اسألوا التاريخ: لماذا تحول البشر من عبادة الإلهة الأنثى إلى تذكير الإله؟

تمثال لما يُعتقَد أنه الإلهة عشتار - الصورة: BabelStone

كاملة العَبرية
نشر في 2017/04/23

لم يخطر ببالي يومًا أن هناك صلة وثيقة تربط الأوضاع الاجتماعية والسياسية بعبادة إله معين، ولكن ذلك كان هو الحال فعلًا في بلاد ما بين النهرين قبل خمسة إلى ستة آلاف عام، إذ تراجعت مكانة آلهة إناث في دين الدولة وحل محلها هيمنة أكبر لآلهة ذكور.

لم تُستبعَد النساء من المجتمع فقط، بل انعكس ذلك على الحياة الدينية كذلك، ممَّا أسس لبداية النظام الأبوي.

نشأة النظام الأبوي

غيردا ليرنر تحكي عن التاريخ والنساء

خضوع المرأة للرجل لم يحدث في خطوة واحدة بل عن طريق سيرورة تاريخية امتدت لأكثر من 3500 سنة.

«غيردا ليرنر» مؤرخة وأستاذة في جامعة ويسكونسن–ماديسون، وأستاذة زائرة في جامعة ديوك بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي مؤلفة كتاب «نشأة النظام الأبوي»، ورئيس سابق لمنظمة المؤرخين الأمريكيين.

درَّست ليرنر أول منهج في العالم حول تاريخ النساء في الكلية الجديدة للبحث الاجتماعي عام 1963، كما وضعت أول برنامج دراسات عليا عن النساء في الولايات المتحدة الأمريكية.

يُعدُّ كتابها «نشأة النظام الأبوي» سابقة في مجال الدراسات النسوية، إذ تتبعت فيه أسباب خضوع المرأة للرجل من جانب تاريخي، عن طريق دراستها لمجتمعات بلاد ما بين النهرين، من حيث تشريعاتها وقوانينها المتعلقة بالمرأة ووضعها الاجتماعي، سواءً كانت حرة أو أَمَة، وتوصلت فيه إلى أن خضوع المرأة للرجل لم يحدث في خطوة واحدة بل عن طريق سيرورة تاريخية امتدت لأكثر من 3500 سنة.

باختصار، يثبت كتاب «نشأة النظام الأبوي» أن خضوع المرأة للرجل تاريخيًّا لا يعود إلى طبيعة تكوينها البيولوجي ولا النفسي كما يدَّعي كثيرون، بل له أسبابه  التي شرحتها وفصلتها غيردا ليرنر.

قد يهمك أيضًا: تاريخ الصراعات الداخلية للحركة النسوية

ما هو النظام الأبوي؟ في تعريفه الأوسع، هو تجلي ومأسسة الهيمنة الذكرية على النساء والأطفال في الأسرة، وتوسيع الهيمنة الذكرية على النساء في المجتمع بصورة عامة.

الاحتفاء بالآلهة الأنثى

أهل بابل يتقربون إلى الإلهة عشتار - من مسلسل «يوسف الصديق»

هناك العديد من الأدلة التي تشير إلى انتشار عبادة الآلهة الأم وتبجيلها.

تقول عالمة الآثار في جامعة كاليفورنيا «ماريا غيمبوتاس» إنه عُثر على 30 ألف تمثال صغير لأنثى من الرخام والطين والنحاس والذهب في ثلاثة آلاف موقع شرق أوروبا فقط، كما أن هناك العديد من التماثيل الأنثوية الصغيرة التي تُبرز الأثداء والسُّرات والفروج، وتكون عادةً في وضع القرفصاء المميز للولادة، عُثر عليها في كاتال هويوك (تركيا حاليًا) في الألف السابعة قبل الميلاد، وفي أماكن أخرى مثل وادي دون في روسيا، والعراق والأناضول.

كل هذه الأدلة الأثرية التي تحتفي بالجنسانية الأنثوية وتقدسها تشير إلى عبادة واسعة الانتشار في تلك المناطق، ويمكن معرفة الأهمية الدينية لهذه التماثيل عن طريق المادة الأسطورية والأدبية الخاصة بتلك الفترة الزمنية، مثل النص التالي:

«يا عشتار الكريمة، التي تحكم الكون،

يا عشتار العظيمة، التي تخلق البشرية،

التي تسير أمام القطيع، التي تحب الراعي..

تنصفين المحزون، تعدلين مع الذين يعانون.

بدونك لن ينفتح النهر،

النهر الذي يمنحنا الحياة لن يغلق،

من دونك لن تفتح القناة،

القناة التي يشرب منها المبعثرون،

لن تغلق..

عشتار، أيتها السيدة الرؤوف..

اسمعيني وارحميني».

بحسب غيردا، فإن هذه صلاة قدمها رجل وامرأة من بابل إلى «عشتار» (إلهة الحب والخصوبة في العراق القديمة)، يرجوان منها أن تشفيهما.

كان الناس يرجعون إلى الآلهة عند حدوث مصيبة أو مرض، وكذلك في القرارات التي تتخذها الدولة مثل خوض حرب أو ما شابه، فكانت الصلوات والقرابين تُقدَّم إلى الآلهة لترشد الناس إلى اتخاذ القرار الصائب.

نرى في هذه الصلوات مدى التعظيم الكبير للإلهة «عشتار»، إذ تذكر الصلاة صفاتها ومحاسنها وقوتها وعظمتها، وتُرجع إليها الفضل في الحياة، مع تأكيد ضرورة تقديم قرابين لها تتضمن صور الفرج (رمز خصوبتها) مصنوع من حجر لازوردي ثمين، فما الذي تغير وجعل مرتبة الآلهة الإناث تتراجع في مجتمعات الشرق القديم؟

الإله يتحول إلى ذكر

ما هي قصة الخلق البابلية؟

يجب أولًا أن ننوه إلى أن مرتبة الآلهة الإناث تراجعت في الدين الرسمي للدولة، بينما بقيت عبادتها مستمرة في الدين الشعبي في بلاد ما بين النهرين.

تفترض غيردا ليرنر أن دين بلاد ما بين النهرين كان خاضعًا للأوضاع الاجتماعية السائدة في تلك الفترة الزمنية من القرن الرابع قبل الميلاد فصاعدًا، وأن التجارب والشخصيات التاريخية ألقت بظلها على الدين، وتقول إنه بالإمكان تتبع عدة تغييرات في المعتقدات الدينية تزامنت مع حدوث تغييرات اجتماعية وسياسية معينة، منها تغيرات في مكانة المرأة في المجتمع.

فرضية ليرنر تقول إنه «بما أن تطور الزراعة تزامن مع نزعة عسكرية متزايدة، وأحدث تغيرات رئيسية في المعتقدات والرموز الدينية، فإن النموذج القابل للملاحظة هو خفض مرتبة الإلهة الأم وصعود وهيمنة شريكها/ابنها الذكر فيما بعد، ثم اندماجه مع إله العاصفة وتحولهما إلى إله خالق ذكر، يرأس مجمع الآلهة والإلهات. وأينما حصلت تغييرات كهذه، كانت قوة الخلق والخصب تُنقل من الإلهة إلى الإله».

لنضرب مثالًا هنا من أسطورة الخلق السومرية التي تنطلق كالتالي:

  1. في البدء كانت الإلهة «نمو» ولا أحد معها، وهي المياه الأولى التي انبثق منها كل شيء.
  2. أنجبت الإلهة «نمو» ولدًا وبنتًا: الأول «آن» إله السماء الذكر، والثانية «كي» إلهة الأرض الأنثى، وكانا ملتصقين مع بعضهما وغير منفصلين عن أمهما «نمو».
  3. تزوج «آن» من «كي» وأنجبا بكرهما «إنليل» إله الهواء، الذي كان بينهما في مساحة ضيقة لا تسمح له بالحركة.
  4. لم يطق «إنليل»، الإله الشاب النشيط، ذلك السجن، فأبعد أباه عن أمه باستخدام قوته الخارقة: رفع الأول فصار سماءً، وبسط الثانية فصارت أرضًا، ومضى يرتع بينهما.

نلاحظ هنا القوة التي حازها إله الهواء «إنليل» مقارنةً بالإلهة «نمو»، التي من المفترض أنها الإلهة الأم. «إنليل»، إله الهواء والعاصفة عند السومريين، أصبحت له قوة في مجمع الآلهة بعد أن نظَّم عملية الخلق مثلما يتضح في الأسطورة، لمَّا فصل السماء عن الأرض.

كيف أدت الزراعة والنزعة العسكرية إلى تغير المعتقدات الدينية؟

معركة إنكي وإنليل

استغرق خلق الإله الذكر ألف عام.

أدى التدجين وتربية الحيوانات إلى فهم أكبر للتناسل ومعرفة دور الذكر في العملية، وأصبحت بعد ذلك عملية الخلق مشتركة بين الإلهة الأنثى والإله الذكر، مع هيمنة أكبر للآلهة الذكور، بعد أن كانت قبل ذلك مقتصرة على الإلهة الأنثى باعتبارها مانحة الحياة الوحيدة.

مع اكتشاف الزراعة ظهر مفهوم المِلكية الخاصة، وتوسع المفهوم فيما بعد لتظهر الدول، ورافق نشأتها ظهور نزعة عسكرية متمثلة في الرغبة في الهيمنة على الأراضي الأخرى، والسيطرة على أكبر قدر من المناطق وإخضاعها.

هذه التغيرات التاريخية في المِلكية والقيادة العسكرية أسهمت في خلق رمز إله ذكر، ففي الحروب كان للرجال دور أكبر، فالرجل هو المحارب وهو المدافع عن المدينة ومعبدها وآلهتها، وهو صاحب القوة الذي سيهزم أعداء المدينة، بعكس المرأة التي لم يكن لها دور واضح في الحروب، ممَّا جعلها أقل شأنًا من الرجال.

مهَّد ذلك لهيمنة الرجل على المرأة وإخضاعه لها، كما انعكس على وضع الآلهة الإناث، فتراجعت مكانتها وصعدت مكانة الآلهة الذكور، وجعل رمز القوة في المُتخيَّل الديني ممثَّلًا عن طريق إله ذكر قوي.

بحسب ليرنر، استغرق تطور خلق هذا الإله الذكر ألف عام، ورافق ظهور الدول القوية صعود وهيمنة الآلهة الذكور، فصعود الإله «إنليل» يمكن أن يكون بسبب الصراعات التي كانت تخوضها نيبور، مركز عبادته، مع إريدو التي كان إلهها يُدعي «إنكي»، وفي «الإينوما إيليش» (أسطورة الخلق البابلية)، يقود «مردوك» مجموعة من الآلهة ويقتل «تعامة» الإلهة الأم وزوجها.

«مردوك» كان إله بابل، وظهر للمرة الأولى في زمن «حمورابي» عندما كانت الدولة البابلية في أوج قوتها. تقول «الإينوما إيليش» على لسان «مردوك»: «أبي، أيها الإله الخالق، لتسعد وتبتهج، فقريبًا سوف تطأ عنق تعامة».

لا يدل هذا سوى على الدور الذي لعبته الدولة والسياسة في زيادة هيمنة الآلهة الذكور. وانعكس تراجُع دور المرأة في مجتمعات الشرق القديم بدوره على الدين وعلى مكانة الإلهة الأم، التي أزيح عنها دورها كمحاربة، وهي صفة كانت تتمتع بها «عشتار»، وشُدِّد على صفاتها الأمومية والإنجابية فقط.

اقرأ أيضًا: 7 أسئلة تشرح أثر التحولات الثقافية في المجتمع

استمرت عبادة الآلهة الإناث في الدين الشعبي لأنها ارتبطت بالحماية خلال الحمل والوضع، لكن الإلهة لم تعد أبدًا إلى مكانها على رأس مجمع الآلهة أو في الدين الرسمي للدولة.

مواضيع مشابهة