يتساءل الإنسان بطبيعته عن المجهول وينشغل بالبحث عن إجابات، وفي أساس كل ثقافة تقريبًا، هناك أسطورة للخلق تفسر تشكل عجائب الأرض، وهذه الأساطير لها تأثير ملحوظ في الإطار المرجعي للناس، فهي تؤثر في الطريقة التي يفكرون بها في مختلف أنحاء العالم، وعلاقتهم بما يحيط بهم. وعلى الرغم من الحواجز الجغرافية التي تفصل بين الناس بعضهم بعضًا، طور عديد من الثقافات أساطير للخلق تشترك في العناصر الأساسية ذاتها.
يبدأ كثير من أساطير خلق العالم بفكرة الميلاد، ربما لأنها تمثل حياة جديدة، أو لأن كثيرًا منا يرى أن بداية الحياة تشبه إلى حد كبير مولد طفل صغير، ويرتبط هذا ارتباطًا وثيقًا بفكرة الأم والأب الموجودة في نظريات خلق العالم، لكن الأب والأم ليسا دائمًا من يخلقا الحياة على الأرض، ففي أحيان كثيرة، لا يبدأ الخلق إلا بعد تعاقب أجيال على ظهور الإله الأول.
الحقيقة أن هناك وجودًا أسمى في جميع الأساطير تقريبًا، وسواءٌ كان ذكرًا أو أنثى، فإنه الوحيد القادر على التحكم في سير الأمور، وأحيانًا يكون هذا الوجود إلهين، أحدهما غائب، والآخر حاضر.
الديانات الإبراهيمية
تتشارك اليهودية والمسيحية والإسلام في رواية واحدة للخلق. ففي سِفر التكوين مثلًا، يقول الله «ليكن نور»، ثم يخلق الشمس والقمر والأرض والسماء وجميع الكائنات الحية في ستة أيام، ويأمر الجميع أن «أثمروا واكثروا واملؤوا الأرض».
في رواية أخرى، نرى كيف خلق الله النبي آدم، أول مخلوق بشري، من غبار الأرض، ثم خلق رفيقة أنثى من ضلعه ليأنس بها، وأسماها حواء، الاسم الذي يعني «أم الأحياء جميعًا». عاش آدم وحواء سعيدين في جنة عدن، إلى أن وسوست لهما حية كانت تعيش في شجرة الفاكهة المحرمة ذات يوم بتناول التفاح. وبما أن الله حرم عليهما لمس هذه الفاكهة، عوقب بنو آدم بأن أصبحوا واعين لفكرة الخير والشر في هذا العالم، وأُمروا بالسعي في الأرض من هنا.
اقرأ أيضًا: ماذا لو قابلت الله؟
الديانات الإغريقية
وضع الشعراء اليونانيون الأوائل روايات مختلفة لبداية الخلق، أشهرها قصيدة «ثيوغوني» لـ«هيسيود». في القصيدة، يقول هيسيود إن أول الآلهة خُلق من الفوضى، بما في ذلك غايا (الأم الأرض)، وخلقت غايا أورانوس، أي السماء، لتغطي نفسها، ثم خلقا معًا مجموعة غريبة من الآلهة والوحوش، منها «الهيكتانوركايرز» (وحوش ذات 50 رأسًا ومئة يد)، ومخلوقات «السايكلوب» (ذوو الأعين المستديرة)، الذين صنعوا لزيوس صواعقه لاحقًا، ثم جاءت الآلهة المعروفة باسم الجبابرة، وهم ستة أبناء وست بنات.
كان أورانوس يحتقر أطفاله الوحشيين فسجنهم في «تارتاروس» ببطن الأرض، فغضبت غايا وخلقت منجلًا هائلًا وأعطته لابنها الأصغر كرونوس ولقنته بعض التعليمات. وعندما حاول أورانوس مضاجعة غايا بعدها، أسرع كرونوس بمهاجمة والده وقطع خصيتيه، ووُلد مزيد من الوحوش من الدماء التي سالت من أورانوس، كان بينهم العمالقة والحاقدات.
ومن زَبَد البحر الذي انبثق من الخصيتين المقدستين لأورانوس، كانت الإلهة أفروديت، وبعد ذلك أصبح كرونوس أبًا للجيل القادم من الآلهة: زيوس وآلهة الأوليمب.
قد يهمك أيضًا: 6 اختلافات أساسية بين الدين والروحانيّة
الديانة المصرية القديمة
كان للمصريين القدماء العديد من أساطير الخلق التي تبدأ جميعها بالمياه الأزلية للإله «نون»، ثم جاء «أتوم» أول الآلهة، الذي يقال إنه خلق نفسه بإرادته وقوة أفكاره. ومن مياه نون انبثق جبل ليقف عليه أتوم، ومن هنا خلق أتوم «شو» إله الهواء، و«تنفوت» ربة الندى، ثم خلق شو وتفنوت «جب» إله الأرض، و«نوت» إلهة السماء.
وبينما كان نظام الكون يكتمل بمرور الوقت، تاه شو وتفنوت في الظلام، لذا أرسل أتوم عينه الإلهية لتبحث عنهما، وعندما وجدهما ذرف دموع الفرح، فنزلت دموعه على الأرض لتخلق البشر.
الديانة الهندوسية
تضم النظرية الهندوسية لبدء الخلق أساطير عدة، فيحكي أول نصوص «الريغ فيدا» عن وجود كائن ضخم يسمى «بوروشا»، له ألف رأس وعين وقدم. كان بوروشا يكتنف الأرض، ويمتد خارجها بما يعادل مسافة عشرة أصابع. وعندما ضحت الآلهة ببوروشا، أنتج جسده زبدة نقية انبثقت منها الطيور والحيوانات.
تحول بعض أجزاء جسم بوروشا إلى عناصر العالم، وبعضها الآخر إلى الآلهة «أغني» و«فايو» و«إندرا». خُلقت الطبقات الأربعة للمجتمع الهندوسي من جسده: الكهنة، والمحاربون، والجمهور العام، والخدم.
لاحقًا، اكتسب الثالوث المكون من براهما (الخالق)، وفيشنو (الحافظ)، وشيفا (المدمرة) مكانة بارزة. يولد براهما من زهرة لوتس نبتت من سُرَّة فيشنو في أثناء نومه، ويخلق الكون كي يستمر 4.32 مليار سنة، المدة التي تعادل يومًا واحدًا من أيام براهما، ثم يدمر شيفا الكون وتُعاد الدورة من جديد.
اقرأ أيضًا: لماذا لا نرضى بممارسة الآخرين شعائرهم في بلداننا؟
ديانة بلاد الرافدين (ما بين النهرين)
تروي ملحمة «الإينوما إليش» قصة الخلق البابلية، التي تبدأ بامتزاج «أبسو»، الذي يمثل المياه العذبة، بـ«تيامات» (تعامة)، التي وتمثل المحيطات، ليخلقا آلهة كبيرة وشديدة الصخب، منهم «أيا» وإخوته، فينزعج أبسو ويهمُّ بقتلهم، لكن تيامات ترفض وتحذره من نواياه، فيقتل أيا أباه ويصبح بعد ذلك كبير الآلهة.
يتزوج أيا من «دامكينا» وينجبا «مردوخ»، الذي يوهَب الريح كي يلعب بها، فيستعملها لصنع عواصف ترابية وزوابع، ما يعكر صفو تيامات والآلهة التي تسكن جسدها ويمنعها من النوم، لذا تقنع هذه الآلهة تيامات بالانتقام لزوجها أبسو، فيما يقنع مردوخ آلهة أخرى بالانضام إليه في معركته ضد تيامات، فيتغلب عليها ويقتلها، ثم يشطر جسدها إلى قسمين، يصنع السماء من أحدهما والأرض من الآخر، ويخلق الإنسان من دماء «كنغو»، الزوج الثاني لتيامات.
الديانة الزرادشتية
في البداية، حاربت قوى الخير والحقيقة قوى الشر والأكاذيب حتى أنهكتها، ثم خلقت قوى الخير العالم من بيضة كونية، لكن قوى الشر استيقظت وحاولت تدمير الخلق، ونجحت في ذلك إلى حد كبير، حتى هربت البذرة التي نشأ منها الإنسان وأصبحت أكثر نقاءً، ثم عادت إلى الأرض في هيئة نبتة لها سيقان تنمو من جانبيها، خالقةً أول رجل وامرأة، وفي الوقت نفسه، حُبست قوى الشر داخل كبسولة الخلق.
اقرأ أيضًا: هكذا وجد العلماء الله في مخ الإنسان
الديانات الصينية
من بين قصص الخلق المختلفة التي انتشرت في الصين، كان أكثرها لفتًا للنظر قصة «بان كو»، الذي خُلق من بيضة كونية، شكلت نصف قشرتها العلوية السماء من فوقه ونصفها السفلي الأرض، وكان طوله يزداد كل يوم لمدة 18 ألف سنة، فإذا به يدفع القشرتين تدريجيًّا بعيدًا عن بعضهما حتى وصل كلاهما إلى مكانه.
لكن بان كو، بعد أن بذل كل هذا الجهد، انهار إلى أجزاء صغيرة، لتصبح أطرافه جبالًا، ودمه أنهارًا، وأنفاسه رياحًا، وصوته رعدًا، وشكلت عيناه الشمس والقمر، فيما خُلق البشر من الطفيليات على جسده.
قد يهمك أيضًا: لماذا تحول البشر من عبادة الإلهة الأنثى إلى تذكير الإله؟
الديانة الإسكندنافية
في البدء كان العدم، ثم بدأ هذا الفراغ في الامتلاء بالماء تدريجيًّا، الذي يتجمد بدوره ثم يذوب جزئيًّا. ومن قطرات الماء المنصهر انبثق عملاق في هيئة إنسان يُدعى «يمير»، ومن إبطه وُلد عملاقان مثله، رجل وامرأة قادران على التكاثر بطرق أكثر تقليدية.
يبني أودين مكانًا لنفسه وللآلهة الأخرى ليسكنوا فيه، ويصله بالأرض بجسر من قوس قزح، ويرتب الأمور بصورة تسمح لليرقات (المتمثلين في هيئة أقزام) بالبقاء في جثة يمير تحت سطح الأرض. أما فوق الأرض، فينفث أودين وزملاؤه الحياة في جذعي شجرة، ويخلقون منها «آسك» و«إمبلا»، أول زوجين من البشر.