الذي تتوق إليه كل نفس، هروبًا وتحررًا من دَنس الجسد الملوث بالشهوانية التي تُشقي النفس وتغاير طبيعتها الأولى، طبيعة مثالية خيِّرة كاملة.
في هذا الفرار أو التحرر الدائم للنفس من خلال الأخلاقيات والفضائل، يحدد لنا أفلاطون الفضيلة في أربعة أقسام:
- الحكمة كفضيلة للعقل
- العفة كفضيلة للروح
- الشجاعة كفضيلة للقوة
- العدالة في موازنة الفضائل السابقة داخل الفرد الواحد
بهذا الشكل ظهرت لنا معيارية الفعل الأخلاقي، طلبًا للخير وتفاديًا للشر. وهذا لا يعني غياب نفس المعايير عند الحضارات السابقة، بل إن الخير من منطلق الميتافيزيقا اليونانية شكلٌ مجرد لا ديني. بصيغة أخرى، كان تأملهم في الخير منفصلًا عن التفكير في الأديان، أي خارج ثنائية الإله والشيطان.
قد يهمك أيضًا: معضلات قد تدفعك إلى إعادة التفكير في أخلاقك
عند كانط، محافظة الإنسان على حياته واجب، والإحسان واجب، وتأمينه لسعادته الذاتية واجب غير مباشر، ومحبة الجار ولو كان عدوًّا واجب.
ينزع أرسطو، تلميذ أفلاطون، إلى الزيادة على إرث معلمه، فيقر أن الخير ليس فقط مصدر كل فعل، بل غايته الأسمى، ويُفصح لنا في كتابه «الأخلاق» مجمَل تأمله قائلًا: «ما هو، إذًا، الخير في كل واحد منها؟ أليس هو الشيء الذي من أجله يُصنع كل الباقي؟ في الطب مثلًا هو الصحة، وفي فن الحركات العسكرية هو الظفر، وهو البيت في فن العمارة، وهو غرض آخر في فن آخر. لكن في كل فعل، وفي كل تصميم أدبي، الخير هو الغاية نفسها التي تُبتَغى».
يوضح لنا أرسطو أن غاية كل نفس عاملة على تحقيق الخير هي تحقيق السعادة، السعادة بوصفها فعالية للنفس بالفضيلة الكاملة، ويقارب وصفه للفضيلة وصف معلمه أفلاطون، عندما عرّفها كتملُّك لزمام الشهوة بالعقل، ومحبة الحكمة بالتأمل، وعدالة بين الشططين.
من هذه الأقوال نتبيّن التوجه الغربي في مسألة الأخلاق، والمنحَى الذي اتخذه تعليل وجودها كصفة رهينة بالنفس البشرية المتحضرة، والمتحضرة فقط رجوعًا إلى الوعي العام السائد حينها، القائل بأن الحضارة رهينة باليونان، وما عداها برابرة. ذلك الوعي الذي عبّر عنه الفلاسفة اليونانيون في أكثر من أثر لهم، وأكده أفلاطون وأرسطو كذلك في قولهما بحق الشعوب اليونانية في أن تستعبد غيرها، وحُرمة استعباد اليوناني لأخيه في الحضارة الأم.
هذا التصور الأخلاقي لم يعرف نهايته عند اليونان فقط، بل كان له امتداد إلى عصر الحداثة، عند عقول أخذت على عاتقها التفكير في أسسه وركائزه، إذ يربط «كانط» الأخلاق بالمجتمع، ويخرجها من انحصارها في الفرد.
أسس كانط فلسفته الأخلاقية على مفهوم الواجب، واجب الفرد تجاه الجماعة، وحدده واجبًا في حد ذاته، مجردًا من أي منفعة، وبذلك حرر مفهوم الأخلاق من الفردانية، ورفض أن تكون السعادة أو العاطفة محددتين للخير والشر، باعتبارهما متغيرتين وليس لهما من الثبات ما تقوم عليه مفاهيم كهذه.
يبيِّن كانط تصوره للواجب أكثر في كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق»، عندما يحدد «أن محافظة الإنسان على حياته واجب، والإحسان واجب، وتأمين الإنسان لسعادته الذاتية واجب غير مباشر، ومحبة الجار ولو كان عدوًّا واجب»، أي واجب مجتمعي ينطلق من الفرد الجزء نحو الجماعة الكل، خدمة لصلاحهم، وما ينبغي فعله لتحقيق هذا الصلاح الجماعي، معتبرًا أن الإنسان كائن أخلاقي، وبوصفه هكذا، فهو كائن قادر على إدراك ماهية أفعاله.
الأخلاق والتوحيد
ارتبطت التجربة الدينية عند العبرانيين بالجغرافيا التي ترعرع خلالها الوعي الديني، وبنمط عيشها القائم على البداوة والترحال.
وبعيدًا عن الفلسفة في الغرب، كان الدين كآلية رقابة أخلاقية، أحد العلل الأولى التي أسست الوعي الأخلاقي البشري، وكان وجود أحد علامات الحضارة في الأمم، ويخبرنا كتاب «ما قبل الفلسفة: الإنسان في مغامراته الفكرية الأولى» أنه عندما نُولي وجوهنا شطر الشرق الأدنى، والمقصود هنا بلاد الرافدين، تتبين لنا حقيقتان مترابطتان:
- التأمل لم يحدّد ببحث منظم (أي علمي) عن الحقيقة
- مملكة الطبيعة ومملكة الإنسان، لم تكن واحدة منهما تتميز عن الثانية
يطرح الكتاب فكرة أن التحولات التي طرأت على الفكر البشري بفعل التحضر مختلفة بين الغرب والشرق. وعلى أساس ذلك تأسس التصور الديني بين الجهتين، في حين أن الميثولوجيا اليونانية قامت على التعدد، وكان الوعي التوحيدي يسود في الشرق، بدايةً من «آمون» عند الفراعنة إلى مفهوم «الله» الإسلامي، مرورًا بالديانات الكتابية الأخرى كاليهودية والمسيحية.
ويحيلنا نفس الكتاب إلى أن التجربة الدينية عند العبرانيين، في اختلافها عن الحضارات التي عايشتها، لها ارتباط ذو أثر كبير بالجغرافيا التي ترعرع خلالها وعيها الديني، وكذلك بنمط عيشها القائم على البداوة والترحال، بحيث يفصل بين الطابع المتجسد لإله الحضر، والطابع المتعالي عن أي احتكاك مادي مع الإنسان، والمنزّه عن أي تماس بين عالم النقاء الإلهي وعالم الدنس الإنساني عند أهل البداوة، عربًا وعبرانيين.
نفس الشيء يوضحه أكثر تحليل المفكر المصري يوسف زيدان في كتابه «اللاهوت العربي وأصول العنف الديني»، في المقطع الذي يفسر فيه تقبُّل شعب حوض النيل الأدنى «معجزة تجسد المسيح»، في حين رفضها العرب في الجزيرة، ويرى أن قَحْوَلَة الصحراء وخصوبة مصر أساس ذلك الفارق في الرؤية.
ومع التوحيد، أخذت الأخلاق شكل أداة تنزيلها، أي شكلًا متجاوزًا للمادي، عموديًّا، مُنزلًا من فوق على العالم السفلي، عالم الإنسان.، شكل تعاليم مقدسة يجب على الإنسان الالتزام بها أو انتظار العقاب في الحياة الآخرة، هكذا حادت الأخلاق عن صفتها الأفقية التي طبعت الأشكال الدينية الأولى، إلى صفة مجردة مطلقة غير محدودة، فصارت بذلك أقوى وأكثر وطأةً من ذي قبل.
الطوطم والتابو: نشأة الدين في نظر فرويد
الطوطمية هي الصيغة الأولى للدين في تاريخ البشرية، وهي ديانة تؤلِّه وتقدس أحد مكونات الطبيعة.
من أشهر التفسيرات الحديثة لنشأة الدين والأخلاق، كان تفسير «سيغموند فرويد»، أبو علم النفس التحليلي، بالنسبة لفرويد فإن «الطوطمية تُعَد فعلًا الصيغة الأولى للدين في تاريخ البشرية»، والطوطمية ديانة تؤلِّه وتقدس أحد مكونات الطبيعة، أو «الطوطم»، الكلمة المشتقة من لغة «الأوجيبوا» الأمريكية الأصلية.
يُبيِّن لنا فرويد في كتابه «Totem and Taboo» قصة نشأة هذا الدين البدائي من خلال منهجه التحليلي النفساني المعهود، فيُقِر بأن الطوطمية هي عبادة الأب، معللًا ذلك بتسلط قديم للأب داخل العشيرة الأولى، فقد كان سيد العشيرة، أبوها، شديد البأس يحوز ما يحلو له من غنائمها ونسائها بفظاظة وبطش، ويعزل منها مَن يتطاول على حرمته. وهكذا وجد الأبناء أنفسهم محل ضعف، فاجتمعوا وقرروا ارتكاب "الخطيئة الأولى"، خطيئة قتل الأب، والتي ظلت تلاحقهم إلى الأبد.
يعتبر فرويد هذا الحدث، قتل الأب، مفصليًّا في تاريخ البشرية، فقد وضع الإنسان في صراع داخلي مرتبط ببشاعة صنيعه، صراع عاطفي، صراع بين ما هو مرغوب من حقوق تُقِرها نزعة البقاء وحالَ دونها الأب في ما مضى (مثال الحياة الجماعية والجنس)، وما هو مذموم مثل الفردانية والفوضى والتقتيل، وهذا ما سيتخذه فرويد أحد أعمدة نظريته لتحليل النفس (رغبات الموت ورغبات الحياة).
بَيد أن الإنسان أوجد مخرجًا لتنظيم هذه الثنائية داخله ومع الجماعة، بإلقاء صفات الأب القتيل وقدسيته على مكوِّن موضوعي موجود في الطبيعة. ومن هنا، وفقًا لفرويد، تم اعتبار الطوطم، سواء كان حيوانًا أو نباتًا، كأب مقدس، عزاءً للبشري على خطيئته، وضامنًا لثبات سيرورة المعيش الاجتماعي ومنظمًا له، جنبًا إلى جنب مقابله الآخر، أي التابو.
التابو كلمة مشتقة من اللغة «البولينيزية»، تعني ما هو محظور داخل نظام المجتمع، المحظور الذي يحدد ما يجب فعله تقديسًا للأب المقدس، الطوطم المحافظ على سيرورة البقاء، والطوطم لأنه يعتبر بمثابة أب للعشيرة كلها، فكان بذلك أن صار التزاوج من الإناث من نفس العشيرة، وبالضرورة من نفس الطوطم، أمرًا شنيعًا، وكذلك أخَذَ الموت قدسيته من قدسية موت الأب، وكان لمس الميت تابوهًا محرمًا.
يرى فرويد في نفس الكتاب أن تلك المرحلة من تاريخ البشر، زيادةً على تطابقها في بدائيتها مع بدائية فهم الطفل ووعيه المباشر المرتبط مباشرةً بمكونات واقعه الأساسية، أي أبيه وأمه، كانت أولى لبنات بناء الجهاز النفسي البشري بين الشعور واللاشعور، والمنقسم إلى «الهُوَ»، لاوعيه محل الغرائز المرفوضة والتابوهات، و«الأنا» والذي هو الوعي الفاعل الذين يوازن بين رغباته وبين مثله العليا والضوابط الاجتماعية والتي يعبر عنها «الأنا الأعلى»، وهو مجموع الوصايا والضوابط الموضوعية المحددة لصلاح كل سلوك بشري من عدم صلاحه، أي الطوطم بشكل أو بآخر.
هكذا يجيبنا فرويد عن نشأة الأخلاق بنشأة الدين عند البشر، وبتحول السلطة من يد الأب إلى التجسد في الطبيعة الموضوعة، لتعود من جديد وازعًا ذاتيًّا ومحددًا نفسيًّا، يمارس رقابته على سلوكه، ويحدد طرق وأشكال تعبيرها في الواقع.
اقرأ أيضًا: الأريحية المخادعة: من يكتب «الكود الأخلاقي» الجديد؟
الأخلاق كقيد على البشر
شهد العصر الحديث، مرحلة انتفاض عام للعقل الغربي على كل ما يربطه بماضيه، ماضٍ ليس بمعنى الأصالة التراثية المعهودة في الشرق، بل إصرار على التغيير الدائم وعدم الالتصاق بمحطة معينة. هكذا أشهَر كلٌّ من نيتشه وماركس أسلحتهما المعرفية، الأول بالجنيالوجية والثاني بالأيديولوجية، لتفكيك الأخلاق كمنظومة قيمية عليا، واعتبارها أداة يستخدمها طرف ما لتحقيق مصلحة ما.
تقوم فلسفة نيتشه على مفهوم القوة، كمحرك للواقع والتاريخ، وعلى هذا المنوال نسج فصله في مسألة الأخلاق عبر ترسانة كتبه، التي من أهمها «في جنيالوجيا الأخلاق».
قصد نيتشه من ذلك الكتاب التأصيل لمجمل القضية وحيثياتها. ففي أقسامه الثلاثة، يُسائِل ذاته كما يُسائِل القارئ حول مفاهيم الخير والشر، الضمير والزهد، إلخ، وينطلق من تكوينه اللاهوتي الأول، مقرًّا بأنه كان في أول حياته يؤمن أن الخير والشر لهما ارتباط بالله، بعد أن صار في مسيرة تفكيره ليخلُص إلى أن مفاهيم كهذه لا تعدو أن تكون من إبداع عالم الإنسان، وبذلك فهي متغيرة بتغيره، رهينة للتطور كأحد قوانينه الأكثر ثباتًا.
يسترسل نيتشه في تحليله، ليصل إلى أن مفاهيم الخير والشر نتاج الأقوياء، وذلك مردُّه إلى أن لـ«الخيِّر» في اللغة ارتباط دائم بالنبيل والقوي، أما الضعيف فقد استنبط أخلاقه من حاله نفسها، ليقلِّب قيم القوة، ويمحورها حول المسكنة والهوان. وبذلك، حسب نيتشه، عاد العجز طيبة، والانصياع طاعة، والجبن صبرًا. وفي نفس السياق، كان الضمير إنتاج القوي، إذ يثبت على مواقفه بشجاعة، بينما العقاب جزاء الضعيف المتخاذل.
بنفس الطريقة، أي ربط نشأة الأخلاق بالصراعية، لكن هذه المرة بين الطبقات الاجتماعية ومن يملك منها ومن لا يملك وسائل الإنتاج، يأتينا ماركس مبينًا أن تاريخ البشرية منذ نشأتها ما هو إلا تاريخ صراع الطبقات، وأن الصراع الطبقي المادي هو محرك التاريخ، وبنفس الشكل، كان كل الوعي البشري في مجمله نتاجًا لهذا الصراع.
قد يهمك أيضًا: ماذا لو وُجدِت أدوية لتقويم أخلاق الناس؟
رأى ماركس أن الأخلاق، إضافةً إلى أنها كثيرًا ما كانت سلاحًا يستخدم بغرض سحق الجماهير الكادحة، فهي أيضًا لا يعوّل عليها في ذاتها لإنضاج أي تحرك ثوري تحرري، انطلاقًا من مُسلّمته القائلة بأن الصراع مادي، فحسمه يكون اعتمادًا على سلاح مادي بالضرورة.
هكذا، تُفصح لنا الأيديولوجية الماركسية عن تصورها لنشأة الأخلاق، باعتبارها إنتاجًا للمُلّاك بغرض السيطرة على الكادحين، فالقيمة عند ماركس انعكاس لعلاقات الإنتاج، رغم تمثُّلها بين الأفراد بشكل مجرد.
بالنسبة لماركس، كما لنيتشه، كانت الأخلاق المسيطرة قيدًا على قدرة البشر على التحرر واكتشاف ذواتهم الأكثر أصالة، سواءً كان ذلك بالتمحور حول إرادة القوة عند نيتشه، أو النضال من أجل مجتمع دون سلطات طبقية ومساواة حقيقية عند ماركس، أي أن نفيهما للأصالة كان، في التحليل، سعيًا إلى أخلاق أكثر أصالة.
سفيان البالي