الأريحية المخادعة: من يكتب «الكود الأخلاقي» الجديد؟

الصورة: Getty/Luis Orteo

بلال علاء
نشر في 2017/11/20

ما الذي يضايق سائق سيارة ميكروباص إذا سمع ضحكة فتاة من ورائه، أو لو لمح سائق التاكسي في المرآة رجلًا يمسك بيد صديقته، أو رأى الناس في الشارع شابًّا يُطيل شعره بشكل مثير للانتباه، أو امرأة تلبس فستانًا مكشوفًا، أو سمعوا ولدًا يسب في الشارع؟

بماذا يشعر بالضبط الرجل المتدين حين يتابع حوارًا جريئًا ينقد في معتقدات شخص ما بشكل صريح؟ لماذا يتضايق الشاب الثلاثيني حين يُشغِّل سائق الميكروباص أغنية صاخبة، ويتدخل لنصحه بأن يشغل إذاعة القرآن الكريم بدلًا من هذه «الهيصة»؟

إنها الأريحية، أريحية أن شخصًا ما يتصرف كأن لا وجود للآخرين، مهملًا القواعد القديمة لصالح أخرى لم تُكتب بعد. الأريحية مربكة، لأنها نمط حياة غير محافظ، خروج شيء ذاتي إلى العلن، شيء كان موجودًا دائمًا هناك خلف الستار، الجميع على علم به، لكن أحدًا لا يعترف به، ويمكن أن يحدث تواطؤ جمعي على تجاهله.

الشعور بأن شيئًا ما ينفلت يخلق توترًا في المجتمع، إنه دليل على أن خللًا ما حدث ويجب علاجه، أما المنفلت فسيحاول الجميع ضبطه وإعادته إلى وضعه المستقر، تقييده مرة أخرى، قبل أن يفلت فعلًا ليخلق شيئًا جديدًا، وبالتالي، مجهولًا ومخيفًا.

المسلم الأعلى: أدوات الضبط الاجتماعي

غرافيتي على كورنيش الإسكندرية

تحيل جامعة طنطا مجموعة من طلابها إلى التحقيق، لأنهم شاركوا في مشهد تقدّم فيه شاب يخطب فتاة في قلب الجامعة، ثم يحتضنان بعضهما بعد موافقتها على الطلب، بانفتاح الأجيال الشابة على العالم والثقافة الغربية التي يُعَد فيها هذا التصرف حميميًّا وصائبًا وأكثر عصرية، ويعطي الفتاة مكانة مميزة، إذ يكون من حقها مباشرة أن تعلن قرارها. يبدو تصرف الولد والفتاة مفهومًا تمامًا، حتى وإن كانا بالتأكيد قد أعلما عائلتيهما بالأمر قبلها.

على الجانب الآخر، تصرف الجامعة كان جديدًا للغاية، ليس لأنها كانت متسامحة تاريخيًّا مع تصرفات مثل هذه، بل لأنها لم تكن مهمتها. كان تصرفٌ مثل هذا لتمنعه «القوافل الدعوية» التي يطلقها الإسلاميون في الجامعة لمضايقة من يعتبرونهم «منحلين»، بل في الأغلب، لم يكن الولد ليفكر في حركة بريئة كهذه من الأصل تجنبًا لأي مضايقات محتملة.

في أوقات تصاعد هيمنتهم المجتمعية، كان دور الإسلاميين هو العمل كأدوات ضبط مجتمعي، تعريف الصحيح والخاطئ، التفاوض اليومي مع المجتمع، بالكلام كما بالعنف الرمزي والمادي، على حدود المسموح به. نقصد بالهيمنة هنا الرضوح المجتمعي للمرجعية الإسلامية كمعيار للحكم الأخلاقي، وهي هيمنة كان الصراع المجتمعي في عقود ما قبل الثورة المصرية صراعًا حول من يتحدث باسمها، وليس حولها هي نفسها.

أبرز صفات أدوات الضبط الاجتماعي أنها ما دامت تنطلق من هيمنة حقيقية، فهي لا تضطر إلى استخدام العنف إلا في حدود ضيقة جدًّا، إذ العنف دليل على مقاومة شديدة لم تقبل الخضوع أو التفاوض. يفسر هذا لجوء الإسلاميين في بداية صعودهم الاجتماعي في السبعينيات إلى استخدام العنف المادي في الجامعات ضد كل يرفضونه، ثم خفوت هذا العنف بالوقت، وصولًا إلى شبه انعدام في العقد الأول من الألفية الثالثة.

يتوازى تراجع الحاجة إلى استخدام الإسلاميين للعنف في إنفاذ الإرادة، مع زيادة ملحوظة في المنتجات الخطابية التي تستهدف إقناع الناس بالحسنى. لم يكن الإسلاميون يفرضون آراءهم بعنف مادي متواتر فقط، بل بأشرطة كاسيت وندوات ومعارض ومحلات للحجاب وخطب دينية وجمعيات خيرية وأنشطة رياضية ومدارس إسلامية وكتب دينية وفكرية مختلفة الدرجة من الجدية والسطحية، وهذا الإنتاج الخطابي لا يترك المرء يُفلت منه بسهولة.

في مواجهة «المسلم الأعلى»، يصبح بقية المسلمين «مسلمون أقل»، ويشعرون بالرغبة في تعويض نقصهم، ويعترفون بفضل المسلم الأعلى عليهم.

يخرج المرء من بيته إلى الجامعة ليجد سائق الميكروباص يستمع إلى شريط ديني، يصل الجامعة فيجد من يصعد ليقول كلمة دينية قبل المحاضرة، ثم حتى في الاستراحة بين المحاضرات سيجد أفرادًا من جماعات إسلامية مختلفة تحاول إقناعه بهذا السلوك أو ذلك، يدخل المسجد ليجد الأمر نفسه، يخرج إلى الشارع فيجد ملصقات تدعه إلى الاستغفار أو إطالة لحيته أو لبس الحجاب، وهكذا، عمل دوؤب ورتيب من آلاف الناس وبمختلف الوسائل وفي كل مكان، يشكل في مجموعِه هذه الهيمنة.

بجوار كل تلك المنتجات، وفرت هذه الهيمنة كذلك مركز تحققها المجتمعي، مثالها الأعلى الذي يحصد كل ما ترزقه. وكأي مثال أعلى، كان عليه أن يبدو بعيدًا ومرهِقًا لكنه ممكن في الوقت ذاته، ليخلق شعورًا بالتقصير. هذا المثال يمكننا أن نطلق عليه، باقتباس غير دقيق لفتحي بن سلامة، «المسلم الأعلى».

المسلم الأعلى كما يجب أن يكون هو المسلم الإسلامي في نسخته الإخوانية، مسلم متعلم ناجح مهنيًّا ومتفوق في دراسته، مهذب، محافظ على عباداته، وفي نفس الوقت ودود واجتماعي، وفوق كل ذلك على استعداد للتضحية من أجل أفكاره.

وبما أن غالبية المسلمين بعيدون بقدر أو آخر عن عن هذا المثال، يحق للمسلم الأعلى أن يوجههم ويحكم عليهم أخلاقيًّا، بينما يقر بقية المسلمين أمام هذا المسلم بتقصيرهم، و«ادعيلنا بالهداية»، و«ادعيلي ربنا يقويني وألتزم بالصلاة»، و«نفسي أتحجب فعلًا». ففي مواجهة المسلم الأعلى، يصبح بقية المسلمين «مسلمون أقل»، ويشعرون بالذنب والرغبة في تعويض نقصهم. وما داموا لا يستطيعون ذلك، فعلى الأقل عليهم أن يعترفوا بفضل المسلم الأعلى عليهم.

قد يهمك أيضًا: ماذا تبقى من الصحوة الإسلامية؟

لا مجال لمناقشة المسلم الأعلى أو الاعتراض عليه في ظل هيمنته، فهو منتصر ويعلم ذلك، ويعلم أن مَن أمامه لا يستطيع أن يرد عليه الحجة بالحجة، حتى لو لم يكن مقتنعًا بمرجعية الدين، أو مقتنعا برأي ديني آخر، يكفي «المسلم الأعلى» أن يقول لمن يناقشه: «وللا إنتا مش عاجبك كلام ربنا؟» حتى ينهزم أمامه.

بدأت الانطلاقة الإسلامية من الشرائح الدنيا للطبقة المتوسطة، التي ترى التعليم طريقها الأوحد للصعود الاجتماعي، فحُسم موضوع عمل المرأة مبكرًا بشجيعه بشرط تحجبها.

يسير «المسلم الأعلى» داخل الجامعة في قوافله الدعوية، وفي الشارع وفي التلفزيون، وفي أي مجال عام للطبقة المتوسطة، مطمئنًّا لمكانته، سيتطفل على حيوات الآخرين وهو يعلم أنهم لن يفعلوا سوى طأطأة رؤوسهم بخجل المذنبين، إنها الهيمنة في تحققها الكامل.

يصلح «الحجاب» كنموذج لكيفية عمل هذه الهيمنة، التي تبدأ من نشر الحكم الفقهي لوجوبه، ثم تمر بوصم غير المحجبة بالخلاعة، ثم التفاوض غير المباشر مع المجتمع في شكل الحجاب نفسه.

انتشار الحجاب لم يكن مجرد عملية أحادية ينصاع فيها المجتمع لطرح الإسلاميين، طبقةً تلو الأخرى، بل تفاوض يومي دؤوب حول شكله وطوله، ومعه تفاوض شديد الارتباط به عن شكل الاختلاط المباح بين الجنسين، وحدود الصداقات. وكأي تفاوض، كانت التنازلات من الطرفين.

فمثلًا، رغم أن هناك آراء تراثية قوية ترفض خروج المرأة إلى العمل والاختلاط بالرجال، كان من المفترض أن ترفض الكتلة الأكبر من الإسلاميين عمل المرأة ودخولها الجامعات المختلطة، لكن لأن الانطلاقة الإسلامية الأساسية كانت من الشرائح الدنيا للطبقة المتوسطة، التي كانت ترى في التعليم طريقها الأوحد للصعود الاجتماعي، حُسم الموضوع مبكرًا لصالح القبول بعمل المرأة وتشجيعه بشرط تحجبها، ودون هذا التنازل كان الإسلاميون سيضطرون إلى مواجهة مقاومة شديدة من المجتمع، ينهزمون فيها بشكل كامل، وبتنازلهم استطاعوا أن يجعلوا المجتمع هو من يتنازل.

يظهر التفاوض كذلك في موضة الدعاة الجدد، التي تمكنت من اختراق الطبقات المتوسطة العليا في أوائل الألفية، لكن بعد تنازلات متبادلة، تنصاع فيها الطبقة للحجاب، وينصاع الإسلاميون للموسيقى والاختلاط «البريء» في الأعمال الخيرية التي يشترك فيها الجنسين معًا.

وفي ظل هذه الهيمنة، يمكن طبعًا التملص من تنفيذها لكن بشرط عدم التمرد الفكري عليها، يمكن لفتيات الطبقات العليا أو المذيعات أن لا يلتزمن بالحجاب، لكن مع التأكيد الدؤوب أنه في خططهن المستقلبية، إنه فقط «ضعف النفس» الذي يمنعهن من ذلك، فالهيمنة الإسلامية تتسامح مع المقر بذنبه، لا مع الخارج عنها، والجميع استوعبوا هذه المعادلة.

«الثوري»: خيال اجتماعي جديد؟

الصورة: Alisdare Hickson

«الكل يعرف الآن (بمن فيهم الاقتصاديون البرجوازيون الذين لا يزيد عملهم عن كونه «محاسبات وطنية»، أو ليسوا «منظرين» للاقتصاد الكبير المعاصر) أنه لا يمكن أن يحدث إنتاج لا يسمح بإعادة إنتاج الظروف المادية للإنتاج: إعادة إنتاج وسائل الإنتاج». - «لوي ألتوسير».

مع التحول النوعي في خطاب الإخوان نتيجةً لموقعهم في مركز السياسة، صعدت مقاومة مجتمعية تحاول التفاوض من جديد حول حدود المسموح به.

ترتبط القدرة على استمرار الإنتاج بالقدرة على إنتاج نفس ظروف الإنتاج مرةً أخرى، أي إعادة خلق الشروط ذاتها التي جعلت الإنتاج ممكنًا من البداية.

بالمثل، يكون المجتمع مستقرًّا حين يكون ناجعًا في إعادة إنتاج نفس الشروط التي نشأ فيها، فلو كان مبنيًّا مثلًا على توازنات معينة للقوى بين الدولة والإسلاميين، وهو تحليل مختزَل للتوضيح، فكي يستمر كما هو، على كلٍّ من الدولة والإسلاميين أن ينجحوا في إعادة إنتاج هيمنتهم المجتمعية على الداوم، وأي فشل جزئي في ذلك يخلق إمكانية الانفلات المقبلة.

في السنوات القليلة قبل ثورة 25 يناير، بدأت أدوات الضبط الإسلامية بالتقادم قليلًا لأسباب كثيرة، منها انفتاح مساحات جديدة كالإنترنت، مساحات كانت بعيدة عن قدرة أدوات الضبط التقليدية على حكمها، ولكونها جديدة بالذات، شكلت ساحات «برّية» لم تتطور فيها آلياتٌ للمراقبة والعقاب، وكانت فرصة واسعة للانفلات.

ومع المساحات الافتراضية الجديدة هذه، انفتحت مساحات مادية في المجال العام بسبب وجود حراك سياسي معارض يرفع شعارات علمانية مثل الحرية والديمقراطية، حتى وإن كان الإخوان المسلمون في صلبه، إلا إن خطابهم كان مضبوطًا بالحراك الديمقراطي أكثر من كونه ضابطًا له، عدا في مسألة عدم التصريح بالعلمانية والاكتفاء بكلمة «المدنية».

مع هذا الخفوت، وزيادة أثر المساحات البرّية الافتراضية على الواقع نفسه، وتحول نوعي في خطاب الإخوان نتيجةً لموقعهم في مركز السياسة لا في هامشها مع دخولهم الكبير إلى البرلمان، بدأت فاعلية أدوات الضبط تقل، وتصعد مقاومة مجتمعية تحاول التفاوض من جديد حول حدود المسموح به.

أفلام أكثر جرأةً في مسألة الجنس، مسلسلات تتحدث عن الإسلاميين صراحةً، حراك سياسي قوي مكون في أغلبه من علمانيين، صحف معارضة تستخدم لهجة قوية وغير مدجنة في مواجهة الدولة، مدونون شباب يستغلون فسحة الإنترنت ليستخدموا لغة أكثر انفلاتًا وتحررًا، بل وإسلاميون ينتقدون جماعاتهم بوضوح في العلن.

خلقت الثورة خيال اجتماعي منافس لخيال الإسلاميين، خيال اجتماعي للصواب والخطأ معياره الحرية أو الثورة.

صحيحٌ أنه في هذه السنوات تحديدًا كان هناك حراك إسلامي مجتمعي يقوده السلفيون، متزامن مع افتتاح قنوات سلفية صريحة وحرية حركة في الخطابة والتنقل تمتع بها شيوخ السلفيين في هذه المرحلة، ربما كاستراتيجية من الدولة لتحجيم الإخوان، ونجح السلفيون بالفعل في كسب مساحات هيمنة كانت متروكة للإخوان بشكل كامل، وأصبح شيوخهم شخصيات محصنة من النقد والسخرية.

إلا أنه في ما يخصنا هنا، كان النموذج الأعلى للسلفيين صعب التحقق، ولا يقدم تنازلات، ويطلب أن يرضخ الجميع له دون أي خطط لمحاولة تقليده، أو بفشل سريع لمحاولات الانغماس فيه.

ولأنه صعب التحقق بالذات، وبالتالي يخلق طاقة إحساس بالذنب أقوى وبحاجة إلى أن تفرغ نفسها (لذلك ينتج عنه عنف رمزي ومادي أقوى من جانب هؤلاء الذين يعتقدون فيه دون أن يطبقوه فعلًا)، كان طبيعيًّا، بمجئ الثورة وتخلص شرائح واسعة من هذا الإحساس الذنب، أن تنتهي معه وبسرعة وطأة الهيمنة السلفية.

كانت هناك عمليتان متوازيتان تحدثان في الثورة، الأولى هي تحطيمها قدرة المجتمع القديم على إعادة إنتاج نفسه، بتحطيم قدرته على إعادة خلق نفس شروط وجوده مرةً أخرى، سواءً لأدوات هيمنته الاجتماعية أو حتى لشروط قابلية هيمنتها، ومنها الإحساس بالذنب الذي تتغذى الهيمنة الإسلامية عليه، ويمكن هنا أن نلاحظ أنه من بعد يناير 2011 لم يُنتج الإسلاميون لوقت طويل أي داعية ديني بنفس حجم وقوة تأثير الدعاة الأقدم.

العملية الثانية للثورة كانت خلقها خيالًا اجتماعيًّا جديدًا ينافس خيال الإسلاميين، خيال اجتماعي للصواب والخطأ معياره الحرية أو الثورة.

اقرأ أيضًا: «الثورة والثوار»: عن أولئك الذين غيَّروا ويغيِّرون هذا العالم

هذا الخيال ليس بالضرورة علمانيًّا، لكنه أصبح كذلك باصطدامه بالإسلاميين، وبتصدر حركات وتيارات علمانية لحركة الثورة. الرغبة في مجتمع جديد كانت تتطلب خيالًا جديدًا، كما كانت تتضمن رغبةً في الانفلات، وهو الأمر الذي لم يحُزه الإسلاميون، الذين كانوا ركنًا أصيلًا في شكل المجتمع القديم، وأدوات ضبطه.

أصبح «الثوري» منافسًا لـ«المسلم الأعلى» رأسًا برأس، على الأقل بالنسبة إلى الأجيال الشابة، وأصبحت الثورة تشكل عالمًا جديدًا له أبطاله ومعاركه وصوره ومناصريه وأعداؤه.

ومثل «المسلم الأعلى»، كان الثوري مستعدًّا للتضحية والمواجهة، لكن هذا الثوري لم يكن ثوريًّا أعلى، أي لم يقدم نفسه كمثال يجب على الجميع تقليده أو الاعتراف بالتقصير إليه. يعود ذلك إلى أسباب كثيرة، أهمها أن «الثوري» لم يكن حالة أخلاقية تمتثل لمرجعية واضحة، بل تعبيرًا عن رغبة في التضحية من أجل خير تجريدي، وإذًا لم يكن هناك نمط حياة معين يُفترض بالناس أن يقلدوا الثوري فيه، إلا الرغبة في التضحية نفسها.

لا يعني ذلك أن «الثوري» لا يمكن جمع أنماطه تحت أوصاف شبه جامعة، فنمط الثوري المتحرر نسبيًّا والمنفتح على حياة مختلطة وتفكير نقدي في الدين وانفلات لغوي، أو حتى النمط الآخر الثوري الإسلامي سليط الإنسان المتعجرف الراغب في التعبير عن تصور شديد القمعية كما يريد غير المنضبط بـ«الديمقراطية» و«الحداثة»، يجمع الاثنان انفلاتهما من أدوات الضبط التي كانت تلجمهما قبل ذلك، وإن تميز الأول بكونه وعدًا بعالم جديد، فصارت له الجرأة على السخرية من المسلم الأعلى، وإنزاله من على عرش الخيال الاجتماعي للمجتمع، لكن دون أن يتمكن من الجلوس مكانه.

على عكس المسلم الأعلى الذي وُلد عجوزًا، كان الثوري كنمط تعبيرًا عن لحظة معينة، عن انفلات ما، ولم يكن محملًا بقيم واضحة، وإن غلب عليه خليط من الليبرالية واليسارية والمحافَظة. وبالوقت، وبتصاعد الاستقطاب مع الإسلاميين، كان المكوِّن المحافظ يتراجع بشكل حاد لصالح نزعة تحررية مجتمعية أكثر وضوحًا.

كانت مظاهرات 30 يونيو تعبيرًا عن التجرؤ على الإسلاميين، تجرؤ لم يكن ممكنًا قبل الثورة، ولم يكن ممكنًا دون انفلات «الثوري» واستعداده لمناكفة «المسلم الأعلى».

هذا التجذير العلماني وصل ذروته في عهد محمد مرسي، حين اختلطت النزعات العلمانية مع الشعبوية والدولاتية والثورية، لتكوِّن حراكًا معارضًا ضخمًا سلب الإسلاميين أي أحقية في ممارسة مهمة الضبط الاجتماعي.

كان وجود الإسلاميين في الحكم، حتى لو لم يكونوا مسيطرين بشكل حقيقي على السلطة، فرصة أوسع للشعور بالانفلات الصريح من هيمنتهم، شعور تقاطع مع مشاعر «دولتية» ترى في هذا الانفلات والهجوم على الإسلاميين فرصة لسلبهم ما أخذوه ولم يكن من حقهم، في رأي هذه القطاعات، أي رأت في الانفلات من الإسلاميين فرصة لضبط الانفلات الإسلامي في السلطة.

كان تتويج هذا الحراك بمظاهرات 30 يونيو، التي أقصت الإسلاميين من المجال العام برمته، وليس فقط من السلطة أو سحب مهمة الضبط الاجتماعي منهم. نجح الثوري في كسر عجلة إعادة إنتاج نفس المجتمع القديم مرةً أخرى، لكنه لم ينتج شيئًا جديدًا فعلًا.

وفي مضمونها، كانت 30 يونيو تعبيرًا عن التجرؤ على الإسلاميين، تجرؤ لم يكن ممكنًا قبل الثورة، ولم يكن ممكنًا دون انفلات الثوري واستعداده لمناكفة «المسلم الأعلى».

النوافذ المحطمة

سرقة محل خمور بالقرب من ميدان التحرير خلال ثورة يناير

في عِلم الجريمة الأمريكي، تشتهر نظرية «النوافذ المحطمة». تقول النظرية إن الحي الذي توجد به نافذة مكسورة هو حيٌّ أكثر عرضة لأن تتكسر فيه نوافذ أخرى، ثم تُسرق سيارات منه، ثم يصبح مع الوقت مكانًا خطرًا. هذا الخطر كان يمكن درءَه ببساطة لو أُصلِحت النافذة المحطمة الأولى.

تقترح النظرية أنه يجب على الشرطة أن تهتم بالجرائم الصغيرة، لأن هذا الاهتمام سيخلق بالوقت شعورًا عامًّا بالانضباط وهيبة القانون، وستقل الجرائم الكبيرة بالتبعية.

يمكن تخيل حالة الشارع المصري بعد 30 يونيو من وجهة نظر الأمن، كشارع مليء بالنوافذ المكسورة والعربات المسروقة، جنبًا إلى جنب مع الجرائم الكبيرة. الأمن كان خبيرًا في التعامل مع الجرائم الكبيرة هذه، لكن الضبط المجتمعي على المستوى الأصغر كان مهمة الإسلاميين، الذين تلاحقهم الدولة الآن كمرتكبين للجرائم الكبرى، وإذًا لم يعد هناك من يتعامل مع النوافذ المكسورة.

النوافذ المكسورة هنا هي الانفلات المجتمعي النسبي، مقارنةً بشكل مجتمع ما قبل الثورة، والتوجه التحرري العام عند الشباب، الذي تريد الدولة أن تضبطه لكن دون أن تمتلك خبرة كبيرة في هذا المجال.

فرغم أن دعاية القريبين من الدولة ارتكزت في معارضة الإخوان إلى التخويف من حكم ديني وكبت للحريات، فإن الدولة، بمجرد سقوطهم، ارتبكت في التعامل مع تراجع «هيبة الدين»، وجرأة مجموعات متزايدة على مناقشته ونقده بشكل صريح، ارتباك ظهر في سماحها ببرامج تنتقد بشكل سطحي مسلّمات دينية، لكنها ليست من صلب الدين، مثل برنامج إسلام البحيري، وفي الوقت نفسه تشن حملة اعتقالات للملحدين تحت تهمة «ازدراء الدين الإسلامي».

تحسم الدولة موقفها أخيرًا بوقف برنامج إسلام البحيري، بل وسجنه، وتنحاز بشكل نهائي إلى الأزهر، في الوقت الذي كانت تتبنى فيه حملة إعلامية تجريدية لـ«تجديد الخطاب الديني»، دون أن يكون لهذه الحملة أي اتجاه أو مسار أو رؤية أو منتَج أو تأثير، وظهرت واختفت دون أن يشعر بها أحد.

الضابط المضحي يتعالى لأن الناس لا يستطيعون أن يكونوا مثله، فالطريق إليه مخصص لأناس معينين دون غيرهم، ولا يمكن أن يحتوي الشعب كله.

كان «المسلم الأعلى» يطرح نموذجًا يمكن لأي أحد أن يقلده، بينما كان «الثوري» محتفيًا بالانفلات، لكن المثال الأعلى للدولة الآن، أي «الضابط المضحي» الذي يواجه الإرهاب فيما بقية الناس يفعلون أشياء غير مهمة قطعًا، أو «المسؤول الذي يتحمل مكرهًا عبء البلد والناس»، ليس نموذجًا يمكن لأي أحد أن يكونه.

المثال المطروح للمواطنين لتقليده هو «المواطن الصالح»، أي المواطن غير المنفلت بأي شكل، لكنه هذا المواطن لن يصل إلى النموذج الأعلى، ليس لأنه لا يستطيع أن يكبت شهواته ويتعبد كالمسلم الأعلى، وليس لأنه يجبن عن التضحية كالثوري، ولكن لأنه ما مِن وسيلة أمامه ليكون ضابطًا مضحيًا أو مسؤولًا.

المسلم الأعلى، كما الثوري، كانا يتعاليان لاعتقادهما بعدم جرأة الناس على تقليدهما والتضحية مثلهما، وإذًا كان جزء من هيمنتهما هو استثمارهما في شعور الناس بالنقص تجاههما.

الضابط المضحي والمسؤول المكرَه يتعاليان لأن الناس لا يستطيعون أن يكونوا مثلهما أصلًا، ليس لجبنٍ أو عجز، ولكن لأن الطريق إلى المثال مخصص لأناس معينين دون غيرهم، ولا يمكن أن يحتوي الشعب كله، والمثال الآخر المتاح للعامة هو «المواطن الصالح» يصعب أن يصير مهيمنًا لأنه لا يحتوي على أي قيم إيجابية، وتعميمه يكون بعقاب من يخرج من صورته، أي المنفلت.

نموذج «المواطن الصالح» يشترك في نقاط ضعف الثوري، فهو مجرد تعبير عن علاقة مع السلطة دون قيم أخلاقية معينة، يمكنه أن يحدد ما الذي يرفضه، لكن ماذا يريد فعلًا؟

ربما يرفض رئيس جامعة هنا أو مسؤول هناك نمطًا معينًا من ملابس السيدات لأنها تخرج في رأيه عن الآداب العامة، أو كلمات معينة يتداولها الشباب لأنها لا تحترم «حُرمة المجال العام»، لكن ما الذي يريده مثلًا من البنات؟ أن يكونوا محجبات؟ أي حجاب؟ سافرات محتشمات؟ أم أن الأمر يختلف باختلاف الانتماء الطبقي للمسؤول ومحل عمله، وبالتالي يكون مجرد تعبير عن نزعة محافظة غير متبلورة، ومتأثرة بهذا القدر أو ذاك بالهيمنة الإسلامية القديمة؟

تتسامح الدولة مع أي فعل لا يعبِّر عن نزعة تمرد، وترفض أي خروج عن المعتاد مهما كان شكله وسببه، فكيف تضبط هذا الانفلات؟

الدولة، بجوار أنها لا تملك نموذجًا لتروِّج له، أيضًا لا تمتلك نموذجًا لترفضه، المواطن الصالح في نظرها هو المواطن غير المتمرد والخاضع لثقافة طبقته، أيًّا كانت تلك الثقافة.

المطلوب من المواطن الصالح أن «يعيش عيشة أهله»، أيًّا كان شكل تلك العيشة، فالفتاة التي ترتدي فساتين قصيرة وتنتمي إلى الطبقة العليا فتاة صالحة، بينما نفس الملابس لبنت من طبقات أدنى ستكون فعلًا متمردًا، وبالتالي ستقف الدولة في وجهه، ورجل الأعمال الذي يشرب الكحوليات لا يضيره هذا في شيء، لكن الرجل ابن الطبقة المتوسطة الذي يفعل ذلك سيُعتبر منفلتًا عن قيم طبقته.

قد يعجبك أيضًا: معضلات قد تدفعك إلى إعادة التفكير في أخلاقك

تتسامح الدولة مع أي فعل اجتماعي ما دام هذا الفعل ليس تعبيرًا عن أي نزعة تمرد أو تجديد أو رغبة في الخروج من المعتاد، وترفض أي خروج عن المعتاد مهما كان شكله وأسبابه ومنطقه، لكن كيف يمكن للدولة ضبط هذا الانفلات؟

تبدو الدولة قادرة على إنتاج خطابات، أغنيات وأفلام وكتب، للترويج لنموذج الضابط المضحي والمسؤول المكرَه، لكنها غير قادرة على سد الفراغ الخطابي الذي خلقه انسحاب الإسلاميين من المجال العام، المواطن الصالح يتعلم أن يحترم الضابط المضحي، لكنه لا يتعلم ماذا عليه هو أن يكون.

كان المسلم الأعلى يتولى إصلاح النوافذ المكسورة، ويعاقب من يخترقون القواعد البسيطة، ويفرض الحد الأدنى من الانضباط الذي يريد. والآن، بوِسع فئات أكثر أن تتجول في المدينة منفلتةً من القواعد القديمة للإسلاميين دون أن تجد من يمنعها من البداية. ربما تعاقبهم الدولة في نهاية المطاف إذا ارتكبوا خروجًا كبيرًا عن القواعد، لكن دون «النوافذ المحطمة»، ربما خروج مثل ذلك لم يكن ليحدث من البداية.

اعتادت الدولة العمل كمفاوض بين الإسلاميين والمجتمع، يثور الإسلاميون لمخالفة هنا أو هناك فترضيهم الدولة بحل وسط، تمنع فيلمًا ما أو رواية أو كاتبًا، دون أن تعاقبهم بالشكل الذي يرضي الإسلامين تمامًا، حتى لا تتبنى الدولة خطاب الإسلاميين حتى النهاية، لأن ذلك يعني نهايتها.

أدوات الضبط الاجتماعي الإسلامي كانت تنتهي عند حدود الدولة ومؤسساتها ورجالاتها وطبقاتها العليا، كانت الدولة حريصة على الدوام على وضع خطوط واضحة تفصلها في أذهان الناس والدول عن الإسلاميين، الدولة مثلًا في العهد المباركي لم تكن ترفض أن تتحجب النساء، بل وربما يشجع قياديوها من المستوى الثالث فما دونه عليه، لكن تلفزيون الدولة سيكون لغير المحجبات بشكل حصري.

ربما في تلك المسافة التي كانت الدولة تبعدها عن الإسلاميين تكمُن كل «علمانيتها»، الدولة ليست مفصولة عن الدين، لكنها مفصولة عن «التصور الأكثر حماسةً للدين»، وعن الرغبة الدينية المحمومة لتحقيق يوتوبيا ما، ليس لأنها ترفض ذلك تمامًا، بل لأن هناك من يفعل ذلك، وهي إن تماهت معه فقدت أسباب وجودها.

يتضايق الإسلاميون من محلات بيع الخمور، وقد يحاول بعضهم تكسيرها فتتدخل الدولة لتعاقبه، لكنها تتشدد في إصدار تراخيص المحلات لتجنب «الصداع».

بهزيمة الإسلاميين شبه الكاملة، أصبحت الدولة «متخففة» من عبء المسافة التي دائمًا فصلتها عنهم، لم يعودوا مهيمنين، وبالتالي أصبحت متخففة من «علمانيتها» النسبية تلك، وتفكر في «إسلاميتها» و«حسها المحافظ» بشكل أكثر أصالةً وتخففًا من الهواجس.

تتصرف الدولة للمرة الأولى بالأصالة عن نفسها، في مجتمع لا تحكمه هيمنة إسلامية، وفي ظرف دولي متحفز ضد التشدد الديني، ومع ذلك تجد الآن أن من واجباتها إصلاح النوافذ المحطمة، أن تطارد كل منفلت، تعاقب كل من يبدو على أريحيته أكثر من اللازم، دون أن تكون معتادة على العمل كأداة ضبط أخلاقية صريحة، ودون أن تمتلك هيمنة ثقافية أو نموذجًا أعلى يجعل الناس يشعرون بالتقصير تجاهه.

هذا ليس أمرًا مبشرًا لاحتمال انفتاح مساحات جديدة، بل العكس تمامًا.

ربما تفتقد الدولة الهيمنة التي تُحِلُّها من استخدام العنف، لكنها بالتأكيد تمتلك المؤسسات التي يمكنها تحويل هذا العنف إلى عنف بيروقراطي رتيب شامل، عن طريق تحويله إلى قوانين وتشريعات يمكنها ملاحقة أي «كاسر للنوافذ» أينما كان.

في ما مضى، كان بإمكان «كاسر النوافذ» نفسه أن يراوغ أدوات الضبط الإسلامية، أو يهرب منها، أو يتفاوض معها، أو يحتمي بالدولة التي يبتزها بقوله إنها تترك الحكم الفعلي للإسلاميين، أو حتى يتحدى بشكل فردي تمامًا الإسلامي الذي يواجهه، ولو باختراع تأويل مساند له من المرجعية الإسلامية.

لكن الدولة حين تحول مهام الضبط هذه إلى قوانين، وهي تقريبًا مجبرة على ذلك لأنها وسيلتها الوحيدة كدولة للضبط، تعمم هذا العنف وتجعل من مقاومته فعلًا مغامرًا جدًّا.

الإسلاميون قد يتضايقون مثلًا من محلات بيع الخمور، وبل وفي عنفوانهم سيخرج منهم أحيانًا من يحاول تكسير هذه المحال، عندها ستتدخل الدولة لتعاقب من فعل ذلك، وفي نفس الوقت، ستتشدد في إصدار التراخيص لمحال مثل هذه لتجنب «الصداع»، لكن الدولة مثلًا حين تقرر هي منع الخمور، سيكون بوسعها منعها من المشهد العام، ليكون تناول الكحوليات فعلًا متمردًا ومنزويًا وخارج الدولة، بينما في ظل ذروة هيمنة الإسلاميين، وإلى الآن، ظلت هناك أماكن عامة مفتوحة لأي أحد لشرب الكحوليات.

الشيء الوحيد الذي يفصل الدولة عن تحقيق نزعاتها الحسبوية بشكل كامل هو علمها بضرورة وجود درجةً ما من التحرر الاجتماعي للطبقات الاجتماعية الأعلى، والأقرب من السلطة، من أجل صورتها كدافعة للحداثة والتقدم، صورة تجعل العالم الدولي الحساس تجاه المظاهر المتشددة مستعدًا للتعامل معها كأفضل الخيارات، حتى لو كانت تلك الصورة تعاكس نمط حياة أغلب قياديها.

خنق هذه الصورة بالقوانين سيخلق تناقضًا ومقاومةً من داخل الدولة للانسياق التام خلف هذا التوجه.

الأريحية المخادعة: البحث عن كود أخلاقي جديد

مصريون يقيمون الصلاة أمام محل بيع خمور في القاهرة - الصورة: El-Husseny

في عزهم، كان الإسلاميون في الجامعات ينظمون «قوافل دعوية» للتضييق على ما يعتبرونه مظاهر خارقة، مثل الجلسات الحميمية أكثر من اللازم، في رأيهم، بين الفتيان والفتيات، وكان «المضبوطون» يتضايقون بالطبع، لكنهم، في الغالب، كانوا يتنصّلون من تصرفاتهم أو يطالبون الإسلاميين بالدعاء لهم بالهداية.

كان الفعل نفسه، أي الصداقة المختلطة، اعترافًا بالهيمنة الفكرية الذكورية والمحافظة، واعتبارًا للصداقة في ذاتها «تعليقًا» للبنات، وهو تعبير صريح في التعامل مع الصداقة بين الجنسين كخدعة، أن «الصحوبية» ليست شيئًا يمكن الاعتراف به، فالفتى منهم لا يحب البنت أو يعتبرها «صاحبته» بالمعنى الحديث، وهو لذلك يذعن بسهولة للإسلامي، الذي لا يختلف عنه في اعتبار ما يفعله خطأً أو معصيةً ينبغي، على الأقل، عدم منحها المشروعية.

الآن، يبدو المصطلح الأكثر انتشارًا هو «الصحوبية»، فالصداقة معترَف بشرعيتها في ذاتها، كفعل حميمي متبادل وليس كحيلة ناجحة من الولد تجاه البنت، ولو كان بوسع تلك القوافل أن تسير مرةً أخرى، ستجابَه بمقاومة شديد، نابعة من الاختلاف الجذري في تصور «العلاقة السليمة» بين الطرفين.

فبالتوازي مع رغبة الدولة في إصلاح النوافذ المكسورة و«بقرطة» عنفها الضبطي، بمحاولة وضع قوانين كثيرة جديدة للتحكم في أي انفلات، هناك رغبة حقيقية لدى شرائح واسعة بتخطيط عمراني للمدينة كلها، وخلق قوانين/أكواد أخلاقية جديدة. هذه الشرائح هي نفس الشرائح التي تبنت نموذج «الثوري» في وقت ما، أو على الأقل هي وريثة روحها، طرفان يشدان الحبل كلٌّ إلى اتجاه.

ينقسم النقاش في موضوع التحرش إلى قسمين: واحد يدافع عن حق بديهي للنساء في العيش بأمان، وآخر يحاول رسم حدود بين التحرش والغزل.

انتهت أدوات الضبط الإسلامية، ولم تطرح الدولة نموذجًا جديدًا لاتِّباعه، والنموذج الجديد ما زال يحاول تشكيل «أكواده الأخلاقية»: ما الصواب والخطأ.

كبرت وتوسعت المجموعات التي كانت خلال الثورة متأرجحة بين نموذج «الثوري» المجرد، غير المؤدلج، وبين انحيازات ليبرالية أو تقدمية، وحسمت اتجاهها نحو تجذير توجهها التحرري، وأصبح لديها حد أدنى من القدرة على نشر أفكارها في شرائح مجتمعية واسعة، وهذه المرة، تنشر انحيازاتها القيمية نفسها، وليس نموذج «الثوري» الناشط، الذي لا يعبِّر سوى عن قيم تجريدية كما حدث خلال الثورة، أي تحاول خلق هيمنة أيديولوجية حقيقية.

توسُّع هذه المجموعات وقدرتها على إنتاج وخلق الجدالات في المجتمع جعل بالإمكان مناقشة مواضيع لم يكن ممكنًا مناقشتها من قبل، إذ صارت هناك إمكانية ولو نظرية لتحقيقها، أو على الأقل للأمل بأن تهيمن على تصورات شرائح واسعة.

مثلًا، لم تكن مسألة المساواة بين النساء والرجال في الميراث في تونس لتخلق نقاشًا عارمًا، إلا بوجود مجموعات ضخمة تمتلك إمكانية أن تنحاز إلى هذه المساواة، هذه المجموعات لم تكن موجودة في مصر بهذه الكثافة والوضوح، ولذلك لم تُخَض هذه النقاشات هنا من قبل.

موضوع التحرش أيضًا ليس بعيدًا عن هذا، فبالنظر إليه، يتبين أن النقاش ينقسم إلى قسمين:

  1. من يدافعون عن حق بديهي للنساء في العيش بأمان، الحق المنزوع تمامًا من قِبل المجتمع، والذي يشكل كابوسًا يوميًّا لغالبية السيدات المصريات على اختلاف انتماءاتهن الثقافية والطبقية.
  2. من يحاولون رسم الحدود بين التحرش والغزل.

هذا النقاش كانت ستئده الهيمنة الإسلامية ببساطة بالحكم على الغزل بالفجور والانحلال، وبأن التحرش سببه ملابس النساء والاختلاط، وينتهي الأمر. وبالنسبة إلى الطبقات الأعلى، فبدلًا من الدفاع عن خياراتها المتحررة، كما تفعل الآن بعض الممثلات بنشرن صورهن بالمايوهات، باقتناعٍ أن هذا حقهن في الاختيار، كانت تلك الطبقات قديمًا ستراهِنُ ببساطة على حماية الدولة لهم من الإسلاميين.

لكن «الرادار الإسلامي» معطل الآن، وهو لذلك لا ينتبه إلى التجاوزات البسيطة ويوقفها بسرعة كما كان يفعل، ينفلت الكثيرون في حيواتهم، وتأخذ الدولة وقتًا أطول من المعتاد للانتباه إليهم وضبطهم، الكاميرات معطلة أيضًا، وهناك الكثير من المساحات خارج الرقابة، ولا يُقبَض على أحد إلا بعد أن يشاهده رجل الأمن بعينيه.

هذا الانفلات المؤقت، نتيجةً لعطالة وقلة كفاءة أدوات الضبط الجديدة، يخلق حسًّا بالأريحية المخادعة لدى شرائح واسعة ذات مزاج منفلت من المعايير الإسلامية، أريحية لأنهم يستطيعون أن يفعلوا أشياء لم يكن بوسعهم أن يفعلوها قبل ذلك، وهي أريحية مخادعة لأنهم يمارسون حياة أكثر انفلاتًا، اعتقادًا منهم أنهم يعيشون في عالم دون هيمنة إسلامية أو محافظة، فيما الدولة تحاول فعلًا استعادة الروح المحافظة للمجتمع، وتطور بطء راداراتها الخاصة لضبط المنفلتين.

لكن المنفلتين هؤلاء أكبر وأوسع من أن يظلوا مجرد منفلتين، وهم لا يرون النوافذ المحطمة كمشكلة يجب حلها، بل يرون أن كثرتها دليل على أن الحي كله يجب أن يُعاد بناؤه بشكل أحدث ليكون أقدر على الاستمرار، يساعدهم شعور بتلك الأريحية المخادعة بأن ذلك ممكن فعلًا. 

بالنسبة إليهم، النوافذ المحطمة جزء من مشهد كبير، المباني فيه على وشك الانهيار، ويرون أن التمحور حول النوافذ المحطمة، تمحور حول عَرَض بسيط لمشكلة أكبر يبنغي حلها، المبنى القديم تداعى تمامًا ويجب بناء واحد جديد.

محاولة خلق أكواد أخلاقية جديدة ليست فعل مجموعات ثورية يمكن تحجيمها أو إخراسها، بل فعل شرائح مجتمعية تريد أن تصنع لنفسها بوصلة أخلاقية للحياة اليومية.

هناك مجموعات واسعة ومختلفة ومتنوعة ثقافيًّا وطبقيًّا، تحتاج إلى أن تصنع لنفسها كودًا أخلاقيًّا يمكنها العيش من خلاله (لانكسار كل الأكواد الأخرى)، كود يحتوي على المحاذير والطموحات، ويمكن تطبيقه بشكل يومي، دون تساؤلات كبرى مع كل حدث، لكن هذه التساؤلات لكي تنتهي يجب أن تُحسم في وقت ما، وهو ما تجري محاولة فعله الآن.

ربما تكون كثافة هذه المجموعات مرتبطةً بحدث الثورة أساسًا وبالخيال الجديد، لكن وضوحها مرتبط بانكسار التماهي مع الخيال الإسلامي وبرفض أدوات ضبطه، وبالتالي، عدم قدرة الإسلاميين على وأد النقاش في مهده بتكفير كل من يتبنى رأيًا خارجًا عن مألوفهم.

انطلق جدل المساواة في الإرث في تونس بالأساس، وهو ما يبرره التقدم النوعي التاريخي هناك في مجال حقوق المرأة، لكن انفجار النقاش في مصر كان تلهفًا على هذا التقدم، وللوضوح، ليس لوضوح ما يمكن إنجازه الآن وهنا، فهذا أمر مستبعد مع موات السياسة، بل وضوح ما الذي نريد أن نحلم به.

بالموازاة مع الأجيال التي انفلتت من الخيال في الثورة، هناك أجيال أخرى يتشكل وعيها بعيدًا عن الصخب الإسلامي من البداية. لا يعني ذلك بالضرورة أنها أكثر تحررية، بل أن نزعاتها المحافظة نفسها تكون أقل بلورة من النزعات المحافظة للأجيال السابقة، في الوقت التي تكون فيها نزعاتها التحررية أكثر وضوحًا، وهو ما يضيف زخمًا أكبر إلى أي نقاشات تتعلق بالأكواد الأخلاقية.

قد يهمك أيضًا: ماذا لو وُجدِت أدوية لتقويم أخلاق الناس؟

هذه الأكواد تتكون بالأساس داخل الطبقات المتوسطة، وتثير حفيظة الدولة رغم أنها لا تأخذ أي شكل سياسي واضح، لكنها في رأي الدولة تعبير عن تمرد ما، أو شبح له، شعور بأريحية ما، وهو شيء تراه خطرًا، ولذلك تحاول بالتشريعات المتلاحقة وأد هذه الأكواد الجديدة في مهدها.

يحاول التنين الإسلامي المحتضر بآخر ما تبقى من قوته أن يساند الدولة في ذلك، بالمزايدة عليها في إسلاميتها، ويهمس بصوت متحشرج متقطع أن هذا الانفلات لم يكن له أن يحدث.

لكن هزيمتهم نفسها كانت بسبب عدم قدرتهم على الاحتفاظ بهيمنتهم، وبالتالي عدم قدرتهم على تحجيم هذا الانفلات دون اللجوء إلى قمع مباشر، ترى الدولة فيها بداية حرب أهلية، وترى أنها كدولة أحق وأقدر على تحجيم هذا الانفلات، لكنها بعكس الإسلاميين لا تمتلك أن تفرق بين المستقر والمنفلت سوى بالإحالة إلى الطبقات المجتمعية وعاداتها.

محاولة خلق أكواد أخلاقية جديدة ليست فعل مجموعات ثورية يمكن تحجيمها بقمعها أو إخراسها، بل فعل شرائح مجتمعية وجيلية كاملة، تريد عبره أن تصنع لنفسها بوصلة أخلاقية للحياة اليومية.

ليس هذا فعلًا موجهًا بشكل مباشر ضد السلطة أو معها، والدولة المنزعجة من الإحساس بالحرية المنفلتة ورغبة الناس في امتلاك حق التصرف في حيواتهم، الدولة التي تريد أن تحتكر هذا الحق، ما زالت غير حاسمة في هذا التوجه، لعدم القطع تمامًا مع «مشهد» حداثيتها، وإن كانت خطواتها تترنح نحو التشدد بشكل أكثر تواترًا، بينما الإسلاميون يطلون على مشهد صراع الانفلات والضبط من بعيد، من المدرجات، في حسرة، على ذلك الزمان القريب، الذي كان يمكنهم فيه حسم المباراة خلال دقائقها الأولى.

مواضيع مشابهة