كيف غيَّر كارل ماركس وجه العالم؟

النصب التذكاري لكارل ماركس في مدينة كيمنتس الألمانية - الصورة: pixel-liebe

يوسف السنافي
نشر في 2017/02/16

هذا الموضوع ضمن ملف «الثورة والثوار»، لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.


لم يكن العالم على دراية بأن تاريخ الخامس من مايو 1818 سيضعه على موعد مع «شبح يضرب أوروبا»، يجوِّل في الأصقاع متنقلًا بين العالم العربي وإفريقيا وآسيا وأوروبا، هادمًا الأنساق الفلسفية القديمة، مؤسسًا مدارس فلسفية وحركات سياسية ومناضلين وثوريين يحملون اسمه، يصيرون «ماركسيين».

لكن رغم مساهمات كارل ماركس (Karl Marx) الاقتصادية والفلسفية التي جعلت العالم بعده مختلفًا عمَّا قبله، لا يزال اسمه موسومًا بصور نمطية ضيقة تُسطِّح النتاج العلمي الغني الذي قدمه؛ فيُرمى كل من يستشهد به إما في دائرة الإلحاد والانحلال الأخلاقي عند المؤمنين، أو دائرة المخربين والفوضويين عند رجال السلطة ومن لفَّ لفَّهم.

فكيف أسهم كارل ماركس في تحويل مسار التاريخ، ومسارات حيواتنا إلى هذا اليوم؟

الثوري الشاب والينابيع الأولى للماركسية

كارل ماركس في شبابه
كارل ماركس شابًّا - الصورة: Miran Rijavec

بدأت البذور الثورية في فكر ماركس تنمو عند التحاقه بجامعة برلين لدراسة القانون والفلسفة، حينها عرف فلسفة المفكر الألماني «هيغل»، التي شكَّلت فيما بعد الأساس الذي انطلق منه لبلورة منهجه الفلسفي التحليلي.

هناك، التحق ماركس بمجموعة تُدعى «الهيغليين الشباب»، فكانت منصته الأولى للتعبير عن رفضه لجملة من الأفكار السائدة على مختلف الأصعدة الفلسفية والسياسية والدينية والأخلاقية.

لكن سرعان ما بدأ ماركس صدامه مع السلطة، إذ أغلقت الحكومة البروسية (بروسيا هو الاسم القديم لألمانيا) الصحيفة الديمقراطية الثورية «راينيش تسايتونغ»، التي كان ماركس في عمر الرابعة والعشرين يعمل رئيس تحرير لها.

عندها انتقل ماركس إلى فرنسا، حيث التقى المهاجر الألماني «فريدريك إنجلز»، الذي أصبح فيما بعد رفيق دربه وشريكه في الإنتاج الفكري.

ومع ازدياد ضغوط الحكومة البروسية، نُفي ماركس من فرنسا إلى بلجيكا، حيث خطَّ في عمر التاسعة والعشرين هو ورفيقه «إنجلز» البيان الشيوعي. في هذا «المانيفستو»، عرَّف ماركس الخطوط العريضة للمادية التاريخية؛ المنهج العلمي الذي يحلل تاريخ المجتمعات انطلاقًا من التناقضات المادية التي تحكم العلاقات فيه. وانطلاقًا من هذا المنهج، أعلن ماركس تاريخ الإنسان تاريخًا من الصراعات الطبقية.

وترتكز المادية التاريخية التي ينطلق منها ماركس في تفسيره للتاريخ على ثلاثة أُسُس:

  1. صراع التناقضات
  2. تراكم كَمِّي يُفضي إلى تغيير نوعي
  3. نفي النفي

وانطلاقًا من هذه الأسس، يذهب ماركس إلى أن المادة والتاريخ ليسا ثابتين، بل في حركة مستمرة وصراع دائم بين متناقضات.

فإذا ما أخذنا التاريخ، أي تطور المجتمعات، سنجد أن ماركس يُعبِّر عن الحركة بكونها صراعًا بين الطبقات المستغلَّة والمستغِّلة، كطبقتي الملاك والعبيد، والإقطاعيين والفلاحين، والبرجوازيين والبروليتاريا، ويكون هذا الصراع باستخدام الأدوات الاجتماعية/السياسية المتاحة؛ مثل القانون والأحزاب السياسية والدولة بمؤسساتها، كالقضاء والشرطة والإعلام الحكومي وحلفاء السلطة.

وينتج عن هذا الصراع تراكم على المستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية، يسمح بدوره بتشكيل صيغ جديدة في طبيعة العلاقات بين الطبقات، ونتيجة لذلك يكون نفي النفي، أي إن ما سينتج عن صراع الطبقات هذا سينفي ما قبله من بِنَى اجتماعية اقتصادية، كما نفى الإقطاع نمط المشاع، وكما نفت الرأسمالية الإقطاع مع بداية العصر الصناعي، إذ يرى ماركس أن الشيوعية ستنفي الرأسمالية نتيجةً لما يخلِّفه صراع الطبقات.

وكما ينفي صراع الطبقات ما يسبقه من علاقات اجتماعية، كذلك فعل ماركس مع أفكار من سبقوه من فلاسفة واقتصاديين وسياسيين.

كارل ماركس
الصورة: Beyaz Deriili

ويشرح قائد الثورة البلشفية «فلاديمير لينين» (Vladimir Lenin) في كتاب «مصادر الماركسية الثلاثة» أن ماركس انطلق في صياغة نظريته من ثلاثة مصادر؛ هي الفلسفة الألمانية المتمثلة بنتاج «هيغل»، والاقتصاد السياسي الإنجليزي، والاشتراكية الفرنسية.

قامت المادية التاريخية التي تحدَّث عنها ماركس على الصراع بين نقيضين وتؤسس لـ«تقدم التاريخ».

إلا أن ماركس حاجج وفنَّد ودحض، هو ورفيقه «إنجلز» في كتاباتهم، كل المغالطات التي طرحها الفلاسفة الألمان والاشتراكيون الفرنسيون والاقتصاديون الإنجليز ممن سبقوهم؛ ككتاب «ضد دوهرينغ» لـ«إنجلز»، وكتاب ماركس «بؤس الفلسفة: رد على فلسفة البؤس لبرودون»، وكذلك «نقد فلسفة الحق عند هيغل».

ويمكننا أن نختصر كل هذا الحديث بالمقولة الشائعة عن ماركس وأثره في الفكر الإنساني: «جعل ماركس الفلسفة تمشي على رجليها، بعدما كانت تسير على رأسها مع هيغل ».

اقرأ أيضًا: «غولدمان ساكس»: الإمبراطورية المالية التي تحكم العالم

أين يمكن أن نجد ماركس وثورته اليوم؟

تمثال كارل ماركس وإنغلز التذكاري في برلين
تمثال كارل ماركس و«إنغلز» التذكاري في برلين - الصورة: Manfred Brückels

كان الاتحاد السوفييتي أول من تبنى الماركسية من خلال الثورة البلشفية عام 1917، مكونًا بذلك «ديكتاتورية البروليتاريا» أو «سلطة العمال»؛ وهو النظام الذي يقوم على فكرة بناء مؤسسات الدولة عن طريق المجالس العمالية المنتخبة ديمقراطيًّا، على اعتبار أن طبقة العمال هي الممثل الحقيقي للأغلبية المضطَهَدة في المجتمع.

وتأتي «ديكتاتورية البروليتاريا» كنظرية مضادة للفكرة الديمقراطية الليبرالية، والتي يراها ماركس تُعبِّر عن الأقلية المُستغِلَّة من أصحاب رؤوس الأموال، وليس عن الطبقة الكادحة.

استمر الاتحاد السوفييتي حتى عام 1991، ثم انهار وتفكك إلى دويلات معلنًا انتهاء الحرب الباردة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ممثلة النظام الرأسمالي القائم على الديمقراطية الليبرالية. وبُعَيد الانهيار، بدأ مثقفو المعسكر المناوئ لماركس والماركسية في سرد النظريات «المبشِّرة» بانتصار الليبرالية الديمقراطية، وأعلنوا أن هذا الانتصار هو «نهاية التاريخ» ونهاية صراع الطبقات.

فإذا كانت المادية التاريخية التي تحدث عنها ماركس تقوم على الصراع بين نقيضين، وهو ما يؤسس لـ«تقدم التاريخ»، فإن نهاية الصراع بين الرأسمالية والشيوعية وانتهاء المشروع الشيوعي يعني انتصار وسيادة الرأسمالية والفكر الديمقراطي الليبرالي وانتفاء الصراع، الأمر الذي يؤدي إلى «نهاية التاريخ» كما رأى «فرانسيس فوكوياما» (Francis Fukuyama)، وجادله أستاذه «صامويل هنتغتون» (Samuel P. Huntington)، الذي رأى أن الصراع المقبل سيكون بين الثقافات/الحضارات.

منحنا ماركس نظرية تشرح لنا أسباب تطور مجتمعاتنا، وتشرح بالتالي كيف يُكتب التاريخ.

اصطدمت النظريات التي تبعت انهيار الاتحاد السوفييتي بواقع جديد مع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008.

بسبب ذلك، سجَّل المفكر الماركسي البريطاني «آلان وودز» (Alan woods)، في إصداره «راهنية أفكار كارل ماركس»، أن تلك الأفكار «صمدت أمام اختبار التاريخ الاقتصادي وخرجت الآن منتصرة»، إذ كان ماركس قد شرح في كتابه «رأس المال» أن السوق الرأسمالية لا تضبط نفسها تلقائيًّا، بل تُنتج بفعل تناقضاتها الداخلية أزمات دورية تؤدي إلى انهيارها، كما حصل في أزمة عام 2008.

مظاهرات البحرين 2011
مظاهرات البحرين 2011 - الصورة: Bahrain in pictures

كذلك كان الربيع العربي حدثًا جديدًا يبرهن على الأهمية الراهنة لأفكار ماركس، فجلبير الأشقر، صاحب كتاب «الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية» والأستاذ بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن، يقول إن أفكار ماركس تبرهن على أهمية حضورها في تحليل الربيع العربي؛ لتقارب الحالة العربية مع حالة أوروبا إبان تحولها من الإقطاع الزراعي لمرحلة الثورة الصناعية.

وحسب كلامه، فإن صيغة ماركس هي الأرقى في دراسة التحولات الثورية، وحالة الصراع بين النقيضين في الربيع العربي كانت في أوجها، وكانت الطاقة الانفجارية للمجتمع حالة حاضرة نتيجة هذا الصراع. ويؤكد الأشقر أن تناول ماركس على ضوء أحداث الربيع  لا يأتي من باب التعصب الفكري، وإنما في سياق تأكيد الواقع للنظرية فيما حصل في الدول العربية.

كفيلسوف، منحنا ماركس نظرية لا تزال تثبت جدواها في «المادية التاريخية»، تشرح لنا أسباب تطور مجتمعاتنا وبالتالي تشرح كيف يُكتب التاريخ.

رأى كارل ماركس في الصراع الطبقي محركًا أساسيًّا في هذا التاريخ، وبينما تتجدد صراعاتنا كبشر وتصعد قوى وتخفت أخرى، سيبقى الرجل الراقد في مقبرة «هايغيت» في لندن يرمقنا من بعيد، رافعًا إصبعه الوسطى ضاحكًا كلما اكتشف شخص جديد بؤس الرأسمالية، صارخًا من هناك: «ألم أقل لكم!».

مواضيع مشابهة