نقد الحنين كمشروع سياسي: كل جديد ينشأ، يهرم قبل أن يصلب عوده

الصورة: Getty/Anadolu Agency

بلال علاء
نشر في 2018/02/08

هذا الموضوع ضمن هاجس «الثورة والثوار». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.


 يقول أحدنا ساخرًا: يبدو أنهم لم يعلموا بعد أننا نعيش في عام 2018. عادة ما نقول مثل هذا الكلام حين نصطدم بدعوات لمراقبة كل شيء، أو بحنين «مضحك» إلى زمن كانت فيه السلطة أقوى، حنين نحكم عليه بالفشل المسبق لأنه يخالف «حركة التاريخ»، يخالف «روح العصر» الذي نعيش فيه، وهؤلاء الذين يتحدثون عن ذلك لا يعرفون كل الإمكانات المتاحة للهرب من المراقبة التي أتاحتها لنا التكنولوجيا.

تفترض تلك السخرية أننا أبناء هذه اللحظة الأصليون، نعي موقعنا من التاريخ جيدًا، بينما يعيش الآخرون في عالم قد انتهى، ولكنهم لم يدركوا ذلك بعد. لكن كيف تتواءم كل هذه الثقة المفرطة مع حقيقة انتصار كل ما يخالفنا؟

أقدم لكم: العالم

ترامب وبوتين -الصورة: kremlin

في العالم الذي نعيش فيه الآن، يحكم أقوى دولة في العالم ملياردير قضى حياته كنجم لبرامج التوك شو، ويتحدث بشكل كاريكاتيري دائم عن نفسه، وعن أي شيء. فهو أذكى شخص، وسيبني أطول سور، ويمتلك أفضل خطة، ويعرف أفخم الكلمات، ويقول لغريمه في كوريا الشمالية إنه يمتلك «زر أكبر» منه للسلاح النووي، ويدافع علانية عن أساليب وحشية في التحقيق، ويدافع عن معتقل غوانتانامو سيئ السمعة. 

هذا الرجل حصل على تأييد أكثر من 60 مليون مواطن أمريكي ليكون رئيسًا للبلاد، دون أن تؤثر كل السخرية اللاذعة التي وجهت إليه من خصومه «الأكثر عصرية» عن عدم مناسبته للعصر والمنصب في أي شيء.

في العالم الذي نعيش فيه أيضًا، الدولة الأكثر سكانًا في العالم، وصاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بعد البلد التي يديرها نجم التوك شو، تُحكم بواسطة نظام الحزب الواحد: «الحزب الشيوعي الصيني». وهي تصادر على أي حركة معارضة، وتتحكم في كل شيء، وتحجب كل مواقع التواصل الاجتماعي التي نعرفها، وتستبدل بها وسائل خاصة. الدولة التي ورثت «الاتحاد السوفييتي»، فيحكمها منذ 18 عامًا رجل مخابرات يسلم نفسه دوريًّا السلطة عن طريق مَشاهد ديمقراطية لا تختلف كثيرًا عن مثيلاتها في دول العالم الثالث.

أما القارة العجوز، ففي فرنسا وصلت رئيسة الجبهة الوطنية اليمينية «مارين لوبان» إلى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية، وحصدت فيها أكثر من 30% من الأصوات. وفي ألمانيا، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، نجح حزب قومي متطرف هو «البديل لألمانيا» في الفوز بـ90 مقعدًا ليصبح ثالث أكبر كتلة برلمانية. وفي بريطانيا نجحت حملة التخويف من المهاجرين في دفع البريطانيين إلى التصويت للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، في ما يُعرف بالبريكست. وفي النمسا نجح حزب الحرية اليميني في الوصول إلى الائتلاف الحاكم بعد حصاده نحو ربع الأصوات في الانتخابات.

إذا عدنا إلى المنطقة، فالنموذج الديمقراطي المحافظ الذي طالما ضُرِب المثال به: تركيا، تزج بعشرات الآلاف من المعتقلين في سجونها، بعد محاولات انقلاب فاشلة عام 2016، ويحكمها الرجل نفسه منذ 15 عامًا، ويعتقل كل من ينتقد قراراته، وأصبحت تعد من أكثر الدول التي تسجن الصحفيين في العالم.

يحكم السودان رجل أتى بانقلاب عسكري منذ ما يقرب من 30 عامًا باتفاق مع الحركة الإسلامية، ونجح في القفز على أي انتفاضات ضده، والبقاء في منصبه: عمر البشير.

أعتى دولة عربية وأكثرها تأثيرًا، السعودية، تتبع نظامًا ملكيًّا تقليديًّا، ولم تبدأ إلا منذ أشهر معدودة قطع تحالفها مع التيار الوهابي المتشدد، واتخاذ خطوات نحو التحديث المشهدي، والسماح بأشياء أولية، مثل: قيادة المرأة للسيارات، أو حضورها للمباريات، وتشتد قبضة هذه الدولة جدًّا لدرجة قدرتها، بجوار حملتها على رجال دين بارزين، على اعتقال عشرات الأمراء النافذين واتهامهم بالفساد.

 هذه الدولة في صراع إقليمي مع دولة أخرى هي إيران، غنية جدًّا بدورها، وتُحكم بواسطة نظام جمهوري إسلامي، يقوم على فكرة «ولاية الفقيه»، الفقيه الذي ينوب عن إمام غائب منذ ألف عام إلى حين عودته، هذا النظام معروف بوجهه القمعي، وبتدخلاته في المنطقة لدعم طائفة دينية بعينها ضد الطوائف الأخرى، وكلٌّ من المغرب والأردن وقطر وعمان والإمارات والبحرين والكويت، تُحكَم بنظام ملكي بأشكال مختلفة ودرجات متعددة من الدستورية.

العراق انتقل في سنوات معدودة من حكم صدام، إلى الاحتلال الأمريكي، إلى حرب أهلية طائفية، إلى هيمنة إيرانية على سلطاته، إلى سيطرة تنظيم داعش على ما يقرب من ثلث مساحته، بالكاد تخلص منها. وما زالت الحرب الأهلية السورية مستمرة بعد سبع سنوات بعد أن تدخل فيها الجميع، واليمن يخوض عدة معارك إقليمية وداخلية لا تبدو ذات غاية أو نهاية، ومنذ أسابيع قليلة فقط قتل الحوثيون الرئيس اليمني الأسبق علي عبد الله صالح بعد أن تملص من تحالفه معهم.

ليبيا في معارك داخلية طويلة ومستمرة بين فصائل متعددة لا يسيطر أحد منها على البلد كله، وفشل المجتمع الدولي في دفعهم إلى حوار ينهي الانقسام الداخلي.

أما السودان، فيحكمه رجل أتى بانقلاب عسكري منذ ما يقرب من 30 عامًا باتفاق مع الحركة الإسلامية هناك، ونجح حتى الآن في القفز على أي انتفاضات ضده، والبقاء في منصبه: عمر البشير.

«كل جديد ينشأ، يهرم قبل أن يشتد عوده»

ميدان التحرير يوم 8 فبراير - الصورة: Mona

كان المنادون بالحرية أكثر حيوية من أنظمة لم يعد أحد يصدق خطاباتها، يستخدمون التكنولوجيا بوعي ويتواصلون عن طريق شبكات اجتماعية لم تكن من صلب الأنظمة الاجتماعية.

إذا كان كل هذا صحيحًا، فلماذا يبدو العالم في نظرنا مختلفًا تمامًا عن ذلك؟

الأمر بسيط، نحن أبناء لحظة واعدة من التاريخ، إذ بدت المنطقة على وقع الثورات العربية في طريقها، أخيرًا، نحو تأسيس جمهوريات ديمقراطية. وشكّل انتصار بعض هذه الثورات السريع، مصر وتونس بالأساس، عاملًا مساعدًا للإحساس بأن الوصول إلى الحرية مسألة وقت، وأن كل ما تفعله السلطات في مواجهة من يطالبون بها مجرد تأخير مثير للشفقة، الحقيقة ستفرض نفسها عاجلًا أم آجلًا.

في تلك اللحظة، كانت الدولة الكبرى في العالم يقودها رجل أسود، ديمقراطي، خريج جامعة عريقة، مثقف، نسوي، سانده الظرف الدولي الذي صعد فيه: الفشل الذريع والدرامي للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، ورغبته في الانسحاب من المنطقة، والانتفاضات التي أيدها خطابيًّا، ساعده ذلك على تصوير أمريكا مرة أخرى كدولة تقدمية تمثل ما يطمح الديمقراطيون إلى فعله، وعلى تصوير أمريكا كمثال لما ينبغي أن تكون عليه الديمقراطيات، سواء كانت تلك الصورة دقيقة أم لا، إلا أنها أسهمت في مساندة خيال معين ضد خيال آخر.

هذا «المثال الأمريكي» لم يكن متحققًا بنفس الدرجة طبعًا مع سَلَفه جورج بوش بسبب قيادته لاحتلال أفغانستان والعراق، ودعم إسرائيل الصريح خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

وقتها، تحمس العالم لهذه النقلة الجماعية لدول عربية ظلت طويلًا مثارًا للتندر والفشل المزمن في التنمية والتقدم. لوهلة بدا الأمر حتميًّا، الليبرالية بالفعل نهاية التاريخ، وها هي الدول العربية تصل أخيرًا إلى الركب العالمي. هذه اللحظة هي التي حكمنا فيها على كل من يخالفنا بأن الزمن قد تجاوزه، وأن صيحاته وغضبه لن يثيرا عندنا إلا الضحك من فرط اطمئنانا لمدى عبثية محاولة الوقوف في وجه التاريخ.

حينها، كان المنادون بالحرية أكثر حيوية من أنظمة لم يعد أحد يصدق خطاباتها، وكانوا أكثر قربًا من روح العصر، يستخدمون التكنولوجيا بكثافة ووعي أكثر من الأنظمة، يتواصلون عن طريق شبكات اجتماعية لم تكن قد أصبحت بعد من صلب الأنظمة الاجتماعية، وكان استخدامها محصورًا بشكل كبيرة داخل جيل معين، ويستطيعون تطوير خطابات ولغة أكثر جدة وغرابة عن المألوف السياسي، وبالتالي تحوز جاذبية وسرعة انتشار كبيرة، يتحركون بخفة بينما السلطات الثقيلة تلهث أنفاسها وهي تحاول اللحاق بهم.

وفي الاندفاع الهادر للشعوب المطالبة بتغيير أنظمة حكمها لشكل أكثر تمثيلًا وبراحًا، كانت الثقة مبنية على رهان على العالم، العالم الذي سيساند هذه الحركة لأنها اندفاعة نحوه، اندفاعة ليكون العرب جزءًا من الذي يحاولون اللحاق به منذ زمن بعيد، ورهان على أن هذا الاندفاع جزء من التاريخ، لأن التاريخ يسير نحو تحقيق الحرية بشكل عام، والتاريخ سيرعى حتمياته. صارت الأمور سلسة في تونس ومصر، تعثرت في ليبيا واليمن والبحرين، لكنها توقفت تمامًا في سوريا، ومن سوريا بدأ الدفع نحو طريق آخر للتاريخ.

في عالم انتصار اندفاع الشعوب، أصبح كل ما يخالفها غريبًا، وما حدث في سوريا أن النظام، وبمساعدة من حلفاء طائفيين، تمكن من إعادة تطبيع هذه «الغرابة»، لقد اكتشف النظام السوري اكتشافًا خطيرًا، وهو أنه إن أصر طويلًا على «غرابته الوحشية» سيبدأ العالم يألفها.

كان من الغرابة مثلًا أن الأنظمة تستطيع أن تصمد في وجه ثورة شعبية عارمة، فصمد النظام السوري، وكان من الغرابة أن يتمكن نظام يقتل المئات من شعبه يوميًّا، ويُهجِّر الآلاف، ثم الملايين، من الاستمرار في الحكم، ففعل.

«صموده» الوحشي هذا، أعاد إحياء الحركة الجهادية في العالم، في وقت بدا أن «الحركات السلمية» ستكون هي روح العصر، لتكون سوريا مصب أكبر «هجرة جهادية» في العصر الحديث.

آلاف من المتشددين دينيًّا يذهبون إلى سوريا، ليس بالطبع لنجدة الشعب السوري، ولكن لتحقيق «دولة الإسلام» على الأرض (هذه الحالة الجهادية التي أثرت بدورها في تجذير النفس الجهادي عند الإسلاميين في مصر بدرجة أو أخرى، حتى في مرحلة ما قبل سقوط الإخوان، وإن كان يصعب ملاحقة هذا التأثير في هذه المساحة)، ليصعد من رماد الحرب السورية التنين الذي سيحرق أي «دهشة عالمية» من غرائبية النظام، لصالح الاهتمام بغرائبية أخرى .

كان التنين الداعشي تلخيصًا مثاليًّا، من وجهة نظر النظام السوري، لخطر الثورات، كان أمنيته الخطابية وحلمه الدائم واستراتيجيته للانتصار وتهديده للعالم: إذا فتحنا الشوارع أمام هذه الشعوب، فلن تنشئ أي ديمقراطية بأي شكل، بل ستشكل جماعات إرهابية مجنونة تهدد العالم كله.

فعل داعش ذلك، سيطر على مساحات تعادل عدة دول، فاحتفى بالعنف والقتل والذبح دون مورابة، بل كانت خطته للتجنيد هي الترويج لاستهانته الساخرة بالأرواح، أعاد العبودية الصريحة، وحين أبدى العالم ضجره مما يفعله، فجر مقاهي وصُحفًا، وفتح النيران في شوارع عواصم الغرب، فاتفق العالم مع النظام: القضاء على هؤلاء مقدم على أي شيء آخر، ولو كان حق الشعوب في تقرير مصيرها.

الهاتف الذكي يتيح لك تصوير مشاهد القمع و«فضح» السلطة، لكنه في المقابل يتيح لها أن تعرف مكانك بشكل دائم.

وفي خلال هذه الحرب الطويلة بين النظام والثورة والتنين والعالم، تم تهجير ملايين السوريين الذين زحفوا إلى كل مكان يستطيعون الوصول إليه للاختباء من جحيم الحرب، فأيقظت هجرتهم تلك تنينًا من المشاعر المعادية للمهاجرين والأقليات داخل الغرب، وهذا التنين اليقظ أخذ يفعل كل ما هو «غريب» في نظر الليبراليين، وانتشرت التعليقات العنصرية والمعادية للمهاجرين والمسلمين بين قادة الدول، وليس مجرد مهاويس يمينيين.

 الكلمات التي كان الناس يتوقفون لترامب عند كل واحدة منها، أصبحوا من فرط كثرتها يهملونها، أو تمحو موجة من الغضب موجة أخرى، وخبر فض مظاهرة في مكان ما، بعدما كان يثير الغضب، أصبح الغريب فعلًا أن تمر المظاهرة بسلام، ومع الوقت تمل حتى المنظمات الحقوقية من الصراخ ضد انتهاكٍ ما إذا تكرر الانتهاك بكثرة، أما الدعوات لاستعادة الدولة بشكلها القديم الأقوى، فأصبح شعارًا انتخابيًّا لرئيس أقوى دولة في العالم، وليس مجرد حنين عند رجل سبيعيني في دولة عالم ثالث لروتين الدولة الاشتراكية الرتيب.

التكنولوجيا التي سخرنا بها في وجه «المتسلطين الجدد»، نحن نعلم جميعًا الآن أنها لعبة يلعبها اثنان، الهاتف الذكي يتيح لك تصوير مشاهد القمع و«فضح» السلطة، لكنه في المقابل يتيح لها أن تعرف مكانك منه بشكل دائم، وأن تعرف كل محادثاتك مع كل من تعرفهم، وصحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي وفرت مساحة للتنظيم تراوغ قدرة السلطات على ملاحقتها، لكن وبمجرد انتباه السلطات لها، أصبحت كنزًا للسلطات لاكتشاف أي بذور حراك والقضاء عليه في مهده.

لم يعد الإنترنت تلك الواحة التي لا يعرف طريقها سوى «الـgeeks»، بل ونجحت الأنظمة، ليس فقط في الاستفادة الرقابية من هذه المساحات، لكن أيضًا في أن تكون هذه المساحات نفسها أحد منصاتها الرئيسية لنشر أفكارها وخطاباتها لشرائح ومخَاطبين آخرين، ولم يعد «الإنترنت» أو «مواقع التواصل الاجتماعي» مساحة للشباب و«الغيكس» يفعلون فيها ما يريدون لأنها مساحتهم شبه الخاصة، هذا الامتلاك الشبابي للفضاء الإلكتروني أصبح من الماضي.

وهكذا يصبح للعالم «مألوف جديد» لا يثير الغرابة، هذا المألوف له القدرة على الانتشار السريع الذي كان للمنادين بالحرية في وقت ما، هذا المألوف الجديد يسيطر أيضًا على المنافذ الحديثة، ترامب نفسه يستخدم «تويتر» كمنبر أساسي لنشر آرائه، ولا يعني انتصار هذا المألوف على «غرابته» أنه يجب التسليم له كحتمية لا يمكن الوقوف ضدها.

التاريخ ليس خَطيًّا بالطبع، ولا يتوجه العالم في حدوثه نحو غاية ما، لكنه أيضًا ليس قطارًا لعبةً يدور في دائرة لا نتنهي، لا يعود إلى بدايته وينطلق منها مرة أخرى، بل هناك آلاف الطرق الشبحية ينتظر كلٌّ منها أن يدفع الناس العالم إليه، لكنه، أبدًا، لا يندفع إلى الوراء.

الدهشة التي لا تُحتمل

الصورة: Getty/Daniel Berehulak

إذا كانت هناك ميزة سياسية ما للدهشة، فهي أنها تسمح للناس بالاحتفاظ بنسخة أكثر جمالًا أو معقولية للعالم في أذهانهم، لعلهم ينجحون في وقت ما في تحقيقها، وفي جعل العالم معقولًا أكثر بالنسبة إليهم.

أذكِّر نفسي بهذا كلما رأيت أحدهم ينشر صور مظاهرات يناير 2011، وشعرت بغضب ما من هذا الحنين. يعرف المرء أن ذاكرتنا غالبًا ما تقطع من الماضي اللحظات السيئة والمؤلمة، ليتبقى الجميل منها، لهذا يبدو الماضي دائمًا أجمل وأكثر طمأنينة، فنتصوره مثاليًّا تمامًا، فكيف إذا كان هذا الماضي أجمل فعلًا، وأكثر طمأنينة، وأقرب للمثال حقيقةً ودون أي خداع من الذاكرة؟

كيف انهارت هذه الثورة؟ كأننا انتقلنا فجأة، وبسبب «الأشرار»، من أجواء احتفالية بثورة منتصرة، إلى واقع قاتم نمتلئ فيه بالحنين حتى نكاد ننفجر به في أي لحظة.

لكن هذا الغضب ليس موجهًا ضد الحنين في ذاته، بل ضد الحنين كاستراتيجية سياسية، الغضب من أننا ننجرُّ بمُضِي الوقت إلى أن نكون أشباحًا للماضي، إنجازنا الأكبر في الحياة قد فعلناه فعلًا، ولم يتبقّ إلا البكاء عليه، هذا وأغلب جيلنا ما زال في ذروة شبابه، كنا وقتها قد جاوزنا العشرين عامًا بالكاد، ونحن الآن شبان ثلاثينيون، أو على أعتاب الثلاثين، لا تزال الحياة بأكملها أمامنا، ومن المبكر جدًّا أن نعيش في عالم انتهى بالفعل.

كان الحنين إلى يناير ليكون أقل وطأة لو كان مصحوبًا بتسليم بكونه ماضيًا تامًّا، الغضب لأن الحنين إلى يناير حنين سياسي، أي مشروع سياسي مختزل في لحظة ماضوية، وبهذا المعنى، يصبح المنادون بحرية أكبر جزءًا من الماضي.

مشكلة الحنين إلى يناير كمشروع سياسي أنه يتجاوز السؤال الأهم: كيف لثورة بهذا الحجم، انتصرت كل هذا الانتصار طوال ما يقرب من سنتين ونصف، أن تنهار هذا الانهيار، ويصبح الواقع كما هو الآن؟

تُطرح يناير في مشروع الحنين السياسي كإجابة لأسئلة الواقع، إجابة عن: كيف يمكننا أن نعيش في عالم أجمل؟ لكن الواقع أن يناير كانت إجابة لما قبلها، إجابة للسؤال المندهش: كيف يمكن لمبارك أن يستمر ما دام الجميع متفقين ضده، والتيارات السياسية كلها متفقة على شكل المستقبل السياسي الأفضل للبلد؟

يناير الآن سؤال وليست إجابة، سؤال عن كيف انهارت هذه الثورة، السؤال الذين يصادره الحنين، لتكون إجابته عن كيف وصلنا إلى هنا هي محض الدهشة والغرابة، كأننا انتقلنا فجأة، وبسبب «الأشرار»، من أجواء احتفالية بثورة منتصرة، إلى واقع قاتم نمتلئ فيه بالحنين حتى نكاد ننفجر به في أي لحظة.

العيب الأساسي في مشروع الحنين السياسي إلى يناير أنه يرى بندول الزمن يتحرك بين قطبين: الديكتاتورية والثورة، وعلينا، ونحن في قطب الديكتاتورية، أن ندفعه إلى الثورة، وأن هزيمة أي ثورة تعيد الزمن إلى ما قبلها، وفي هذا الزمن، يكون الحنين إلى الثورة هو المشروع المستقبلي للمهزومين. لكن يناير كانت إجابة لزمن آخر، وبحدوثها وانتصارها وهزيمتها أصبحنا أمام أسئلة أخرى، يناير هي أحد تلك الأسئلة، وليست إجابة لأي سؤال حاضر.

هناك أزمة عميقة أخرجتها يناير للعيان، وهي في رأيي سؤالها الأساسي، الأزمة أن هناك خلافًا أصيلًا بين مجموعات كبيرة حول كيفية تأسيس «الجمهورية»، خلاف على ماذا بالضبط سيتم هذا التأسيس؟ أي قيم؟ وأي مشروع؟ بل خلاف أصلًا حول ما إذا ما كانت هناك اعتراضات جذرية حول «الجمهورية القديمة»، أم مجرد رغبة في إصلاح ما فسد فيها.

اقتصاديًّا، اتفق الليبراليون مع الإخوان مع الدولة حول معارضة أي تغيير اقتصادي جذري أبعد من «محاسبة الفاسدين»، واتفقوا جميعًا على رفض الإضرابات العمالية الواسعة لأنها تستغل فترة ضعف الدولة من أجل مصالح أنانية، واتفق الإسلاميون مع الدولة على معارضة أي تغيير اجتماعي وفكري في المجتمع، لأنه سيخالف عاداتنا وتقاليدنا.

يتبقى إذن الشكل السياسي المحض للجمهورية الجديدة، وهنا لا اتفاق على شيء، فهناك تيار ضخم من الإسلاميين يرى الجمهورية، ابتداءً، مجرد خطوة في الطريق إلى الخلافة، والجمهورية نفسها ستؤسس على تطبيق الشريعة، أما الديمقراطية فمجرد أداة لتناوب الحكم في هذا الإطار. يقابل هذا التيار الضخم تيار آخر، يرى «الجمهورية» ليبرالية بالتعريف، وتفصل الدين عن الدولة، ترتكز إلى الحريات والحقوق المدنية لكل الأفراد، أيْ جمهورية تحاول احتذاء المثال الأوروبي بدرجة أو بأخرى.

الاتفاق على الشكل العام لجمهورية الثورة بين التيار الإسلامي والعلماني، من فرط هشاشته، انكسر مبكرًا جدًّا بمجرد إزاحة مبارك.

في نظر التيار الإسلامي، فتيار الاندماج الثقافي مع العالم الغربي، سواء كان ليبراليًّا أو يساريًّا، هو خصمه الأول، الخصم ذو الأولوية، إنه «الخطر الذي يهدد الأمة بترويجه للثقافة الدخيلة»، ثم إن هذا التيار، في نظر الإسلاميين، ينتقد ما يرونه الدين الصحيح، ويطالب بقوانين تخالف الشريعة، وإذا كانت الدولة لا تطبق الشريعة بشكل كامل، فإن هؤلاء خصوم أكثر أهمية لأنهم يصرحون بآرائهم تلك، ويطالبون بإزاحة الشريعة كليًّا من المشهد.

وبالنسبة إلى التيار العلماني، فالإسلاميون يمثلون مشروع ديكتاتورية دينية صريحة تقوم على احتكار أفراد وجماعات معينة لرأي الدين، ثم محاكمة الجميع به، هذه الجماعات تريد أن تشيد دولة دينية تضطهد كل المختلفين معها وتطبق قوانين ربما كانت صالحة في وقت ما، لكنها لم تعد صالحة الآن. ولهذا، فحتى لو لم يكن النظام «علمانيًّا» أو ليبراليًّا، وربما كان محافظًا أيضًا، إلا أنه على الأقل يعترف بضرورة التقدم للأمام، ويستطيع أن يحجم طموحات هذه الجماعات، وهو أيضًا نظام يمكن التسلل إليه، على العكس مثلًا، طائفة الإخوان المسلمين، شبه المغلقة ونصف السرية.

صحيحٌ أنه في الأوقات التي كان فيها القمع موجهًا لكلا التيارين في عصر مبارك، نجح الطرفان، بعد سنوات طويلة، في الاتفاق على قواعد عامة، ضبابية غالبًا، يعترف فيها الإسلاميون بأهمية الحرية والديمقراطية، ويسمي العلمانيون أنفسهم «قوى مدنية»، ويقرون بضرورة الحفاظ على الشريعة كأصل تشريعي رئيسي، يتفق الاثنان على رفض «التوريث»، ورد التعثر الاقتصادي إلى «الفساد»، ورغبتهم في «انتخابات نزيهة».

وصحيحٌ أن هذا الاتفاق نفسه كان هو الذي سمح بيناير، أي سمح بإمكانية وجود قوى مختلفة جدًّا عن بعضها في نفس المكان تهاجم نفس النظام لصالح مطالب تبدو واحدة ومتفقًا عليها.

هذا الاتفاق أو التواطؤ على الشكل العام لـ«جمهورية الثورة»، من فرط هشاشته، انكسر مبكرًا جدًّا بمجرد إزاحة مبارك، أي في استفتاء مارس 2011 حين دافع الإسلاميون بشكل وقائي عن المادة الثانية للدستور التي لم تكن موضع نقاش أصلًا.

العداء الحذر من «جمهورية الآخرين» عند كلا الطرفين، شكل صيغة المعركة التي سيخوضها كل منهما طوال عامي الثورة، وهو خلاف ظل على «الدستور» كمحدد لشكل الجمهورية القادم، بداية من مارس، ومرورًا بمعارك «الدستور أولًا»، ثم «المبادئ فوق الدستورية»، و«وثيقة السلمي»، ثم تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور، والإعلان الدستوري لمرسي الذي كان من أهدافه تحصين اللجنة من الحل، ثم الاستفتاء على الدستور الذي كان قد انسحبت منه جل التيارات غير الإسلامية، ولم يتبق إلا الإخوان والجيش ليخرج الدستور أخيرًا برفض أكثر من 35% من الشعب له، بل وكان رفض الدستور مسيطرًا في العاصمة، وفي محافظتي الغربية والمنوفية، ما يعني أن هذه النسبة من الناس تعترض على «الإطار المحدد لقواعد السياسة في الدولة».

وبالنسبة إلى هؤلاء «الخاسرين»، فقد أصبحوا منفيين من النظام السياسي، وليس غريبًا إذًا أن يحاولوا تدمير هذا الإطار، أشعلوا الإعلام والشارع على الإخوان، وبلغ الضجر الشعبي من فائدة الانتخابات في تخفيف الاحتقان السياسي درجة أن أصبحت فكرة وجدوى الاحتكام للصندوق محل حوار مجتمعي مفتوح وصريح، وأصبحت المسألة مسألة وقت حتى تقرر هذه التيارات الاحتماء بالدولة كأخ أكبر من أجل أن تزيح لهم الإخوان.

بالنسبة إلى الإخوان كانت السيطرة الكاملة على عملية كتابة الدستور بالأهمية الكافية، التي غامروا من أجلها بالاصطدام بالجميع، وبالنسبة إليهم، كان تمرير الدستور، ثم إيهام القوى الأخرى بإمكانية تعديله لاحقًا، مناورة سياسية مبهرة في ذكائها، يزيد عليها مناورة أخرى لتأجيل الانتخابات البرلمانية، وإزاحة مهمة البرلمان لمجلس الشورى الذي انتخبه أقل من 10% ممن يحق لهم التصويت، ما جعل أي نقاش سياسي، من دون تمثيل للمعارضة بأي شكل في المؤسسات المنتخبة، ينتهي إلى مناوشات مباشرة في الشوارع.

هذه المناوشات خسر فيها الإسلاميون مهابتهم التاريخهم، وأصبحوا الخصم المثالي لإسقاطه، الخصم المتعجرف جدًّا الذي يهدد الجميع بسحقهم، وفي الوقت نفسه ضعيف جدًّا، ومكشوف، ويمكن هزيمته بسهولة.

في تحالف 30 يونيو، كان المهزوم الأساسي هو آخر ما تبقى من التواطؤ القديم، أي الاحتكام للانتخابات بشكل دوري لتقرير من يستلم السلطة، إذ اكتشف بعضهم أنه من دون صيغة متفق عليها للحكم، وهو ما يمثله التواطؤ القديم، ثم الدستور كفكرة، يصبح الاحتكام للانتخابات مجرد تسليم رقاب المهزومين للمنتصر، ولو بفارق واحد في المئة، وبالمقابل اكتشف الإسلاميون «المُزاحون» أن الانتخابات ليست في ذاتها ضمانة لقدرتهم على تغيير الأمور بشكل جذري، وبعضهم أصلًا كان قد تسامح مع الديمقراطية بصفتها بديلًا أقل كلفة من الخروج الصريح على الدولة.

اعتبر الإسلاميون أن فوزهم بفارق 1% يعطيهم الحق في إلغاء الآخر تمامًا، ثم اندهشوا من كيف يقاوم هذا الآخر محاولة إلغائه.

برحيلها، تركت يناير أسئلة كبرى تنتظر إجابتها من أي مشروع جديد، أسئلة عن معنى تيار الإسلام السياسي الذي رغم محاولته الطويلة جدًّا للترويج لامتلاكه نموذجًا متكاملًا عن «الدولة والشريعة»، فإنه عندما يواجه أسئلة تأسيسية للدولة يكتشف أنه لا يمتلك أي تصور عن أي شيء، سوى الدعاية الفجة عن ضرورة تحكيم الشريعة التي لا يمتلك تصورًا عنها، فيضطر حينها إلى الاقتراب مع التيارات الأكثر تشددًا لتملأ فراغه الخطابي: الشريعة هي الحدود الجنائية وممارسة الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجد نفسه بعد كل الحديث المستعار عن الحرية يطالب بـ«حرية أقل جدًّا».

التراجيدي أن هذا التيار، إن لم ينضم إلى السلفيين في تصورهم المتشدد، وينفذ مراجعات لفكرته عن الشريعة ليعتبرها منطلقات ومقاصد أخلاقية أكثر من كونها أحكامًا تفصيلية، ويرى أن دورًا أقل للدولة في ضبط المجتمع يحقق «معنى الحرية» أكثر، حين يفعل ذلك يكف عن كونه إسلاميًّا أصلًا، فيجد من يصرخ فيه ويكفره هو بدوره.

هذا التكشف لحدود «التجديد» و»الحداثة» ومدى هشاشة «الإسلام السياسي المعتدل» وفراغه من المعنى لصالح قطبين آخرين على أطرافه، أي إما السلفية الجهادية أو الليبرالية المحافظة، جعل أحد أطراف المعادلة القديمة للتواطؤ بين الإسلاميين والعلمانيين، القائمة على افتراض اختلاف جذري بين الإخوان والجماعات الإسلامية، تنهار تمامًا.

أيضًا، تركت يناير أسئلة عن حدود قدرة المدنيين على إدارة تفاوض بينهم، يفضي إلى اتفاق على صيغة للدولة من داخلها، يمكن للانتخابات أن تكون ذات معنى، أي حقيقية وتُسلم السلطة فعلًا لمن ينتصر فيها من جهة، وضمن إطار لا يشعر فيه الخاسر أنه يحتاج إلى إلغاء العملية من أجل الاحتفاظ بوجوده من جهة أخرى. هذا الجزء الأخير الذي يستهين به الإسلاميون ليعتبروا أن فوزهم بفارق واحد في المئة يعطيهم الحق في إلغاء الآخر تمامًا، ثم الاندهاش مدعي البراءة من كيف يقوم هذا الآخر بمقاومة محاولة إلغائه!

وإذا كانت تجربة يناير نتيجتها فشل المدنيين في إدارة هذا التفاوض، ورغبة كلا الطرفين في الاستعانة بالأجهزة الأمنية كحكم أحيانًا بين الأطراف، وكأداة لقمع الآخرين في أحيان أخرى، فذلك يخلق سؤال: ما دامت هذه الجهات هي الحكم والأداة، وهي المطالِبة إما بقمع المعارضة أو بسحق الإخوان، فلماذا لا تحتفظ بالحكم لنفسها، لتنفذ رؤيتها هي؟

وما دام وجود هذه الأجهزة أو فعاليتها المادية في الحكم هو الضمانة ضد احتراب أهلي بين تيارين شبه متكافئين وغير قادرين على سحق أحدهما الآخر، وإذًا يكون احتكامهما لمناوشات الشوارع مشروع حرب أهلية صريحة، فلماذا لا تُعتَبَر هي الأجدر بالحكم فعلًا؟

وباسم أي جمهورية متخيلة يعارض الإسلاميون هذه السلطة؟ وهل سيرضى العلمانيون بالاحتكام للانتخابات مرة أخرى مهما كانت نتائجها؟ أم يريدون انتخابات، لكن في ظل إزاحة الإخوان من السياسة أيضًا؟ وكيف، إذًا، سيستمرون في إزاحتهم دون الأجهزة التي تحكم فعلًا الآن؟

يصادر الحنين كمشروع سياسي أي أسئلة جدية، لصالح إجابة سهلة وبسيطة تليق بعصر مبارك، ولكن لأنها لا تليق بالعصر الحالي، فهي لا تقال بشكل صريح، لا يجرؤ أحد على أن يقول مثلًا، بأريحية العصر المباركي، أن حل الديكتاتوريات هو أن ينزل الشعب إلى الشوارع ليمسك هو بالسلطة، فالجميع، حتى ولو لم يعلن ذلك، يعلم أن المشكلة هي أن مشهد التنوع في يناير، المشهد الذي احتُفي به في ما سُمي «روح الميدان»، أصبح مستحيلًا، ولم تعد هناك إمكانية حقيقية لجمع طيف واسع من الناس مطمئنين لبعضهم ليكون الادعاء بكونهم هم «الشعب الذي يريد» قابلًا للتصديق ولمحاصرة النظام أخلاقيًّا.

كان التحدث اليقيني باسم «الشعب» مبنيًّا أصلًا على مشهد التنوع، الآن أصبح لكل طيف سياسي شعبه الخاص «الذي يريد» ليس فقط ما لا يريده الآخرون، ولكنه يريد أيضًا الانتقام منهم. أصبحت كل التيارات متشككة تجاه الآخرين، وهي تعلم الآن أن شكها ليس مجرد فوبيا غير مبررة، بل لأنها علمت بالتجربة أن الآخر، وفي حال انفتاح مجال العمل السياسي أمامه، سيحاول أن يقمعها بكل ما يقدر من قوة قبل أن تقمعه هي.

صحيحٌ طبعًا أن الخلاف حول الدستور ربما لم يشغل طوال عامي الثورة إلا طبقة رقيقة من سياسيي الطبقة الوسطى بمختلف اتجاهاتهم، وأن آخرين ربما يمتلكون «ذاكرة أخرى» عن تفتت الثورة، تكون فيها التيارات الأخرى «خانت» الثورة بينما صمدوا وحدهم، ولكن هذا الاختلاف داخل هذه الطبقة الرقيقة ثم الانفصال والعداوة، أنهى قدرة هذه الطبقات على الادعاء بأن «الشعب يريد» شيئًا ما وهم يمثلونه، وأصبح بوسع طرف ثالث أن يدّعي، مستعينًا بجموع غفيرة من جمهور يناير نفسه، أن «الشعب يريد» إنهاء هذه الفوضى.

بتعبير آخر، اندهاش «جمهور الثورة» من تغير العوالم السريع والتراجيدي الذي مر به، من الانتصار وحتى الهزيمة، ينسى متعمدًا أنه هو نفسه، أي الجمهور المندهش، صنع كل طرف فيه ميدانه الخاص، غير المتنوع هذه المرة، ونفذ فيه انتفاضته الخاصة على يناير، أي الانتفاض على العالم الذي خلّفته يناير واعتبره هذا الجمهور في لحظة ما هو ما ينبغي تغييره أصلًا.

ينسى كذلك أن انكسار عالم مندفع وحماسي مثل عالم الثورة لم يكن ممكنًا إلا من الداخل، ولم يكن ممكنًا إلا لو واجه أسئلة تأسيسية شديدة الصعوبة ولم يستطع إجابتها، لأن أي تحدٍّ أقل من ذلك كان سيُدهس تحت أقدام الثورة المندفعة مثل تحديات كثيرة أخرى.

السياسة العارية

مبارك وجورج بوش الابن - الصورة: Eric Draper

يصاحب الحنين إلى يناير حنين آخر إلى عصر مبارك، إلى الهدوء والرتابة والمسرحيات الديمقراطية التي تبدو، في نظر الحنين، أهدأ وذات قواعد معلومة، وهي لذلك أقل خطورة من مثيلاتها اليوم. هذا بالضبط ما يجعل الحنين إلى يناير يثير الغضب لحظة تحوله إلى خطاب سياسي، إنها ليست فقط عالمًا وانتهى، بل أيضًا كانت ثورة على عالم انتهى قبلها، وأصبح، من فرط بُعده، جميلًا في أعين الثائرين أنفسهم.

الثورة كحدث تعري الممارسات السلطوية، تجعلها أكثر صراحة، تنتفض على التواطؤات العامة لتقسيم الأدوار السلطوية بين الأمن والشعب، يصبح الشعب طرفًا أمنيًّا وسلطويًّا هو الآخر، ولا ترضى الثورة بأقل من انتصار صريح وانهزام واضح وغير مراوِغ لأعدائها دون أي خداع.

بهذا المعنى، بمعنى زوال الحاجة إلى الخداع، وبعد تنحي مبارك، طوّرت التيارات السياسية المختلفة تدريجيًّا خطابات أكثر صراحة وعدائية تجاه مخالفيها، وأكثر طموحًا في أهدافها، وفي ابتغاء تحقيق المثال الكامل، وعدم القدرة على تقديم أي تنازلات، وكل التنازلات المتبادلة التي قُدِّمت في عصر الحاجة إلى «شكل التوحد»، تم التراجع عنها بشكل يعيق مجرد الاتفاق على قواعد جديدة للعبة. ومع التحرر من «هم التوحد»، والانهمام بهاجس تأسيس المثال الجديد للدولة، انكشفت الأفكار الأكثر جوهرية لكل طرف أمام آخره.

هكذا أصبح الإسلاميون عاجزين عن مخاطبة أي أحد لا ينتمي إليهم بشكل كامل، وأصبحوا طرفًا مكتفيًا بذاته دون أي رتوش ليبرالية، ولو من أجل الوجاهة والمراوغة، وهكذا أصبحوا يهددون بشكل واضح كل من يخالفهم، ويتعالون على أي حوار مع «الخاسرين». وبنفس الوضوح قرر الآخرون الاستعانة بالجيش عليهم، ورفض الانتخابات كحكم مطلق بين الأطراف، ما دام أنه لا اتفاق على القواعد، وهكذا أصبح الجيش هو الحاكم، حاكمًا بعدما انكشف الجميع أمام الجميع، وانكشف الجيش لهم أيضًا.

الحنين إلى عصر مبارك هو حنين إلى القواعد المكتوبة، إلى المعارضة التي لا تدفع الثمن بشكل فادح، إلى حرص النظام على فعل الأشياء، الانتخابات مثلًا.

عرت الثورة وهزيمتها السياسة الجميع، إذ أصبحوا يعرفون ما يدور بخلد الآخرين، كل الأشياء معلنة، كل المرواغات الخطابية التي أوجدت «مشهد الميدان» انتهت لصالح مناوشات مباشرة في الشارع بين الأطراف، الإخوان أظهروا أنهم في المراحل الحاسمة يصطفون مع السلفيين وليس اي أحد آخر، والعلمانيون أظهروا للإسلاميين أن الديمقراطية، بالنسبة إليهم، ليست مجرد احتكام خالٍ من القواعد للانتخابات،  وهذا الاحتكام الخالي من القواعد للانتخابات كان أصلًا سبب قبول الإسلاميين للديمقراطية أكثر من أي سبب آخر.

ما تبقى من أنظمة سلطوية، لا أحد يتحدث فيها عن الديمقراطية والحاجة إليها من قِبل النظام، وأكثر المقربين من النظام إصلاحيةً يتكلمون بوضوح عن الحاجة إلى المسرحية الديمقراطية لنعرضها على العالم.

ربما كان الحنين إلى عصر مبارك هو حنين إلى القواعد المكتوبة، إلى المعارضة التي لا تدفع الثمن بشكل فادح، وإلى حرص النظام على فعل الأشياء، الانتخابات مثلًا، بشكل يبدو فيه كأنه يحاول خداع العالم، وإلى العالم الذي بدوره يمثل بحماسة أنه يريد التأكد من أن كل شيء على ما يرام، ثم يمثل أنه انخدع فعلًا.

هذه المشاهد، رغم مسرحيتها، كانت تخلق بالفعل مساحة محسوبة لحركة المعارضة، وانتهاء عهد «الخداع المشرف» يعني أنه إما أن تَحكم، أو تعلم أن المعارضة تصبح عملية شديدة الحساسية والخطورة، لا مجال فيها للمثالية المطمئنة إلى كونها محمية بدرجة ما من «العالم»، العالم الآن هو نفسه «عالم مضاد»، لا أحد محميًّا، ولا مجال لأن يهزم المعارضون أنفسهم بوضع أفق طموح لحركتهم، ثم يحاسبون أنفسهم حين يقفزون من كل هذا العلو، فتنكسر أجسادهم على وقع الارتطام بالعالم المضاد.

«كل ما هو صلب يذوب في الهواء»

ميدان التحرير

«الميدان موجود»، لكن أين الاتفاق القديم الذي يصدق كل طرف فيه الآخر دون أن يتحسس مسدسه؟

لا يعني كل ذلك أن «العالم المضاد» قد أصبح حتميًّا ونهائيًّا، فغالبًا ما تبدو العوالم المنتصرة في زهوها كنهاية للتاريخ، تنجح في قتل أشباح العوالم القديمة، وتقف بواقعيتها أمام عين العقل، فتحجب خياله، ليبدو المستقبل كامتداد ممل للحاضر.

هكذا، مثلًا، كانت مقولة «الميدان موجود» تعبيرًا عن إحساس بأبدية الميدان وقدرته على التأثير، فأين يمكن أين يذهب الميدان؟ هذا الإحساس الأبدي بالثورة أخذ وقتًا طويلًا، حتى بعد انهيار عالمه المنتصر، ليتحول من مقولة تكاد تكون تقريرية ويقينية في أملها، إلى مقولة تستدعي السخرية المتعالية على الأمل الواهم القديم.

«الميدان موجود» بالفعل، لكن أين الاتفاق القديم الذي يصدق كل طرف فيه الآخر دون أن يتحسس مسدسه؟ وأين الخيال البريء لرؤية أن الأمور كلها يمكن حلها عن طريق انتخابات نزيهة لا أكثر؟ وأين الثقة بأن الاندفاع نحو الديمقراطية سيجد عالمًا آمنًا يحمي هذه الاندفاعة لأنها جزء منه؟ وأين الرهان الجريء على أن «السلطة» لا يمكنها أن تضرب الشعب كله؟ أين الثقة أصلًا في القول بأريحية «الشعب يريد»، ولو كانت حتى ثقة مبنية على أوهام؟

مأساة انهيار عالم ما، أن العالم لا ينتهي فجأة، بل ينهزم، فيبدأ الخفوت تدريجيًّا، هذا الخفوت التدريجي هو ما يربك أنصاره حين يتوهمون أن وجوده الشبحي هذا دليل على أصالته وأبديته، فيخطئون الحسابات.

بالتأكيد، مثلًا ، كان النصف الثاني من 2013 بكل مآسيه وجنونه، فيه من عالم الثورة أكثر من 2014، التي كانت بدورها فيها من هذا العالم أكثر مما لحقها، وهكذا، زوال تدريجي لعالم كامل، ومع كل درجة خفوت لهذا العالم، كان المهزومون يعتبرون أن هذه الدرجة هي آخر ما يمكن الوصول إليه، أما بقية المساحات المتبقية من أثر الثورة فهي ابنة العالم والتاريخ الحديث، ولا يمكن أن تُنتزع هي الأخرى منهم تحت أي سبب، فتُنتزع.

انهيار عالم الثورة المنتصر، رغم كل الانخداع بأبديته، ربما يحمل شيئًا من العزاء لمن يشعر بأبدية العالم المنتصر الحالي، «العالم المضاد»، فربما تكون أبديته هو الآخر محض قصور في الرؤية، مجرد سحر مضاد لسحر بدا مخلدًا ولم يدم.

بدت الثورة في صعودها لا نهائية وأبدية، وها هي هزيمتها تبدو أمامنا كذلك هي الأخرى، وفي الحالتين كانت الثورة معقولة وهزيمتها معقولة، أي يمكن تبين أسبابهما. والمسألة ليست إن كان هذا العالم المضاد أبديًّا أم لا، فهذا محسوم. المسألة هي إن كانت هشاشته غير الظاهرة حال تكشُّفها، هل ستعني أي شيء في ظل أن الأسئلة التي طرحتها الثورة في أفولها لم تجد من يجيبها بعد؟

لو لم نرَ إجابات لهذه الأسئلة، سيعني هذا أنه حتى لو تبينت هشاشة هذا العالم، سيظل بوسعه الاستمرار لفترة أطول من صلاحيته «العقلانية»، أو ينتظر حتى تكون يناير، وما قبلها وما بعدها، ماضيًا بعيدًا، تنتهي كل تياراتها وأسئلتها وإجاباتها، وتصعد قوى جديدة بمشكلات وحلول جديدة، أو الأسوأ، أن يكرر التاريخ نفسه في ملهاة مضاعفة، فتنفتح مساحات، ثم تتلاشى، للأسباب نفسها التي انفتحت وتلاشت من أجلها في العالم الذي انتهى.

مواضيع مشابهة