هذا الموضوع ضمن هاجس شهر أكتوبر «إلى أي وطن ننتمي؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
بينما كان الأكراد يتوافدون على أماكن التصويت في استفتاء استقلال إقليم كردستان، كان أكراد إيران يتجمعون في مسيرات كبيرة للاحتفال بأشقائهم في العراق، غير مهتمين بسيارات الأمن والحرس الثوري التي تحاصرهم من كل اتجاه.
يؤكد إبراهيم، الكردي الإيراني، لـ«منشور» إن ذلك اليوم كان أسعد أيام حياته، فرغم أن نتيجة الاستفتاء غير ملزمة، فإنه على الأقل سيُظهِر للعالم قوة الأكراد في المنطقة و«حقهم الشرعي في الاستقلال وليس الانفصال»، ويتمنى أن يأتي يوم يستطيع أكراد إيران الإقدام على تلك الخطوة.
«وددنا لو منعنا استفتاء كردستان العراق أصلًا»
يتركز الأكراد في ثلاث محافظات غرب إيران: كرمنشاه، وأذربيجان الغربية، وكردستان الإيرانية، وكلها محافظات قريبة من الحدود مع إقليم كردستان العراق. ويقدر عددهم في إيران بنحو 10 ملايين نسمة، أغلبهم من السنة، وربما يفسر هذا رد الفعل العنيف من الدولة الشيعية على استفتاء كردستان.
نفذ الحرس الثوري الإيراني تدريبات عسكرية كبيرة على الحدود الغربية مع إقليم كردستان العراق قبل يوم الاستفتاء.
لفترات طويلة عاش النظام الإيراني خائفًا من كابوس إيقاظ الحركات الانفصالية في المحافظات الكردية، فانفصال إقليم كردستان، وإن كان أمرًا صعب التحقق إلى الآن، سيشكل خطر وجود قوة سنية في المنطقة تشاكس إيران، التي تخشى تدخل المملكة العربية السعودية في هذا الأمر. ومن جانب آخر، يمثل دعم إسرائيل لاستقلال كردستان خطرًا على الأمن القومي الإيراني، ويهدد كل المكاسب التي انتزعتها الجمهورية الإسلامية في المنطقة في الآونة الأخيرة.
اقرأ أيضًا: رغم التناقض الظاهر: 9 تشابهات بين السعودية وإيران
كان بوِدِّ إيران لو استطاعت منع الاستفتاء أصلًا، فقد أكد المرشد الأعلى علي خامنئي أنه «على إيران وتركيا اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لمنع التصويت على الانفصال، وعلى القيادة العراقية في بغداد اتخاذ إجراءات سريعة وجادة»، مهددًا بأنه لو أصرت القيادة الكردية في العراق على المضي قدمًا، ستلغي إيران كل الاتفاقيات العسكرية والأمنية مع الإقليم.
لكن هذا الرعب الإيراني من استفتاء كردستان لا يتعلق فقط بالمخاطر الاستراتيجية لاستقلال الأكراد عن العراق، بل يتمحور أساسًا حول خوف إيران من شبح جمهورية مهاباد، دولة الأكراد الإيرانيين البائدة.
«مهاباد.. جمهورية الأكراد دامت 11 شهرًا فقط»
«استفتاء استقلال كردستان ذكرنا بجمهوريتنا القديمة، جمهورية مهاباد». هكذا بدأ الكردي الإيراني «صادق» (اسم مستعار) كلامه لـ«منشور».
يتذكر صادق أول جمهورية كردية في إيران، والتنكيل الذي تعرض له الأكراد بعدها والذي استمر إلى الآن، لكنه لا يتمنى الانفصال عن إيران في الوقت الحالي، بل أقصى ما يأمله أن يكون للمحافظات الكردية في إيران حكم ذاتي «كي نعيش في أمان».
اقرأ أيضًا: محاولات الانفصال عن المجتمع: لماذا تنشأ الكميونات وتندثر؟
حدثت فوضى بعد الثورة الإسلامية، وحاول الأكراد استغلالها لبسط نفوذهم على مناطقهم، لكنها قوبلت بعنف وحشي.
في أثناء فترة حكم الشاه رضا بهلوي إبان الحرب العالمية الثانية، دخلت القوات السوفييتية إيران لتأمين الممر الفارسي، مفسرةً ذلك بأنها تخشى تعاطف الشاه مع هتلر. حينها كان الأكراد يعانون من حكم وحشي وقمعي من الشاه، فحاولوا التقرب من روسيا لمساعدتهم في نَيل حقوقهم، وساعدتهم القوات السوفييتية حينها إلى حد ما، لكن الأمر تطور من الجانب الكردي.
أعلن محمد قاضي، أحد القادة الأكراد، قيام أول جمهورية كردية على الأراضي الإيرانية مطلع عام 1946 في مدينة مهاباد، مستغلًا سيطرة القوات السوفيتية على تلك المنطقة وضعف الأمن الإيراني هناك. بالتوازي مع ذلك، خرج الأكراد في مظاهرات حاشدة وسيطروا على مراكز الشرطة، وأسس قاضي ومصطفى البرزاني (والد مسعود بارزاني) أول ميليشيا من المدنيين لحماية الأكراد.
دامت تلك الجمهورية الوليدة نحو 11 شهرًا، ثم قضى عليها الشاه وغدرت بهم القوات السوفيتية، التي أبرمت صفقات نفطية مع الشاه حينها، واعتُقل قاضي ورجاله، وأُعدموا علانيةً عام 1947 في وسط مهاباد.
«سنمنحكم حكمًا ذاتيًّا.. لا، لن نفعل»
الناشط الحقوقي الإيراني والباحث في التاريخ الكردي «فضل» (اسم مستعار)، يصف حياة الأكراد بعد الثورة الإسلامية بقوله «رغم أننا عانينا كثيرًا في فترة حكم الشاه، فإننا تعرضنا لظلم أكبر بعد مجيء الخميني».
بحسب فضل، حدثت فوضى لفترة قصيرة بعد قيام الثورة، وحاول الأكراد استغلالها بمساعدة أشقائهم في العراق لبسط نفوذهم على المحافظات الكردية، لكن ذلك قوبل بعنف وحشي من الخميني ورجاله، وأُعدم كثير من الأكراد، وحتى مَن حاولوا الهرب إلى أوروبا تتبعه الإيرانيون وقتلوهم هناك، ومُنعت اللغة الكردية من المدارس، وحُجبت أي صحف وإذاعات تصدر باللغة الكردية.
يحكي فضل لـ«منشور» أن الأمور هدأت لاحقًا، وحدث اتفاق ضمني بين الخميني وأحمد مفتي زاده، أحد المفكرين الأكراد البارزين في إيران، مفاده أنه إذا استطاع القادة الأكراد طرد الشيوعيين والقوميين الأكراد من محافظاتهم، سيوافق الخميني على حكم ذاتي للأكراد، لكن الخميني تنصَّل من الاتفاق بعد ذلك.
قد يهمك أيضًا: تقرير المصير: حقٌّ للشعوب إن استطاعت إليه سبيلًا
«رغم التمرد، نحن أهدأ أكراد في المنطقة»
لا يمكن الجزم بأن الثورة الإيرانية حطمت المعارضة الكردية، خصوصًا المسلحة، تمامًا. فمِن وقت إلى آخر كان الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق يمُد المتمردين الأكراد في إيران بالأسلحة مستغلًا تعقيد الحدود بين البلدين، التي تكثر بها الجبال الجليدية العالية ويصعب على الأمن الإيراني أو العراقي السيطرة عليها، فكان الأكراد المسلحون ينفذون عمليات محدودة ضد الحرس الثوري على الحدود.
من وقت الثورة الإيرانية إلى الآن، ظهر عديد من الحركات الكردية الانفصالية المسلحة، وحاول النظام الإيراني السيطرة عليها تارةً باعتقال قياداتها وإعدامهم وتارةً بنقلهم إلى أفغانستان.
لكن المحلل السياسي الكردي رشيد عبد الحكيم خسرو يرى أن الأكراد الإيرانيين لا يسعون الآن إلى الانفصال بقدر ما يريدون نَيل حقوقهم وتحقيق مطالبهم، ففي رأيه، لابد أن نعترف أن النظام الإيراني نجح في دمج الأكراد في الثقافة الفارسية: «الأكراد في إيران هم، إذا جاز التعبير، أكثر أكراد المنطقة هدوءًا، لأنهم يعتبرون أن أي محاولة للانفصال ستحرمهم من هذا القليل من الأمان الذي يعيشون فيه حاليًّا».
«أكراد إيران؟ إنهم ورقة انتخابية فقط»
يعانى الأكراد في إيران نسبة بطالة تبلغ 50%، بجانب عدم تمكينهم من العمل في الوظائف الهامة في الدولة، حتى أنهم لا يستطيعون تدريس لغتهم الأم الكردية في المدارس، وهذا يخالف المادة 15 من الدستور الإيراني، التي تكفل للأقليات تعلم لغتهم الأم، لكن تلك المادة لا تطبق على الأكراد، بعكس الأقلية اليهودية التي لديها مدارس خاصة في إيران.
اقرأ أيضًا: هل أنصفت الثورة الإسلامية يهود إيران؟
بحكم وجودهم بالقرب من الحدود مع إقليم كردستان العراق، لجأ الأكراد إلى العمل في مهنة تهريب البضائع: أجهزة منزلية أو كحوليات أو ملابس، من العراق إلى إيران. يحمل العمال الأكراد تلك البضائع على ظهورهم ويسيرون بها في مناطق جبلية وعرة، تحت خطر التعرض لرصاص الأمن الإيراني في أي لحظة أو الموت نتيجة الطقس السيئ، مقابل بضعة دولارات في اليوم.
حسب نشطاء حقوقيين أكراد، قتل الأمن الإيراني في شهر واحد فقط 21 عاملًا من هؤلاء، ووصل الأمر إلى خروج إيرانيين في مظاهرات للاحتجاج على قتل عمال لا ذنب لهم.
يرتبط مصير أكراد إيران بمآلات استفتاء العراق، ومدى قدرة أكراد العراق على تحويل نتيجته إلى أمر واقع.
حاول السياسيون الأكراد التفاوض مع النظام كثيرًا لمحاولة دمج الأكراد في العمل السياسي الإيراني، وبدء حل مشكلات المحافظات الكردية التي تعاني الفقر والبطالة، لكن لم يسمع لهم أحد سوى مرة واحدة، حين تولى الرئيس المحسوب على التيار الإصلاحي محمد خاتمي، ففي عهده اهتم بقضية الأكراد وعين عددًا منهم في الحكومة ومحافظين في المحافظات الكردية، لكن كل هذا انتهى برحيله.
«منشور» تحدث إلى محمد، الناشط في حقوق الإنسان، الذي روى أن النشطاء الأكراد يتعرضون لانتهاكات من النظام الإيراني باستمرار، فمن حين إلى آخر «يُعتقل عدد منهم ولا يحق لنا معرفة حتى أماكن احتجازهم، ويُعدَم بعضهم دون الخضوع لمحاكمة عادلة»، إلى جانب تعنت النظام في إنشاء مدارس أو توفير خدمات صحية في المحافظات الكردية.
الغريب أن كل الرؤساء الذين حكموا إيران استخدموا ورقة الأكراد للدعاية لأنفسهم، حتى الرئيس الحالي حسن روحاني. ففى فترة ترشحه لولايته الأولى، غازل روحاني الأكراد كثيرًا. ويخبرنا محمد أنهم شعروا ببعض الأمل فيه، فهو محسوب على التيار الإصلاحي، وذهب غالبية الأكراد لانتخابه، لكن لم يحدث شيء.
بعد الاتفاق النووي، أصر روحاني أن يجعل أولى زياراته إلى كردستان إيران، لكن يبدو أنها كانت فقط زيارة ليؤكد للغرب والدول الموقعة على الاتفاق أن النظام الإيراني يهتم بجميع الأقليات.
قد يهمك أيضًا: ماذا يريد الإيرانيون من رئيسهم؟
لكن هل شجع استفتاء إقليم كردستان أكراد إيران على العمل مرة أخرى لتحقيق حلمهم بالانفصال مثلما يخشى النظام الإيراني؟ سيكون ذلك على الأغلب مرتبطًا بمآلات الاستفتاء نفسه، ومدى قدرة أكراد العراق على تحويل نتيجته إلى أمر واقع، وهو ما يبدو أنه سيستغرق وقتًا طويلًا بسبب معارضة الجميع حتى الآن.