هذا الموضوع ضمن هاجس «الثورة والثوار». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
(1)
هنالك حكمة شرقية قديمة عن أن «حكم دولة صغيرة يشبه قلي سمكة صغيرة، فالغليانات المتكررة يجب تجنبها». إلى ماذا تؤدي تلك الغليانات؟ إلى الغضب؟ وأي نهاية يُفضي إليها الغضب؟ لا شيء مُتوقَّع. النهايات متعددة إلى ما لا نهاية، وعدم إدراك التباين الشديد للسياقات، يتسبب في وقوع عكس النهايات المُتوقعَة.
الشيء الأكيد أن الغضب يجيد التعبير عن نفسه صراحة، وأن محاولات استيعابه تفشل بصورة تبعث بعض الأمل. تلك المحاولات قد تدوم قصيرًا أو طويلًا، إذ تبدو الأوضاع كأنها استقرت، أو هكذا يُتوهّم. لكن الأكيد في الحالتين أن الغضب يُتم دورته كاملةً بشكل يقود إلى معارك شبه حاسمة، بغض النظر عن نتائجها غير المضمونة على الإطلاق، فالتاريخ ليس مَدينًا لأحد سواء بالنصر أو الهزيمة.
يعني الغضب، بطريقة ما، «الشغب». وتُمثل الانتفاضات العربية، والمصرية تحديدًا، في رأي الفيلسوف الفرنسي آلان باديو «الشغب التاريخي»، الذي يحدث ضمن إطار عام من سلمية الحراك، ويُمارَس كتعبير عن غضب الشعب، وهو بما يحتويه من إبداع وإمكانيات بمثابة ولادة جديدة للتاريخ، يكتشف خلالها البشر إمكانات جديدة لتغيير اجتماعي جذري.
(2)
هناك دائمًا سقف تعمل الثورة على تحطيمه. أما لو كان خطاب الثورة ملتزمًا بسقف الدولة، فيكون تعبيرًا عن «ضمير الدولة» لا أكثر.
الدعاية فعالة إلى الحد الذي يدرك فيه المرء أنها مجرد دعاية. المشكلة أن معظم الناس يؤمنون بكونها جزءًا طبيعيًّا لا ينفصل من حياتهم اليومية، دون إدراك الطبيعة الفيتشية لها، التي تعني «حكم الشيء على الإنسان، والعمل الميت على العمل الحي، والمُنتَج على المُنتِج». أما حين تدرَك الصورة من الخارج، يصبح الخداع أقل فعالية، والضرورة التي تحكمك الآن تصير رؤيتك الخاصة، وليست رؤية الدعاية التي يُوهِم انتشارها على أوسع نطاق بأن هناك حالة من الإجماع المؤيد لما تنشره الدعاية نفسها.
ميزة أخرى للغضب هي كونه عاملًا مساعدًا لرفض الصورة المُروّجَة، لكن ليس لتدقيق الصورة الصحيحة من الخارج.
تقول الباحثة الأمريكية من أصول ألمانية حنة آرندت إنه «حين لا يعود أحد يطيع القادة، لا تعود أدوات العنف مفيدة». أي أنه في اللحظة غير المتوقعة التي يرفض خلالها رجل أو امرأة الانصياع للأوامر، تسقط السلطة، ومحاولات تعويضها بالعنف تصبح غير مفيدة، إذ يدفعنا الغموض والالتباس الذي يحيط مثل تلك اللحظات (على مدار التاريخ) إلى احترام وجهة النظر التي تؤمن بوجود نوع من السحر في العالم، لكن إذا سقطت السلطة بالفعل، فما الذي يمنع أحدهم من التقاطها من الشارع حيث تكون مُلقاة؟
ربما يسقط الإيمان بالقادة الذين هم في الصورة دون الطبقة الحاكمة، أو يسقط الإيمان بالطبقة الحاكمة دون أن يسقط الإيمان بما أَصّلته دعايتهم، التي ستخلق في وجدان الناس قادة جددًا من نفس الفصيلة، ما يدفعنا إلى التساؤل عما سيحدث حين لا يطيع أحد الدعاية، أو حول استحالة أن تُهزم الدعاية في عصر تجسِّد فيه كل معنى.
الغضب أعمى، وهي خاصية جيدة، لأنه قد يمنع (بقدر ما يسمح) من اتِّبَاع الخرائط الجاهزة، لأنها دون قيمة.
هناك دائمًا سقف، والثورة تعمل على تحطيمه. أما إذا كان خطاب الثورة ملتزمًا بسقف الدولة، فهو (في أسوأ الأحوال) تعبير عن «ضمير الدولة» الخاص، الذي يشبه مُنبهًا يحذره من أنه تجاوز طبيعته الصالحة التي يدّعيها عن نفسه. وفي أسوأ الأحوال، يكون مجرد دعاية ثورية خائبة، لأنها لا تَعِد بأكثر مما يُوهِم به أعداؤها المناصرون المحتملون لها.
(3)
الثورة نداء من أجل حياة أفضل، لا من أجل «موت بطولي»، لأن الموت بشع، ولا أحد يرغب في تعريض حياته أو حياة غيره للخطر هكذا بسلامة ضمير.
حين تبدأ مجموعة من المدنيين عصيانًا أو إضرابًا عن العمل، فإن عملهم ذلك يُعَدُّ عنيفًا بالتأكيد من وجهة نظر الدولة.
لم يكن حرق مقر الحزب الوطني عملًا عبثيًّا يقوم على كراهية مجردة غير مفهومة لمبنى خرساني، بل عَبّر عن معارضة مفهومة للمجموعة الحاكمة، التي اتخذت من ذلك المبنى مقرًّا لممارسة سياسات اقتصادية تسببت في إفشال منهجي ومتتابع لاقتصاد البلد الذي تحكمه، وبالتالي تسببت في عملية إفقار وقمع منظمة لشعبه، معارضة منطقية لكل ما يمثله ذلك المبنى الرمزي من فساد.
في تلك الحالة، تظهر الصورة الواضحة المنتزَعَة من إطارها الأيديولوجي البسيط، إحراق مبنى واحد مقابل إصلاح بلد بأكمله، العنف الممارَس من المتظاهرين دفاعي بالضرورة، وبواسطته يدفع هؤلاء عن أنفسهم الموت الذي تمطره الأجهزة القمعية للدولة، التي تُصر على جرجرة المسألة نحو الصراع الذي بلغ ذروته خلال جمعة الغضب، تلك التجربة الفاصلة والحيوية خلال أحداث الثورة.
مشهد انسحاب جهاز القمع من الشوارع، وعبور المتظاهرين إلى ميدان التحرير، وسيطرة المدنيين على الأحياء، واستلامهم الإدارة الذاتية لها.
مَثّلت أحداث جمعة الغضب رد الفعل الجماهيري المُنظّم عفويًّا على إصرار الحكومة نقل مستوى الأحداث من النزاع السياسي التقليدي إلى الصراع السياسي المباشر، الذي تُقصَى خلاله وسائل السياسة التقليدية نهائيًّا لصالح حالة يصير فيها القرار الأول والأخير أمنيًّا تديره بالطبع أجهزة القمع. هنا تكشف الدولة عن جوهرها دفعةً واحدة، بوصفها منظمة مدججة بالسلاح وظيفتها حماية الطبقة الحاكمة.
الثورة نداء من أجل حياة أفضل، لا من أجل «موت بطولي»، لأن الموت بالضرورة أمر بشع، ولا أحد يرغب (إلا إذا كان أحمق بما فيه الكفاية) في تعريض حياته أو حياة غيره للخطر هكذا بسلامة ضمير. كل الحركات الاجتماعية الكبيرة في التاريخ البشري سلكت كل الخيارات السلمية المتاحة للتغيير، بينما العنف هو استثناء تديره، ببساطة، غريزة البقاء، وليس فعلًا مقصودًا يرغب فيه المتظاهرون كطفل في محل ألعاب.
الدولة في مثل تلك الحالات هي التي تُصِر على جرجرة المسألة نحو الصراع. وحتى في تلك الحالة، فإن العنف الذي يمارسه المتظاهرون، إلى جانب كونه دفاعيًّا، يصير رمزيًّا بوضوح. سجن الباستيل الذي لم يحتوِ غير عدد قليل جدًّا من السجناء وحامية عسكرية صغيرة، لم يكن أكبر السجون الفرنسية، ومع ذلك كان اقتحامه بغرض تحطيم رمز يُعبِّر تاريخه عن طبيعة السلطة القمعية الحاكمة، وإلا اقتحم الفرنسيون سجنًا أكبر لو كانت الثورة حقًّا مجرد رغبة وحشية في إراقة الدماء.
تناقضات المجتمع القديم هي التي ستعمل على إنهائه كما رأى كارل ماركس، وليس العنف الذي شبّهه ماركس أيضًا بالآلام التي تسبق الولادة، دون أن تكون الولادة ناتجة عنها.
وفي كثير من الأحيان، يلعب العنف دور المُهرِّج في العرض المسرحي، يشعل المسرح وينقل الأحداث إلى مستوى آخر غير مُتوقّع، بتحطيم الجمادات التي تشكل رموز السلطة. يكون حينها بمثابة آلة لكسر الدعاية، مَشاهد النار والدخان هي الأكثر شهرةً في جمعة الغضب، الحرق هنا ليس فعلًا عبثيًّا، أو شرًّا خالصًا ينبع من الإيمان بشيطان ما، بل يقع ضمن صيرورة نفي الصورة القائمة المموهة للمجتمع القديم عن نفسه، الحالة التي لا تؤكد أي شيء بقدر ما تنفي المجتمع القديم، مُعلنةً فتح الأبواب الجديدة للتغيير.
العصيان المدني الشامل ومقاطعة البضائع البريطانية على طريقة غاندي كان بمثابة عمل عنيف من وجهة نظر بريطانيا الاستعمارية. وإذا كانت ممارسة العنف، على ذلك النحو، تعبِّر عن الرغبة في فرض الوضع الأقرب إلى المعايير الإنسانية، فإن غاندي، بطريقة ما، يصبح ممارسًا للعنف، لأنه بالتأكيد لم يحاول إقناع البريطانيين بأن التخلي عن ثروات الهند هي خطوة ضمن صميم مصالحهم، التي عبّرت بالتأكيد عن توجهات لا إنسانية.
بالطبع احترم البريطانيون مجموعة من القواعد، وتمتعوا ولو بقليل من «الضمير والحرية» التي اشترطها غاندي لنجاح مثل تلك المعارضة، والتي تسمح للخصم بفتح حوار موضوعي. وقعت بريطانيا الاستعمارية ضمن سياق تاريخي لم تتمكن خلاله من نقل مستوى الصراع إلى منحى مختلف، كان من الممكن أن يجعل الهند جزائر أخرى قبل الجزائر.
لذلك، فإن تعريف العنف يعتمد بالدرجة الأولى على الممارسة المقصودة، إذا كان الفقر مثلًا (كما يرى غاندي تحديدًا) أسوأ أشكال العنف، فقد يبدو تحطيم تمثال/صورة/أداة السارق كأحد الأفعال الجالبة للسِّلم على المدى الطويل.
اقرأ أيضًا: علامات قيام الثورات: متى ينفجر بركان الشعوب؟
(4)
إذا كان متظاهرو «الربيع العربي» يطالبون بالديمقراطية الغربية، فبماذا يطالب متظاهرو وول ستريت؟ بالديمقراطية الغربية التي يملكونها بالفعل؟
كل الحديث المُفعَم بالثقة والأمل عن التغيير قد يكون مجرد هراء. كل ما يتطلبه الأمر التَحلِّي بمسحة من التشاؤم ما بعد الحداثي. التاريخ انتهى بالفعل، ويصعب فهم أي حدث يَدّعي كونه ثورة، بنفس الدرجة التي يصعب بها تحديد وجهة للثورة المزعومة.
«الديمقراطية الليبرالية» انتصرت بالفعل، ولا شيء وراء ذلك. هي فقط تتخذ أشكالًا لا حصر لها حول العالم. وحتى لو كانت تلك الأشكال حكومات بيروقراطية شمولية، فإن هؤلاء الخاضعين لسطوة الحكم الشمولي (البوليسي بالضرورة) يحلمون فقط باللحاق بجنة «الديمقراطية الغربية»، وحتى هذه المسألة يعتريها شك كبير.
غلب على مُطالبات ما أُطلق عليه «الربيع العربي» الطابع العلماني، لكنها لم تبلغ درجة من الانحياز الطبقي أو الاصطفاف الاجتماعي الواضح. هل كانت ثورة ضد غياب الكفاءة فقط، أم ضد غياب الحرية؟ هل كانت ثورة للطبقة المتوسطة ثم انضمت إليها الطبقات الأقل دخلًا (دعنا نناديها بسخرية وخجل عاطفي «البروليتاريا»)، أم العكس؟
ماذا لو كانت الأحداث كلها مجرد رفض شبابي ساخط لبعض الممارسات القمعية التي لا تعني بالضرورة رفضهم النظام الاجتماعي القائم؟ هل أي دولة مقبولة ما دامت أقل بشاعةً من دولة مبارك؟ هل ينفي ذلك حقيقة أن تلك الدولة لم تزل بشعة؟ إذا كان متظاهرو «الربيع العربي» يطالبون بالديمقراطية الغربية، فبماذا يطالب متظاهرو وول ستريت؟ بالديمقراطية الغربية التي يملكونها بالفعل؟
تحوم حول المسألة شبهة استعراضية كاملة على طريقة «غي ديبور»: «يا أعزائي، لقد ماتت المغامرة»، «المجتمع الرأسمالي الحديث تنظيم هائل من الاستعراضات، وكل ما يظهر على أنه حقيقي هو محض تمثيل»، بما في ذلك الثورة.
قد يكون هؤلاء المتظاهرون يُمثِّلون فقط أنهم يريدون شيئًا ما من العالم، أو قد لا يكونون كذلك على الإطلاق، لكنْ ما العمل في ظل غياب أي سرديات كبرى تستوعب التعقيد الهائل للأحداث الثورية التي انتشرت خلال بضعة أشهر؟
قد تكون الثورة أيضًا مجرد سلعة يتم ترويجها اليوم باعتبارها أفضل البضائع، وبالتأكيد ستُنسى في اليوم التالي. قد تكون البرجوازية بأشكالها المتعددة، وضمن كل سياق للعلاقات السياسية والاجتماعية من أي منظور كان، هي المنتصر الوحيد.
الاستعراض هو عملية تسليع كل شيء، وحتى الثورة قد تكون عملًا استعراضيًّا إذا لم تحاول طرد الاستعراض، وهي مهمة صعبة وتكاد تكون شبه مستحيلة.
استُوعِبَ الفنانون بحبسهم في المعارض، والعمال داخل البيروقراطية النقابية، والطلبة في دائرة الراديكالية المؤقتة بلعبة الاحتجاج، والديمقراطية داخل الأحزاب التي لا تفعل سوى تأبيد السلطة، جميعها، من أكثرها محافظةً إلى أشدها تقدمية.
هذا ما آلت إليه الحضارة الغربية، والحديث عن سعي مجتمعاتنا الواقعة تحت أشكال أشد قسوةً بمراحل من الشمولية إلى احتذاء ذلك النموذج، هو حديث يُعد فخًّا قد نستقر فيه إلى الأبد. يمكن لأحدهم أن يصير ستالينيًّا (دون أن يعلم) كي يرى أن «حرق المراحل» غير ممكن. أي أن عليه الرُّسُوّ على ميناء النموذج الغربي أولًا، بغض النظر عن الهدف الذي يصبو إليه في النهاية، إذا كان شجاعًا ومتفائلًا بما فيه الكفاية لتحديد أهدافه بالفعل، وعندها لا بد من أن يراجع طريقة تفاعله مع السياسة، إذ لا يمكن فهم التغيير داخل بلد واحد، لأنه لا يوجد في كوكب منفرد.
قد يعجبك أيضًا: لِسَّاها ثورة يناير: تِركة ست سنوات من الخِذلان
(5)
تُحطم السلطة المناخ السياسي تمامًا عن طريق تفتيت الجدال المجتمعي إلى جدالات ومشاحنات.
في المجتمعات الرأسمالية، تنتج الثورة أفكارًا وصورًا ومصطلحات تُخلِّفها وراءها على مدى فشلها المتكرر في إنهاء الاستلاب الرأسمالي. هذه الأشياء لا تلبث أن تتحول إلى أسلحة في يد الرأسمالية نفسها، ومرادفها الحديث بالطبع «الاستعراض».
الاستعراض، باختزال، هو عملية تسليع كل شيء، الاستلاب الحديث للرأسمالية الذي عبّر عنه غي ديبور بأنه «موت الموقف والمغامرة»، وكل معنى حقيقي وذاتي وأصيل لصالح عمليات استعراضية يقلِّد فيها البشر «النموذج» المُتّفَق عليه، وتتعدد النماذج لتشمل كل صغيرة وكبيرة من مواقف الحياة.
الاستعراض أن يتصرف الإنسان «وفقًا لما ينتظره شخص آخر، أو وفقًا للصورة النموذجية في عقله»، وحتى الثورة قد تكون عملًا استعراضيًّا إذا لم تحاول طرد الاستعراض، وهي مهمة صعبة، وتكاد تكون شبه مستحيلة. ولذلك قد تقع أي محاولة للثورة في فخ الرأسمالية إلى الأبد، إذا كانت مجردَ تَبدٍّ من تَبدِّيات مظهرها الأكثر تأخرًا هو «الاستعراض».
قد يصح على المعارضة الثورية قول ديبور: «لقد صار كل شيء استعراضيًّا، حتى وإن بدا مظهره معارضًا». حينئذ، تصبح العبارة الراديكالية الأكثر تهكمًا على السلطة فُكاهةً على لسان مُقدِّم للبرامج، أو نبوءة مثيرة على لسان موديل للإعلانات، وتتحول الهتافات المُتجذِّرة في الوعي المُعارِض إلى أدوات للتلاعُب الخطابي للسلطة التي حطمت الثورة، ويتحول الزعماء والقادة والناشطون الثوريون إما إلى السجون، في حالة ثباتهم على أدنى مطالبهم التي سُرقت بالفعل، أو إلى حثالة ثورية تشارك السلطة في تحريف مضامين الثورة لمصلحتها.
يتواطأ النُّقاد، الكلاميون أو السياسيون الفاعلون على الأرض عن قصد أو عن غير قصد، مع العلاقات التي يسعون إلى تغييرها، بينما الاستعراض مُتجذِّر في كل حرف يقولونه، وكل إيماءة يصدرونها.
تُفرّغ كل المفاهيم من محتواها، ويُعاد تدويرها ضمن الاستعراض. الثورة تُستَوعَب داخل الموسيقى، والدعاية، والإعلان، وأشكال الفن. يَسمح الاستعراض لجيش من الفرق الموسيقية والفنانين والكتاب، بل والناشطين الثوريين العاطلين، بالظهور إلى النور، وجعلهم مشاهير عن طريق ادِّعاء انتمائهم إلى الثورة، في حين أنهم بأنفسهم يساعدون على استيعابها داخل أشكال التمرد المقبول واللائق، بمطالب محدودة تستطيع السلطة التعامل معها.
يُستعاد النقد داخل العلاقات الاستعراضية بتحويل المعاني والتكتيكات والأهداف إلى أنماط وصور مُعلّبَة جاهزة مُعادٌ تشكيلها، جاهزة للرد عليها. ستحاول السلطة دائمًا استيعاب كل بادرة للنقد اللاذع الذي يصيب حقيقتها، وتحويله إلى مجرد مظهر متكافئ مع ما حوله، بإدخاله في المعادلة السلعية، أي تحويله إلى سلعة، والنتيجة: تكافؤ وتشظٍّ وخواء الآراء على اختلافاتها البينة تمامًا، كما تتكافأ السلع على اختلافاتها التي تظهر وكأنها دون نهاية.
حتى المناخ السياسي، إن وُجِد، يتم تحطيمه تمامًا بواسطة تفتيت الجدال المجتمعي الذي ينتجه إلى جدالات ومشاحنات منفصلة، تعرض الأشياء وتفسرها لنفسها وليس للكل (الاقتصادي، الثقافي، الاجتماعي) الذي يحتويها.
يتم تفتيت الرأي الواعي الذي من المفترض أن يُكوِّنه الإنسان، والموقف الذي من المفترض أن يتخذه، إلى أكبر عدد ممكن من الآراء في القضايا المعروضة، بحيث يتخذ في كلٍّ على حدة رأيًا ينفصل بكل مستوى من المستويات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، يمنعه من تكوين رؤية شاملة تجمع المشكلات وتردها إلى الكل الفاسد الذي يتسبب فيها، أي السلطة.
حينها، سيكون على النقاد دومًا توخي الحذر من استيعابهم داخل أدوات السلطة الخطابية والعملية، وتَحَمُّل مشقة البحث باستمرار عن أدوات جديدة لجعل نقدهم في صُلب علاقات السلطة القائمة، وهي المهمة التي تظهر معقدة وشبه مستحيلة.
(6)
تدفع إمكانات الجديد الذي أتاحته اندفاعات الثورة الأولى (خصوصًا جمعة الغضب) في البداية إلى التفاؤل، ليس بمستقبل أفضل لنا فقط قد يشابه حاضر بشر آخرين، بل بمستقبل جديد أفضل للعالم ككل. وتدفع الهزيمة المفجعة (الأبدية أو المؤقتة بلمسة خداع) في ما بعد إلى اليأس من حدوث أي تغيير. التأرجح بين اليأس والأمل، الحالة التي تدفع إلى اختيار شعار أنطونيو جرامشي الشهير: «تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة».
قد تكون ما بعد الحداثة مخطئة في اللحظة التي تكون فيها مصيبة، وهيغل قد يكون مُصيبًا في اللحظة التي يكون فيها مخطئًا. قد يكون للتاريخ فلسفة شاملة يحكمها الجدل، الأمر الذي ترفضه ما بعد الحداثة. وقد تنجح الثورات على مستوى العالم في النهاية، وتنشئ مجتمعًا جديدًا، أو قد لا يحدث ذلك أبدًا.
ميشيل فوكو يقول إنه «ينبغي علينا أن نحدد إلى أي مدى يمكن أن تكون مناهضتنا للهيغلية واحدة من الحيل الموجهة ضدنا، والتي في نهايتها نجده واقفًا، دون حراك، في انتظارنا». حينما سُئل «تشو إن لاي»، أول رئيس وزراء لجمهورية الصين الشعبية، عن نجاح الثورة الفرنسية من عدمه، أجاب بأنه «من المبكر جدًّا حسم ذلك»، رغم أن شكوكًا تُثار حول أن مراسل «الفاينانشال تايمز» البريطانية كان يقصد بسؤاله ثورة الطلاب في مايو 1968، وليس الثورة الفرنسية في 1789، إلا أنه لم يزل من المبكر جدًّا كذلك حسم مصير الثورة المصرية في 2011.
هذا الموضوع كتبه أحد قُرّاء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.