تجربة شخصية: فلسطينيو الأردن.. أزمة جيل بهوية ثالثة

الحدود الفلسطينية الأردنية - الصورة: منشور

نور عزالدين
نشر في 2018/03/30

هذا الموضوع ضمن هاجس «إلى أي وطن ننتمي؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.


حين اختبرت السفر إلى دولة أخرى غير الأردن، لأول مرة بمفردي، ذهبت لحضور ورشة عمل برفقة مجموعة من الشباب من دول مختلفة. في بداية الورشة، طلب منا المدربون التعريف بأنفسنا. ذُهِلتُ للحظة، احمرَّ وجهي، توترت. لم يكن لدي إجابة واضحة، حاولت ترتيب إجابتي بشكل منمق لا يثير سخرية مَن حولي، انعزلت مع أفكاري بعيدًا، لم أسمع ضجيج من حولي من أسماء وجنسيات مختلفة، حتى جاء دوري. كنت قد رتبت أفكاري جيدًا، لكنني اضطربت، واختلطت لدي الكلمات بـ«التهتهة»: «أنا نور عز الدين، أردنية».

باغتني شخص من الواضح أنه على دراية جيدة بسلالات العائلات في الأردن قائلًا: «لكن في الأردن لا توجد عائلة اسمها عز الدين». أجبته: «نعم، عز الدين اسم والدي، لكني أساسًا من عائلة اشتية، التي تتبع قرية تل في مدينة نابلس». فقال لي بتعجب: «إذًا أنتِ فلسطينية». احمرَّ وجهي أكثر، وقلت: «نعم، أنا فلسطينية، لكني لم أزرها في حياتي».

سد الملك طلال في الأردن، الذي يطل على مناطق من فلسطين - الصورة: منشور

في هذه اللحظة تحديدًا تمنيت لو انشقت الأرض وابتعلتْني قبل أن أتلعثم بالإجابة. كيف لي أن أروي له عن بلد لم أزره في عمري؟ يلاحقني في اسم عائلتي وهويتي، وأنا لا أمتلك من المعرفة عنه أكثر من ذلك. كيف لي أن أفاخر العالم بأصولي الفلسطينية وهي تعيش في وجداني فقط، وكأنها قطعة أرض منسية، اندثرت مع تاريخ الزمن، وأصبحت شيئًا نسترجعه في أحاديثنا لا غير؟

هذه أزمة جيل بهوية من نوع ثالث. نحن فلسطينيو الأصول، نرى فلسطين في زاوية المنزل، في بعض ذكريات أجدادنا وآبائنا الذين عاشوا فترة من حياتهم في «البلاد». على الرقعة الأخرى المتاخمة لحدود فلسطين وُلِدنا في الأردن، وترعرعنا طيلة حياتنا في تفاصيلها ومكوناتها حتى أصبحنا جزءًا من تقسيمها التاريخي والجغرافي والحضاري.

هناك جيل وُلِدَ من أبوين مطلَّقين، أحدهما في الأردن والآخر في فلسطين. فرَّقتهم الحدود، ووقفوا على ناصية الزمن يتابعون أزمتهم. صرنا ننتمي إلى هناك، لكننا لا نتمكن من الوصول إلى رقعة تبعد «فشخة رجل» عن رقعة أخرى نقف عليها، وننتمي إليها بأوراقنا المدنية والثبوتية، عشنا بها ولم نعرف غيرها، تعلمنا أن ننتمي إليها، ونتحدث عنها، ونشكل جزءًا من مكوناتها، لكن الحقيقة تنكشف في أول حوار ساذج قد يُطرَح في جلسة على سور الجامعة، أو في أحد المقاهي، أو في المنزل حتى.

الصورة: منشور

في المدرسة، ونحن أطفال، لم تشرح لنا المعلمة شيئًا عن هوياتنا.

بفعل لجوء الفلسطينيين التاريخي إلى الأردن، نُقِلَ جزء كبير من التراث الفلسطيني والمصطلحات واللهجات المختلفة والموروث الثقافي الواسع إلى المملكة الهاشمية، فتشكلت بعض الأمثلة التي ارتبطت بهذا اللجوء، منها ما يقال للفخر، ومنها للاستهزاء أو السخرية التي يمكن تمريرها أو استخدامها عقب نقاش حاد وعميق، وربما عنصري، مثل: «ملوخيَّاتك وعَ الجسر».

فرغم أن «الملوخية» أكلة تعود إلى مصر وليست فلسطينية، فالشائع في الأردن أنها طبق فلسطيني، بينما المنسف جزء من الموروث الأردني.

لكن أي جسر ذلك الذي تطالبني بالعودة إليه؟ لا أعرف حتى الطريق إليه، ولا أعرف إن كنت أنتمي حتى إلى هناك. أصولي تقول إنني أعود إلى هناك، لكني لا أعرف هناك أصلًا. وُلِدت هنا، وأوراقي الثبوتية تؤكد ذلك، بينما أصولي تمتد إلى غيره، ولا أستطيع العبور إليه.

قد يهمك أيضًا: حماها الله: كيف تعني «الوطنية» كُره الآخَر؟

في الاْردن، تبلغ نسبة الشباب 28.5% تقريبًا من مجموع السكان المحلي، جزء كبير منهم يعود لأصول فلسطينية، يمكنك معرفة ذلك عبر اسم عائلته فقط. ويبقى السؤال: إن كنت أنتمي إلى هناك، فلماذا لا أستطيع العودة؟ ولماذا أنا موجود هنا؟

وبما أنني ورقيًّا أنتمي إلى الأردن، لماذا قد يقول لي بعض الأردنيين: «ملوخياتك وعَ الجسر»، كنايةً عن حزم حقائبي والعودة عبر جسر الملك حسين الواصل بين الأردن وفلسطين؟ ولماذا أفتقر إلى الأرضية الصلبة التي أستطيع أن أتحدث عنها، وبوضوح: أنا فلانة، وجنسيتي كذا، نقطة، دون أن أكون في حاجة إلى أن أبرر أنني فلان، وجنسيتي كذا، لكن أصولي من مدينة كذا، وأنني لا أنتمي إلى هذا، ولا ذاك؟

سد الملك طلال - الصورة: منشور

في المدرسة، ونحن أطفال، لم تشرح لنا المعلمة شيئًا عن هوياتنا. كنت أقرأ الشعر بشكل جيد، وصوتي جهوري، كما كانوا يقولون لي. دعتني معلمة اللغة العربية إلى أن أقرأ شعرًا في ذكرى استقلال الأردن، كانت قصيدة للشاعر الأردني حبيب الزيودي، الذي عُرِفَ بتغنِّيه بالوطن ووصف جماله. تدربت عليها كثيرًا، وحاولت أن أؤديها بأفضل صورة ممكنة.

«هذي بلادي ولا طول يطاولها.. في ساحة المجد أو نجم يدانيها

ومهرة العرب الأحرار لو عطشت.. نَصُب من دمنا ماء ونرويها

يا أيها الشعر كن نخلًا يظللها.. وكن أمانًا وحبًّا في لياليها

وأيها الوطن الممتد في دمنا.. حبًّا أعز من الدنيا وما فيها»

صارت المهمة أصعب عندما انتقلت إلى الجامعة، فقد درست في كلية الصحافة والإعلام في جامعة اليرموك، في مدينة إربد شمالي الأردن، مدينة خضراء، تسحرك وأنت تتقلب يمينًا وشمالًا بسهولها الخضراء على مد البصر، نحن القادمون من مدن تفتقر إلى الخضرة، وأرهقتها الحداثة العمرانية المناهضة للطبيعة.

كنت متحمسة للتجربة الجديدة، خصوصًا أني دخلت هذا التخصص برغبة وإصرار شديدين، وتجاوزت صعوبات جمة من بينها المسافة البعيدة بين مسكني والجامعة، في سبيل دراسة التخصص الذي أحب، لكني صُدِمت في البداية كما يحدث مع غالبية الطلبة الذين يحلمون أكثر مما ينظرون إلى الواقع.

كنت أَوَد أن أكون صحفية بنظارات سوداء، تحتسي القهوة (ليس على عجل، كما قال محمود درويش)، لكن في أول محاضرة في كلية الصحافة، «مبادئ في التحرير الصحفي» قال لنا الدكتور: «انسوا كل ما سمعتموه عن الصحافة خارج هذه القاعة، وسنبدأ من جديد». تحمست، أحسست بأنني سأتعلم شيئًا جديدًا مُلهِمًا يعزز حلمي في الكتابة الصحفية، لكن الحوار انتقل إلى الحديث عن هيفاء وهبي وفيفي عبده. يبدو أن «دكتوري» كان محبًّا للجمال أيضًا، ويميل إلى الصحافة الفنية أكثر.

وزعنا أحد أساتذة الكلية وفقًا لأسماء العائلات، وتغير المكان بتغير إجابتنا: «آه، إنتِ فلسطينية؟ طيب اقعدي هناك».

عرفت عندها أن عليَّ اتخاذ قرار آخر بالانتقال إلى تخصص مختلف، وعزفت عن الكتابة، وحولت تخصصي الجامعي إلى «الإذاعة والتلفزيون»، فنون مختلفة قد أتمكن عبرها من تعلم شيء جديد.

بادرني الدكتور في بداية المحاضرة: نور عز الدين اشتية، مقعد رقم 22.

الطالبة التي بجانبي: إنتِ فلسطينية؟

أنا بوجه مبستم: آه فلسطينية.

الطالبة: وشو جابكوا عِنَّا على إربد؟ غريب.

لم أفهم لماذا كان الأمر غريبًا، وتركت فضولي على جانب الفصل كي أتمكن من استكمال المحاضرة، وسأعود إليها لاحقًا. الطريف أن هذا الانطباع لم يكن عند هذه الطالبة فقط، فقد تنوع بطرق أخرى وأشخاص مختلفين.

في إحدى محاضرات الترجمة وزع الدكتور أماكن جلوسنا في الفصل وفقًا لأسماء العائلات، إذ كان يسأل كلًّا منا: «ما اسم عائلتك؟ آه، أنت فلان من مدينة أو قرية كذا». أما نحن ذوي الأصول الفلسطينية فكانت أماكننا مختلفة: «آه، إنتِ فلسطينية؟ طيب اقعدي على ذلك المقعد».

كنت أعرف بعض الطلبة، تتشابه أسماء عائلاتهم مع أسماء عائلات أردنية، ومنعًا للحرج، وتعزيزًا لعلاقتهم بالأساتذة الجامعيين، كانوا يقولون: «آه، أنا من عيلة كذا، بس مش الفلسطينية، الأردنية، من قرية كذا».

كان المشهد يُضحكني مرارًا ويُبكيني، وعندما كنت أسألهم كانوا يتفاخرون بذكائهم، وتمكِّنهم من التحايل على الأستاذ. كل ذلك من أجل علامات أعلى، ومميزات أخرى لدى بعض الأساتذة، أو خوفًا من العنصرية في التعامل.

حظي الجيد أنني لم أتعامل مع أحد أساتذة الجامعة الذين يروي عنهم الطلبة طيلة الوقت أنهم يصححون أوراق الامتحانات على أساس اسم العائلة، وقد يجعلونك ترسب في مادة لأنك فقط فلسطيني/ة. هناك من كان يفعل العكس، و«يتعنصر» للهوية الفلسطينية على حساب الأردنيين.

حتى اليوم لم أفهم هذه النظرة. دفعني فضولي دومًا إلى خوض كثير من النقاشات بُغية فهم هذه المواقف والانحيازات. بعضهم يعزي ذلك إلى أننا احتللنا جزءًا كبيرًا من «بلدهم»، الذي نعتبره نحن أيضًا بلدنا، وآخرون يقولون إننا نحاول الحفاظ على أصولنا نقية، رغم أن كثيرًا من الأردنيين تزوج من عائلات فلسطينية.

الحدود الفلسطينية الأردنية - الصورة: منشور

شعور معقد لا يمكن لأحد أن يفهمه، يدفعك إلى التساؤل حول هويتك طوال الوقت، ويتركك تحت المجهر تبحث عن ذاتك.

في يوم جاءتني صديقة باكية تذرف دموعها كمن توفي قريبٌ له، هدَّأتها، وسألتها: «شو صاير معك؟»، قالت: «أبوي رافض يزوجني من الشاب إلي بحبه، وأنا مش عارفة شو أعمل». قلت لها: «ليش؟ شو المشكلة؟ مش هو خلص قرب يتخرج، وبكرا بلاقي شغل، وبتكون أموركم تمام؟»، فردت: «لأ طبعًا. إنتِ مش فاهمة، أبوي رافض يزوجني لواحد فلسطيني».

صُدِمت، كانت المرة الأولى التي أسمع فيها هذه التفصيلة، لم أفهم، لم أستوعب الفارق. ما الذي سيجنيه والدها من قراره غير أن يُنهي سعادتها لسبب غير مفهوم بالنسبة إليَّ؟

قد يعجبك أيضًا: الحب يعبر الحدود.. المحبون يحتاجون تأشيرة

بعدها توالت هذه النوعية من القصص، وبدأت أسمعها في مختلف الأماكن: في الجامعة، والعمل، وبين صديقاتي في جلسة نسوية، وفي البرامج الإذاعية التي عملت فيها لفترة، إذ كانت تصل إلينا قصص لعرضها على الهواء وطرح نقاش حولها لإيجاد حل: مرة أسمع أن والد الفتاة رفض أن يزوجها فلسطينيًّا، ومرة أخرى أسمع أن والدها رفض أن يزوجها أردنيًّا.

شعور معقد لا يمكن لأحد أن يفهمه بهذه الطريقة، شعور يدفعك إلى التساؤل حول هويتك طوال الوقت، والسؤال يتركك تحت المجهر تبحث عن ذاتك، بين منزلتين، سواء كنت ابن المخيم، أو ابن البادية.

أعتقد أن جيلنا قد مرَّ بواحد من المواقف التي ذكرتها، ولم تقتصر عليَّ كشخص. أنا اسم ورقم موجود على بقعة من الأرض، يتعرض لمجموعة من التجارب والمواقف التي تشكل لديه تساؤلات، تدور وتدور لتبحث عن الحقيقة.

عند الأفق، هكذا تظهر فلسطين للواقف في الأردن - الصورة: منشور

عشت جزءًا مميزًا من فصل الربيع في إربد، وفي ذلك الموسم تكثر الرحلات العائلية وطقوس الشواء في صباح الجمعة، وتذهب العائلات إلى أماكن مزهرة وربيعية لتستمع بالجو، من ضمنها سد الملك طلال المتاخم لحدود الأردن مع فلسطين، أو منطقة «أم قيس» في إربد، المطلة على بحيرة طبريا وأجزاء من فلسطين المحتلة شرقًا.

يمكنك في هذا الجو الحميمي الذي تختلط فيه مشاعر كثيرة أن ترى وطنك على مرمى حجر، فأنت تشاهد جبال نابلس من أعلى نقطة في مدينة السلط، ويمكنك أن ترى ضفاف فلسطين المحتلة من أخفض بقعة في العالم: البحر الميت. وهناك تبقى الأسئلة تدور وتدور، فهي بهذا القرب فعلًا، وبذلك البعد كذلك.

مواضيع مشابهة