هذا الموضوع ضمن هاجس «كيف تشكِّلنا الحرب؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
لطالما استحوذت على ذاكرتنا العربية صور ملحمية عن أجدادنا الذين قاوموا الاستعمار ببسالة، وتضحياتهم الجسيمة في سبيل الدفاع عن الحق، الحق الإلهي الديني والحق الجغرافي الوطني. صور كانت دائمًا مقرونة بصور أخرى ترتسم كانعكاسات لذواتنا التاريخية، تمثل هذا المستعمر كامل القوة، رجالًا شقرًا مسلحين بالأعاجيب العلمية الفتاكة، وحضارتهم الإباحية المتناقضة مع قِيَمِنا الأصيلة.
يحوي تصور كهذا جانبًا حقيقيًّا، بينما هناك جانب مهمش آخر يُنسى دومًا، وتأتينا الصدمة ساخرة من فم الكوميدي الجزائري محمد فلاق، وهو يحكي عن الدهشة الأولى التي صاحبت اجتياح قريته في عمق منطقة القبائل الجزائرية: «الفرنسيون سود البشرة. نعم، ويصومون رمضان كذلك»، في إشارة إلى جحافل المجندين الأفارقة في القوات الفرنسية.
كانت أوروبا تعيش خلال النصف الأول من القرن العشرين تخبطات عدة وانقسامات كبيرة، جعلتها تغرق في ويلات حروب متتالية، مستحدِثةً واحدة من أزمات نموذجها الحداثي القاسمة، لترسم (في الواقع) لوحة سابقة للسيريالية، يظهر فيها المستعمِر مستعمَرًا كذلك، أو محتلًّا ترزح بلاده تحت نَير اقتتال أهلي وانقسام دامٍ.
أمام هذا الواقع، لم يكن العرب في معزل عن التطاحن القائم بين الغزاة، بل أتت الحرب تجر أذيالها إلى أن استقرت تحت أقدامهم، وأُقحِمُوا عنوة في بوتقتها.
حفاةً عراة، أُميين لا يتقنون حتى لغة التواصل، وجد رجال شمال إفريقيا أنفسهم غارقين في خنادق موحلة، جنبًا إلى جنب مع من انتهكوا حرمات «دار الإسلام»، وفي بيئة متجمدة رطبة تختلف تمامًا عن مناخ أوطانهم الدافئ، أصبحوا هدفًا مباشرًا لرصاص يتهاطل فوق رؤوسهم، وعدو يجهلون حتى سبب عدائه لهم، ومصادفة شاءت موازين الحرب أن تكون الغلبة فيها لمن عزز العرب قوته في جبهات القتال، وبذلك عادوا مشاركين فِعليِّين في نصر اختُطِفَ من بين أيديهم، ولم ينالوا منه أدنى رد اعتبار يوازي تضحياتهم.
الآن، تتعالى أصوات اليمين المتطرف الأوروبي مجسدةً خطاب المركزية العرقية في حُلته الراديكالية، ضد ما تراه «أزمة الهجرة»، أزمة هي في الحقيقة نتاج تاريخي لسياسة أوروبا تجاه جيرانها الجنوبيين، ومهاجرين هم أحفاد من حملوا السلاح بالأمس لمساعدة تلك الدول في حروبها.
لذلك يبدو مُهِمًّا تسليط الضوء على رجال تلك المرحلة التاريخية، تعريفًا بهم، بغض النظر عن جهلهم الأيديولوجي بالصفوف التي حملوا السلاح معها، وبيقين مسبَق كافر بالأيديولوجية التي تستثني وجودهم الثقافي والعرقي من الانتماء للواقع الأوروبي.
مغاربة في خدمة «فرانكو»
عاشت إسبانيا في العقد الرابع من القرن العشرين إحدى أكثر فترات تاريخها حلكة ودموية، أو ما بات يُعرَف بـ«الحرب الأهلية الإسبانية»، وهو اقتتال أهلي دارت رحاه بين الجبهة اليسارية الجمهورية الإسبانية بشتى ألوانها، والتيار اليميني المحافظ مدعومًا بجنرالات الجيش.
اقرأ أيضًا: الحرب الأهلية الإسبانية: يوتوبيا الأناركية التي وُجدت في برشلونة
اندلعت تلك المواجهات الدامية من صيف 1936 إلى 1939، بعد أن أعلن جنرال كاثوليكي متطرف يُسمى «فرانثيسكو فرانكو» انقلابًا عسكريًّا على الجمهورية الإسبانية الفتية آنذاك، وعقب اغتيال آخر حلم تحرري في إسبانيا.
لم يكن المغرب بعيدًا عن تطاحن القوى السياسية والعسكرية في جارته الشمالية، بل كان له موقع مهم داخل هذا المعمعان حتى قبل اندلاعه، وهنا تحيلنا المؤرخة الإسبانية «ماريا روسا دي مادارياغا»، إلى أن المستعمرات في المغرب كانت آخر الآمال الإسبانية بعد أن خسرت أراضيها في آسيا وأمريكا نهاية القرن التاسع عشر، وبهذا كان الشمال المغربي وجهة مغرية لرجالات الجيش الإسباني الطامحين في تسلق سلم العسكرية وتعليق النياشين.
غير أن هذا التيار في الجندية كان يقابله تيار آخر رافض لهذه السياسة، مطالبًا بمزيد من الاحتراز في طموحات الاستعمار بسبب الخسائر الناتجة عن الاصطدام بـ«المقاومة الريفية»، التي كانت تعيش أوج انتصاراتها بقيادة الأمير سيدي محمد بن عبد الكريم الخطابي، موجهةً إلى الإسبان ضربات قاسية، كان أهمها هزيمة «أنوال» التي هزت أركان الجيش والدولة في ذلك الوقت.
مَثَّل المجند المغربي حبل الخلاص بالنسبة إلى الطرف الانقلابي في الحرب الأهلية الإسبانية.
لم يكن الشعب المغربي في معزل عن المشاركة في العمليات العسكرية لجيش المستعمِر، إذ تصف لنا دي مادارياغا، في كتابها «مغاربة في خدمة فرانكو»، أن آلافًا من المجندين المغاربة شاركوا في عمليات الجيش الإسباني ضد المقاومة الريفية، وتعزو ذلك إلى حالة الفقر والمجاعة التي كان يعيشها الشعب المغربي آنذاك.
وعن طريق دراسة إحصائية، تربط المؤرخة ذروة الإقبال على التجنيد الطوعي بفترات القحط التي كان يعيشها البلد، بينما يتناقص هذا التوافد في السنوات الماطرة.
إبان اندلاع الحرب الأهلية، استعمل فرانكو نفس الأساليب، جمع ما يزيد عن 80 ألف مغربي على جبهات القتال في الضفة الأخرى من المتوسط، مستغلًّا بذلك نفس وسائل الترغيب والإغراء بالمال، مضيفًا إلى ذلك لعبًا بارعًا على وتر الدين الذي كان ناجعًا لحشد الضمير العام للمشاركة في القتال باعتباره قتالًا مقدسًا، إذ ركز الخطاب الفرنكاوي على ترسيخ أواصر الأخوة المتخيَّلة بين المغربي المسلم والإسباني المسيحي في مواجهة الشيوعي الملحد، ما جعل المغاربة يدافعون عن المسيحية في مواجهة اليسار.
مَثَّل المجند المغربي حبل الخلاص بالنسبة إلى الطرف الانقلابي في الحرب الأهلية، ما برَّر استجلابه لهم. وبإسناد لوجيستي من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، عَبَر آلاف الجنود المغاربة البحر الأبيض المتوسط إلى جبهات القتال في منطقة أستورياس وبرشلونة، مخلِّفين جرحًا عميقًا تتحدث عنه إحدى شهادات «دي مادارياغا» قائلة:
«كانوا (فيلق الجنود المغاربة) يتصدرون قمع المتمردين، يتصرفون بكل وحشية، كانت بنادقهم تُفرغ في كل من يواجههم، وخناجرهم تمزق الأحشاء دون اعتبار لأحد».
جراح شكلت صورة «المورو» الهمجي في مخيال الإسبان، وتمثل نفس اللفظة في الدارج المغربي أيضًا أفظع قدح وشتيمة يمكن توجيهها إلى الشخص. صورة المورو المتوحش كانت مترسخة حتى في الجانب الذي استقدمهم إلى المعركة ووظفهم لتحقيق مكاسبه.
وهنا تحيلنا سيرة فرانكو إلى أن خطة الجنرال كانت تعتمد على إقحام متوحشين متدربين ومعتادين على التدخل بكل ضراوة ضد ثوار المغرب، الأمر الذي سيعمل بدوره على إثناء ثوار إسبانيا عن الانتفاضة مستقبلًا.
ويجسد الكاتب الإسباني «دييغو هيدالغو» بوضوح موقف الجانب الفرانكاوي في هذه القضية، مشيرًا إلى أنه في نظر النظام حينها كانت حياة رجل من المورو (المغاربة) لها أيضًا احترامها، إلا أنهم إذا سقطوا في ساحة الحرب يعد ذلك حادثًا مهنيًّا، ولكن إن حدث الأمر نفسه مع جندي إسباني، رغم أنه يؤدي واجبًا مقدسًا نحو وطنه، ستبقى أمٌّ إسبانية تذرف الدموع الساخنة، ولن تجد الدولة أي سبيل لمواساتها.
هكذا وجد المجندون المغاربة أنفسهم «حطب حرب»، لم يكن لهم مصلحة غير الوعود الكاذبة التي تلقوها من لسان الحاشدين بأنهم سيعودون إلى أرضهم بأكياس من ذهب، مشحونين بأفكار ودوافع أخرى لا علاقة لها بالصراع بين اليمين واليسار في إسبانيا. إذ شغلوا فيها أدوارًا حربية كثيرة، ودُفِعَ بهم في الجبهات الأكثر اشتعالًا كالجبهة الكاتالونية، مستغلين هالة الوحشية وقدرة الفتك التي وُصِفُوا بها في أثناء ذلك النزاع، بل وتكليف خيرتهم بالحماية الشخصية لفرانكو نفسه.
بعد أن حطت الحرب الأهلية أوزارها، وعادت الدكتاتورية الفرنكاوية أمرًا واقعًا في إسبانيا، محصنةً بشرعية الانتصار العسكري، عاد المغاربة إلى قراهم بمعاشات لا تتعدى خمسة دولارات شهرية، وآلاف القبور مجهولة الاسم، ومئات الأُسَر التي فقدت رجالها، ودون اعتراف رسمي بجميل دفعوا ثمنه دمًا ونارًا.
العرب الذين حرروا فرنسا
في عام 2010، نشرت جريدة «لوموند» الفرنسية مقالًا بعنوان «منسيو الجمهورية»، تعيد قصته صياغة حكاية من ضحوا في سبيل فرنسا، أو بالأحرى من تنكرت لهم فرنسا بعد أن ضحوا من أجلها بدمائهم.
لم تكن فرنسا حديثة عهد بتجنيد شعوب مستعمراتها، فمنذ وصولها الجزائر في 1830، انتدبت مقاتلين من القبائل للمشاركة في حربها ضد البروسيين.
تضعنا كاتبة المقال على خط سير محمد أوعشي، هذا الرجل التسعيني المتوجه إلى باريس للمطالبة بحقه في معاش مساوٍ لما يتحصَّل عليه متقاعدو الجيش الفرنسيين، تاركًا وراءه قريته في المغرب، مكابدًا معاناة السفر بالحافلة، وما يمكن أن تحمله الطريق لرجل في سنه.
حارب أوعشي في صفوف الجيش الفرنسي لمدة 15 سنة، منذ أن انضم إليه في 1941 وعمره لا يتعدى الحادية والعشرين. قاتل على الخطوط الأولى لجيش الحلفاء خلال أكثر فترات الحرب العالمية اشتعالًا، وقاوم بكل عزم وبسالة الموت الذي كان يتربص به في كل خطوة رفقة إخوانه في السلاح من جنود المستعمرات. يسرد الويلات التي عاشها على الجبهة الإيطالية، يذكر شتاءات الألب المتجمدة، ومسالك روما الموحلة بالمطر والدم، بعد أن كان أحد أعضاء الكتيبة التي أسقطت آخر معاقل الفاشية في ذلك الوقت. بعد هذه الانتصارات سيرحل إلى المغرب، وبعدها إلى مستعمرة الهند الصينية.
«لماذا همَّشوني وأنا الذي حاربت من أجل فرنسا؟». يحتج محمد، ويضيف: «كان هناك عرب وأمازيغ كثيرون، من تونس والمغرب والجزائر، مقسمون حسب البلدان التي قَدِموا منها، وكنا دائمًا نوضع على الخطوط الأمامية في مقابل العدو».
لم تكن حالة محمد أوعشي الوحيدة التي تحيلنا إلى الحقيقة القائلة بأن جنود المستعمرات، والعرب جزء كبير منهم، كانوا بالنسبة إلى القيادة الفرنسية مجرد بيادق لا أهمية لأرواحهم إذا سقطوا فداء لقطع الشطرنج بيضاء البشرة، أو بالتعبير الفرنسي الصريح «du chair à canon» (لحم لرصاص المدافع).
يُعبِّر الكوميدي الفرنسي المثير للجدل «ديودوني مبالا مبالا» عن هذه القضية ساخرًا: «السود يهاجموننا، هل سيأكلوننا؟»، مجسدًا دهشة الألمان عندما وجدوا أنفسهم في مواجهة جحافل من الأفارقة.
لم تكن فرنسا حديثة عهد بتجنيد شعوب مستعمراتها، فمنذ أول وطأة قدم لها في الجزائر سنة 1830، انتدبت مقاتلين من القبائل للمشاركة في حربها ضد البروسيين عام 1870، وسيستمر هذا النشاط بعد توسيعها رقعة المستعمرات، ومع انفجار التوتر الأوروبي حربًا عالمية أولى، إذ بلغ حينها مجموع المجندين العرب داخل الجيش الفرنسي 110 آلاف مجند.
اقرأ أيضًا: جماجم ولغة: ما تبقى من الاحتلال الفرنسي للجزائر
ينقل لنا المؤرخ السويسري «كريستيان كولر»، في مقاله «Colonial Military Participation in Europe» الظروف التي طبعت تجنيد العرب خلال الحرب العالمية الأولى، على ضوء مقطع أدبي من رواية «Le Feu» (النار) للفرنسي «هنري باربوس»، يقول: «كانوا (جنود المستعمرات) مرغمين وخائفين بعض الشيء. بالطبع سيتوجهون إلى الخطوط الأمامية، ذلك هو مكانهم المفترَض، ووجودهم هناك يعني أننا سنهاجِم، وهذا دورهم بالضبط: الهجوم».
هكذا كان يلقَى بالجنود العرب كحطب لنار الحرب، بهدف أداء أقبح الوظائف خدمةً للسيد الأبيض، وحفاظًا على سلامته. هذا التعامل لم يكن عرضيًّا، بل أساس العقلية التي كانت تطبع تعامل فرنسا مع شعوب مستعمراتها، وذلك ما عبر عنه وزير الدفاع الفرنسي «جورج كليمنصو» آنذاك، في خطابه للجمعية العامة الفرنسية بتاريخ 20 فبراير 1918، قائلًا: «نحن نمنح السود الحضارة، ويجب أن يدفعو الثمن مقابل هذا الجميل. إنني أفضِّل أن يُقتل عشرة أفارقة على أن نفقد رجلًا فرنسيًّا».
كانت الضجة السائدة في أوروبا حينها عن مدى تساوي ذلك الرهط المتوحش مع الإنسان الأبيض الكريم، ضجة كان يمكن لها أن تُفهَم في إطار الدعاية الحربية لو كانت مقتصرة على الجانب المعادي لفرنسا، الذي تفشى فيه بالفعل ذلك الخطاب العنصري، من ملصقات البروباغاندا التي وسمتهم بـ«الرعب الأسود على ضفاف الراين»، إلى لسان مثقفين مثل «ماكس فيبر» الذي وصف الوضع حينها بأنه «جيش من الزنوج والبرابرة على حدود ألمانيا».
غير أن الغريب في الأمر هو وجود هذه النظرة الاستعلائية حتى عند الفرنسيين أنفسهم، وينقل كريستيان كولر شواهد من الصحافة الفرنسية الصادرة في زمن الحرب، التي أطلقت على كتائب المستعمرات اسم «الشياطين السود»، وخطَّت عددًا من المقالات تتهمهم فيها بالهمجية والإجرام، راسمةً لهم صورة كاريكاتيرية أقرب إلى الحيوان الجنسي الفتاك منها إلى الحليف في الحرب.
الحق أن جنود المستعمرات لم يكونوا حلفاء فرنسا ولا محاربين عن ثالوثها الوطني الزائف: «الحرية، والإخاء، والمساواة». بل كانوا في فعلهم ذاك أقرب إلى الارتزاق القهري، مرغمين بقوة الفقر على خوض معارك ليس لهم فيها من مجدٍ ذاتي، ولا وعي بأسبابها ولا بنتائجها التاريخية، ولم تكن تلك المعرفة تهمهم في شيء، وحتى تعلم اللغة الفرنسية لم يكن يمثل أمرًا ذا منفعة.
بينما يبقى محمد أوعشي، وغيره كثيرون في أقطار شمال إفريقيا، يعانون التهميش، مهما تعدد محاولات رد الاعتبار الرمزية إليهم، ومهما توالت الكتابات والمقالات، أو حتى الأفلام، لتصوير مأساتهم، راضخين لقدرهم الذي لا يختلف عن قدر القايد بن شريف، الفارس الجزائري الذي حارب في صفوف الخيالة الفرنسية إبان الحرب العالمية الأولى، وأهدى إلى الجزائر أول رواية فرانكفونية بقلمه، ثم مات بعدها منسيًّا بفعل المجاعة ووباء التيفوس.
أولاد الفيتنام
في جبهة أخرى، هذه المرة نحو الشرق الأقصى، حُمِل العرب من شمال إفريقيا إلى مستعمرة الهند الصينية الفرنسية، ليجدوا أنفسهم مرة ثانية يبحرون في أدغال من الدماء، ويرضخون لإرادة السيد الأبيض الذي يوجههم لمصلحته.
اندلعت حرب الهند الصينية (فيتنام ولاوس وكمبوديا الآن) عام 1945 بين القوات الاستعمارية الفرنسية، وحركات التحرر الوطنية في تلك البلدان مدعومةً بالقوى الشيوعية السوفييتية والصينية آنذاك. حرب خلَّفت نحو نصف مليون قتيل وكثيرًا من الجرحى، وكبدت فرنسا خسارة تلك الأراضي إلى الأبد.
ولأن الأشجار لا تموت دائمًا إذا ما قُطِعَت جذوعها، فإن الحرب لا تخلِّف فقط الموت، بل قد تكون مخاض ولادة قصة تعيد الأمل مجددًا في الحياة مقابل الرصاص القاتل. وهذا بالضبط ما وقع لمجموعة من الجنود المغاربة الذين وجدوا أنفسهم تحت المعاملة الاحتقارية والعنصرية لقواد الحرب الفرنسيين، ودفعتهم حادثة نفي الملك محمد الخامس من المغرب، بسبب معارضته للسلطات الفرنسية، إلى ترك كتائب الجيش الذي قَدِمَ بهم إلى هذه الأرض، والانضمام إلى صفوف أهالي الهند الصينية.
لم يكن هاجس هذا الانقلاب غائبًا عن الأوروبيين، بينما بقيت الحاجة أكثر إلحاحًا في الدفع بشعوب المستعمرات إلى مطحنة الحروب الضارية. هكذا انطلق ما يزيد عن 125 مغربيًّا في رحلة ضياع أولى في أدغال شرق آسيا، ليجدوا أنفسهم في ضيافة شعبها التي تختلف كثيرًا عن ما عايشوه مع المستعمِر. ضيافة تحولت في ما بعد إلى توطين، بعدما ضاعت مراسلاتهم بين المكاتب الدبلوماسية، ولم تصل إلى أصحاب القرار في المغرب المستقِل حينها لتتحقق عودتهم إلى أرض الوطن.
في عام 1972، سترسل الدولة المغربية لجنة دبلوماسية بهدف حل القضية، لكنها ستجد نفسها أمام 500 مغربي، بعد أن تزوج معظم الجنود التائهين من فيتناميات، وأسسوا عائلات ونسلًا وافرًا صاروا «ولاد الفيتنام».
تحكي زينب أبو الفرج، في مقالها على موقع «يا بلادي» المغربي، أن أحد أعضاء اللجنة الدبلوماسية التي تكلفت بقضية «ولاد الفيتنام» روى كثيرًا عن تشبث تلك الشريحة بالمغرب، رغم أن معظمهم لم يرَ ذلك البلد قبلها، وكان الآباء يسألون أعضاء اللجنة: «لماذا لم تجلبوا لنا قطعة من تراب المغرب كي نشم ريح الوطن؟».
سيحدث ترحيل المغاربة إلى أرض الوطن، جالبين معهم زوجاتهم وأبناءهم، مؤسسين بذلك ذاكرة مشتركة بين شعبين فرقتهما المسافات وجمعهما ظلم المستعمِر، وعاطفة الإنسان التي لم تغب مهما حاولت ويلات الحرب طمسها.