التطور والواقع: هل نرى ما نرى فعلًا؟

الصورة: Boris Thaser

هشام فهمي
نشر في 2017/01/08

يصفُ «آدم فرانك» (Adam Frank)، بروفيسور الفيزياء الفلكيَّة بجامعة روتشستر في ولاية نيويورك، نفسه بأنه «مبشِّر بالعلم».

وبما أنه يترأَّس الآن مجموعة بحثيَّة تعمل على تطوير كمبيوتر فائق لدراسة تكوُّن النجوم وموتها والكواكب الوليدة وبناء السُّحب ما بين النجوم، فإن هذا يجعله منفتحًا على معرفة المزيد عن النظريات العلميَّة الحديثة، سواءً تلك التي ثبتت صحَّتها من عدمها، أو تلك التي لا تزال محلًّا للنقاش، ولذا يعرض علينا في موضوع نشره موقع NPR نظريَّةً أثارت الكثير من الجدل، عن إدراكنا الواقع من حولنا.

اقرأ أيضًا: هل نعيش في واقع افتراضي؟

يطرح فرانك عددًا من الأسئلة البسيطة، قائلًا: انظُر حولك، ماذا ترى؟ الآخرين منصرفين إلى شؤونهم؟ غُرَفًا ارتصَّت فيها الموائد والمقاعد؟ الطبيعة بسمائها وعُشبها وأشجارها؟

كل هذه الأشياء موجودة حقًّا، أليس هذا صحيحًا؟ حتى لو أنك اختفيتَ بلا أثرٍ الآن، سيظلُّ باقي العالم موجودًا بجميع صُوره التي تراها الآن، أليس كذلك؟ أم أن المسألة تنطوي على شيءٍ مختلف؟

هل تُدرك حواسُّنا الواقع الحقيقي؟

الانتخاب الطبيعي
الصورة: Wikimedia

من الوارد أن تتوقَّع سماع هذا النوع من الأسئلة الميتافيزيقيَّة في درسٍ ممتع عن الفلسفة، أو حتى في أثناء حوارٍ عن فيزياء الكَم، بينما لا يتوقَّع معظمُنا أن فكرةً تُنكر واقعيَّة العالم الموضوعي يمكن أن تخرج من علم الأحياء التطوُّري، خصوصًا أن التطوُّر يقول لنا إن تآلُفنا مع الواقع نتيجة مليارات السنين من الانتخاب الطبيعي، فمن المنطقي أن الكائنات التي لا تستطيع التمييز بين الثعبان السام والعصا، لا يُفترض أن تعيش طويلًا، ومن ثَمَّ لا تنقل جيناتها إلى الأجيال التالية.

التطوُّر يجعل هناك اختلافًا بين الواقع الموضوعي وإدراكنا له، أي إن ما نختبره بحواسِّنا قد لا يكون هو الموجود فعلًا.

هذه هي الحُجَّة النموذجيَّة المعتادة، لكن «دونالد هوفمان» (Donald Hoffman) لا يتَّفق معها، وهو بروفيسور بجامعة كاليفورنيا ومتخصِّص في علوم الإدراك (Cognetive Sciene)، المعروفة أيضًا بالعلوم الاستعرافيَّة، والتي تعدُّ تخصُّصًا جامعًا لعددٍ من العلوم، إذ تتكامل مع علم النفس والذكاء الصناعي واللسانيات وفلسفة العقل والعلوم العصبيَّة والمنطق والأنثروبولوجيا والأحياء، وغيرها.

طيلة عقودٍ وهوفمان يدرس الروابط بين التطوُّر والإدراك والذكاء (البشري والصناعي)، وبناءً على جهوده هذه، فإنه يعتقد أن هناك شيئًا أساسيًّا فاتنا فيما يتعلَّق بالواقع الأساسي. يقول هوفمان إن التطوُّر يجعل هناك اختلافًا بين الواقع الموضوعي وإدراكنا له، أي إن ما نختبره بحواسِّنا قد لا يكون هو الموجود فعلًا.

قد يهمك أيضًا: هل يمكن لدماغ الإنسان تجاوز المستحيل؟

الكائن الذي يهتم بزيادة نسله فقط ولا يبالي بما يحدث في الواقع، هو من يربح لعبة التطور في نهاية الأمر.

جعلت هذه المزاعم هوفمان محطَّ اهتمام الكثير من وسائل الإعلام خلال الشهور الماضية، كما أن كلمته بمؤتمر (TED) في مارس 2015 انتشرت كثيرًا، حتى إن أكثر من مليوني شخص شاهدوا تسجيلها. يقول فرانك إنه عزم على معرفة المزيد بعدما أرسل إليه أحد أصدقائه التسجيل، فاتصل بالدكتور هوفمان الذي قبل لقاءه بترحاب، وخصَّص بعض الوقت للجلوس والكلام.

ويؤكِّد فرانك أن الحوار الذي دار بينهما كان شديد المتعة، ويُثبت أن هوفمان رجل صاحب فكرة راديكاليَّة كبيرة بالفعل، وفي الوقت نفسه لا يبدو أنه يسعى إلى تحقيق مصلحة شخصيَّة، بل إنه متفتِّح حقًّا ويشعر بفضولٍ حقيقي، إذ يقول هوفمان إنه في أعماقه عالِم لديه نظريَّة؛ إما أن تمنحها البيانات الحياة وإما تُميتها.

ما تلك الفكرة الراديكاليَّة الكبيرة؟

لوحة إلكترونية
الفارق بين إدراكنا الواقع والواقع الحقيقي كالفارق بين ما تراه على شاشة الكمبيوتر والدوائر الإلكترونية التي تكوِّن الكمبيوتر نفسه

لنتخيَّل أن هناك نوعين من الكائنات يعيشان في بيئةٍ ما؛ الأول يستجيب بشكلٍ مباشر للواقع الموضوعي، أي الواقع المستقل الحقيقي الموجود حولنا، أمَّا الثاني فيستجيب فقط لأهليَّته، أي مدى نجاحه في إخراج جيلٍ جديد من نسله مقارنةً بالكائنات الأخرى المحيطة به.

سنجد أن الكائن الثاني، ذلك المهتم بزيادة نسله، لا يبالي على الإطلاق بما يحدث في الواقع، وهو من يربح لعبة التطور في نهاية الأمر، ويكون أكثر قدرةً من الآخرين على تمرير جيناته إلى الأجيال التالية.

وهذه هي نظرية هوفمان؛ أن إدراك الواقع بدقَّة ليس بالأهمية التي نراه بها من وجهة نظر التطوُّر، إنما البقاء لمن يلتزم بقواعد اللعبة، ويعمل على تعزيز أهليته. وقد صاغ هوفمان نظريته بدقَّة وعناية، فيقول: «في عالمٍ استبدادي ذي وظائف أهليَّة استبداديَّة، فإن الكائن الحي الذي يرى الواقع كما هو، لن يكون أكثر أهليَّةً من كائنٍ آخر يماثله في التعقيد ولا يرى شيئًا من هذا الواقع، لكنه يملك أهليَّة المعيشة فيه ».

كي نستوعب أكثر، لنضع في الاعتبار المثال الذي يضربه هوفمان في حوارٍ له مع مجلة (Quanta Magazine)، إذ يبدأ بتخيُّل أحد الموارد الطبيعيَّة كالماء، بما أن هناك اتفاقًا على ترتيب مقاديره في عالم الواقع: مقدار قليل جدًّا، ومقدار متوسِّط، ومقدار ضخم.

هكذا، طبقًا لهوفمان، لن تستجيب الدوافع الأهلية بشكلٍ مباشر بناءً على كمية المياه، وبدلًا من هذا سترى أن القليل جدًّا من الماء شيء سيئ (الموت بالجفاف)، وكذلك الكثير جدًّا منه (الموت بالغرق)، ما يعني أن التطوُّر يوفِّق سلوك الكائن الحي بما يجعله يعي أن القليل أو الكثير جدًّا من الماء سيئ، وكلاهما يولِّد استجابةً من النوع نفسه هي الإدراك، بينما يولِّد قدر الماء المعقول وحده استجابةً مختلفةً.

يعلِّق هوفمان على هذا قائلًا إننا نفترض أن أسانيد الإدراك، أي الزمن والمكان والأشياء الماديَّة الملموسة والأشكال، تصف الواقع المادي من حولنا بدقَّة، بينما تقول نظريته إن من شبه المؤكَّد أن إدراكنا الواقع بناءً على هذه الأسانيد مغلوط، وإنه يختلف عما نظنه عن هذا الواقع، ما شبَّهه هوفمان في إحدى محاضراته بأن الفارق بين إدراكنا الواقع والواقع الحقيقي كالفارق بين ما تراه على شاشة الكمبيوتر والدوائر الإلكترونية التي تكوِّن الكمبيوتر نفسه .

التطوُّر يسعى إلى استمراريتنا

فراشة

بمعنى آخر، التطوُّر لا يكترث إطلاقًا بإدراكك الواقع الموضوعي من عدمه، ولا يريد منك إلا أن تمارس الجنس بنجاح، بغرض التناسل . ونتيجةً لهذا، فإن إدراكك الواقع لا يتصف بالدقَّة، وإنما قد يغيِّر من حقيقة الواقع نفسه، ما دام كان ذلك في مصلحة استمراريتك في هذا الواقع، وهكذا فإدراكك في أعماقه لا علاقة له بفيزياء ما تُبنى عليها الطبيعة الأساسيَّة للواقع الموضوعي المستقل.

قد يعجبك أيضًا: علينا أن نفكر جديًّا بشأن نظرية التطور

هل الواقع الذي نُدركه لا علاقة له بالعالم الحقيقي؟ لا بدَّ أن شيئًا كهذا سيغضب أناسًا عديدين في مجالاتٍ كثيرة.

ويشير الكاتب إلى أن هوفمان يبني شيئًا آخر أكثر راديكاليَّة من الرابط الذي يشكِّك في وجوده بين الواقع الموضوعي والتطوُّر، يُسمِّيه «الواقعيَّة الواعية» (Conscious Realism)، ويبنيه على فرضيَّة تقول إن هناك «دوائر من الوسائط الواعية» هي ما يعرِّف الواقع الذي نختبره.

يقول هوفمان إنه بينما من الواضح أن هناك عالمًا آخر منفصلًا عنا، فإن التطوُّر لا يتيح لنا الاتصال به، وبدلًا من هذا، فتعاملاتنا كناقلين واعين هي ما يُعطي الواقع الذي نختبره شكله. ويضيف هوفمان في حواره مع (Quanta Magazine): «يمكنني أن آخذ مراقِبين منفصلين لظاهرةٍ ما وأضعهم معًا، فأصنع منهم مراقِبين جددًا، وأظل أفعل هذا بلا نهاية. إننا ناقلون واعون دائمًا وأبدًا».

كلام يجعل رأسك يدور، أليس كذلك؟ الواقع الذي نُدركه لا علاقة له بالعالم الحقيقي؟ لا بدَّ أن شيئًا كهذا سيغضب أناسًا عديدين في مجالاتٍ كثيرة.

سأل الكاتب هوفمان عن رد الفعل على عمله، فأجاب: «في جميع أنحاء العالم يقولون إنني إمَّا عبقري وإما أحمق كبير». وبالنسبة لكاتب الموضوع نفسه، فإنه يجد أفكار هوفمان مثيرة وجذابة بسبب تحيُّزاته الفلسفيَّة الخاصة، كما أن من الواضح من مجمل أعماله أنه يتعامل مع هذه المشكلة من زوايا مختلفة منذ فترةٍ طويلة، لكن الكاتب يذكر كذلك أنه ميال إلى الاعتقاد في خطأ هذه الأفكار، مثلها مثل معظم الأفكار الراديكاليَّة، لأن الأمر يتطلَّب إثباتًا ضخمًا كي تميل كفَّة الميزان في صالحها. ويختتم مقاله بأن ما يروقه في دونالد هوفمان حقًّا هو استعداده المرِح لإثارة الجدل.

لتستمر ألعاب التطوُّر وغيره إذًا!

مواضيع مشابهة