الحرب الأهلية الإسبانية: يوتوبيا الأناركية التي وُجدت في برشلونة

القوات الجمهورية في الحرب الأهلية الإسبانية - الصورة: Getty/Photo 12

أمين حمزاوي
نشر في 2017/12/25

هذا الموضوع ضمن هاجس شهر ديسمبر «كيف تشكِّلنا الحرب؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.


في 18 يوليو عام 1936 قاد الجنرال فرانشيسكو فرانكو قائد «الجيش الإفريقي» في الأراضي المغربية الخاضعة للاستعمار الإسباني تمردًا بهدف الإطاحة بالجمهورية الإسبانية الوليدة لتوها، والتي قادتها حكومة «الجبهة الشعبية» المُكوَّنة من تحالف لليسار. فشلت محاولة الانقلاب بعد نجاح القوميين المحافظين «الفاشيين» وداعميهم في السيطرة على ثلث مساحة إسبانيا فقط مع فشلهم في السيطرة على أي مدينة مهمة كالعاصمة مدريد أو إقليمي كتالونيا والباسك.

لم يتمكن انقلاب فرانكو من الإطاحة بالحكومة والانفراد بالسلطة، لكنه واصل التمرد مُعلنًا بذلك بداية الحرب الأهلية الإسبانية التي انتهت عام 1939 بانتصار «الجبهة القومية» بقيادة فرانكو بدعم من الكنيسة الكاثوليكية واليمين الذي ضمته الجبهة بأطيافه: المَلكيين والإقطاعيين والقوميين الفاشيين (حزب الفلانخيس أو الكتائب)، إضافة إلى الكاثوليك المحافظين من حزب (سيدا)، وقطاعات من البرجوازية الليبرالية، وحظي بدعم خارجي وافر من ألمانيا النازية بقيادة هتلر وإيطاليا الفاشية بقيادة موسوليني.

منذ البداية أعلن قادة التمرد أن غايتهم هي القضاء على المؤامرة «البلشفية-اليهودية» ضد «أوروبا المسيحية»، كان الهدف بالطبع إعادة المَلكية والإقطاع الذي فُرِض بالفعل، إلى إسبانيا، ووسيلة ذلك كانت القضاء على الحركة العمالية التي يُفترض أن تكون المُقاوم حتى النهاية للتمرد الفاشي.

لم تحتمل نقابات العمال والحركة العمالية ككل واقع أن تكون إسبانيا فصلًا جديدًا في مسرحية صعود الفاشية في أوروبا دون أي مقاومة، كما حصل في ألمانيا وإيطاليا، فحَملت السلاح، وسرَّعت من إعلان حكومة الجبهة الشعبية المقاومة المسلحة ضد فرانكو، فيما سمحت حكومات أوروبية كبريطانيا وفرنسا لمواطنيها بالتطوع إلى جانب الجمهوريين في الحرب باعتبار أنها معركة الديمقراطية والحضارة ضد البربرية.

برشلونة.. لأجل شيء آخر غير المال يُحارب البعض

يشير جورج أورويل في روايته «الحنين إلى كتالونيا» إلى أنه حين وصل إلى برشلونة وقت الحرب كانت المدينة نموذجًا حيًّا للمساواة التي لم يُرِد لها أحد البقاء.

اندلعت الثورة في برشلونة فور وصول خبر تمرد فرانكو، نجح اتحاد النقابات التابعة للأناركيين أصحاب الفكر الأكثر تأثيرًا وانتشارًا في المدينة، إلى جانب نقابات الشيوعيين الموالين للاتحاد السوفييتي، واليساريين المنشقين عنه، في صد الهجوم الفاشي وتحرير المدينة والإقليم الكتالوني بأكمله، وإقامة سلطة ديمقراطية مباشرة لا مركزية منتخبة رغم الضعف الشديد في تسليحهم.

اشتركت المرأة، وهي الأكثر اضطهادًا في مجتمع زراعي متخلف، في صفوف المقاومة كمُقاتلة، ثم في المجالس الديمقراطية، وقد بدأت رواسب النظام الاجتماعي القديم في التفتت، كانت ثورة في أوجها، وهي الحقيقة التي اجتمع العالم على محاولة طمسها وتصوير المسألة برمتها على أنها مجرد اقتتال أهلي بلا معنى.

كانت الثورة قد خفتت قليلًا وقت وصول الروائي الإنجليزي والاشتراكي الشهير جورج أورويل بعد بضعة أشهر، تحديدًا في ديسمبر ليعمل كمُراسل حربي لنقل مجريات الحرب الأهلية، لكنه، تأثرًا بواقع المدينة، قرر الانضمام إلى أحد ميليشيات المقاومة اليسارية كأحد المتطوعين الدوليين في ميليشيا الـ«p.o.u.m»، وهم من الاشتراكيين المعارضين لستالين زعيم الاتحاد السوفييتي، ليشهد أورويل الواقع داخل بؤرة الحرب التي تعرض خلالها إلى إصابة بطلقة في عنقه كادت تودي بحياته، وأثرت في صوته حتى نهايتها.

يشير أورويل في روايته التي يعدها النقاد من أفضل ما كَتب، وهي (Homage to Catalonia)، تُرجمت إلى العربية بـ(الحنين إلى كتالونيا)، والتي كتبها بعد مغادرته إسبانيا بعام واحد، إلى أنه حين وصل إلى برشلونة كان العمال لا يزالون يديرون المصانع ووسائل النقل ويسيطرون على المبانى، ويوضح كيف كانت المدينة نموذجًا حيًّا للمساواة التي لم يُرد لها أحد، حتى بيروقراطية الاتحاد السوفييتي، البقاء.

ويصف الأوضاع، حيث البطالة شبه المعدومة، إضافة إلى اختفاء المُتسولين من الشوارع، واندثار الألقاب لتحل محلها كلمة «رفيق». وتحولت المحلات والورش إلى تعاونيات، تسببت الحرب كعادتها في نقص المؤن، ومع ذلك سادت حالة تفاؤل بالمستقبل.

«كان البشر يحاولون التصرف كبشر لا كتروس في الماكينة الرأسمالية، في دكاكين الحلاقين اللافتات الأناركية تعلن متباهية أن الحلاقين لم يعودوا عبيدًا، وفي الشوارع كانت الملصقات العريضة تناشد العاملات بالجنس أن يمتنعن».

مَثَّلت برشلونة النموذج العادل للحرب الإسبانية، الناس يسيطرون على حياتهم، فيما تصد الطبقة العاملة هجوم العنصرية الفاشية والرأسمالية التي تستدعيها وقت أزمات نظامها الذي يتحول فيه البشر إلى كائنات مُسالمة في الظاهر ومُتحاربة على أرض الواقع بصورة يومية على كل شيء، عالم الجشع والنفاق والمال الذي يُحرِّك عواطف البشر وأقلام الثقافة والصحف، لكن الأكيد أنه من أجل برشلونة تلك حارب أورويل ومئات الآلاف من الإسبان ومن المتطوعين الأجانب.

قد يهمك أيضًا: المتعة المرعبة: كيف تُغسل الأدمغة؟

«الحرب شر.. لكن كثيرًا ما تكون الشر الأقل»

مجموعة من المسلحين خلال الحرب الإسبانية - الصورة: Imperial War Museums

من خلال تجربته لا يُنكر أورويل حقيقة الحرب كمأساة غير عادلة، حقيقة تأكد منها بعد التحاقه بالجبهة، صحيح أنه لم تحدث بجبهة «الأراغون» أو «التيرول» التي التحق بها معارك كبيرة كجبهة مدريد مركز الحكومة، تلك المدينة التي سقط الآلاف دفاعًا عنها تحت حصار قوات فرانكو الذي استمر أكثر من عامين، لكن منذ لحظة وجوده على الجبهة يكتشف أورويل جانبًا مهمًا من الحرب لا يُدركه عادة الصحفيون البعيدون آلاف الأميال عنها، والذين لا يجيدون غير تمجيد الحرب، «في الحرب الثابتة ثلاثة أشياء يتوق إليها الجنود جميعًا: المعركة، ومزيد من السجائر، والإجازة أسبوعًا».

على الجبهة تتوارى قليلًا الظروف السياسية المحيطة بالمعركة، هذا لا يعني أن ما يحارب من أجله الجندي يَندثر فجأة، وبخاصة أن جنود الميليشيات لم يكونوا جنودًا بالمفهوم البرجوازي المُعتاد للكلمة، فلقد تأسست الميليشيات العمالية على أساس من المساواة في المعاملة والرواتب وإلغاء الرتب العسكرية، واتخاذ القرار بصورة ديمقراطية، وقد صَدَّت وحدها الهجوم الفاشي لأول شهرين على الأقل من الحرب. لكن يظل البشر على بعض ما هم عليه، يملُّون الانتظار، يحتاجون إلى الطعام والدفء، وتصدر عنهم الروائح الكريهة، وهي حقيقة لا ينتبه إليها كثيرون في نظرتهم تجاه الحرب.

أحد المظاهر غير العادلة الأخرى للحرب هي أن حليفك، أو من يدَّعي كونه كذلك، قد يتسبب عن عمد في خسارتك المعركة. فقد عمل الاتحاد السوفييتي، مُمول السلاح الرئيسي للحكومة الجمهورية، على القضاء على نظام المساواة في الأجور، وانعدام الرتب العسكرية داخل الميليشيات العمالية والمِلكية العَامة التي حققتها في مناطق واسعة من إسبانيا، بينما سعت سياسة الاتحاد للقضاء على أي طموح ديمقراطي اجتماعي للحرب لصالح بيروقراطية الاتحاد السوفييتي مُتحالفًة في ذلك مع الليبراليين ويمين الحكومة.

في العام الثاني للحرب طارد البوليس الخاضع لإشراف الستالينين في أرجاء إسبانيا المخالفين من اليسار من رفقاء الأمس على الجبهة بتهمة «الفاشية»، وعملت قيادات ميليشيا الحزب الشيوعي الموالي لستالين بجهد لمنع وصول الأسلحة إلى أعضاء النقابات الماركسية المنشقة والأناركية.

لم تر الصحافة الديمقراطية الغربية الشر الكامن في مشروع هتلر سوي في وقت متأخر جدًّا، وبعضها رآه مُخلِّص ألمانيا من الخطر الأحمر.

قدمت «الديمقراطيات» الغربية دعمًا خجولًا، فتجرأ فرانكو على المُضي قدمًا في المعركة، ومن خلفه موسوليني وهتلر الذي تجرأ في ما بعد على غزو بولندا مُعلنًا الحرب على أوروبا في نفس العام 1939 الذي انتهت فيه حرب إسبانيا بانتصار مؤكد للفاشية.

من الممكن هنا التساؤل عن سيناريوهات أخرى أقل قسوة كانت ممكنة في حال تم تقديم الدعم العسكري الحقيقي للجمهورية ضد فرانكو، ومدى تأثير هزيمته إن وقعت على مجرى الأحداث في أوروبا والعالم.

السؤال بالتحديد: «ما الذي تعنيه هزيمة الفاشية في إسبانيا؟»، بصيغة مشابهة: «ما الذي تعنيه هزيمة هتلر في إسبانيا؟»، تعني بالضبط كبح المد الفاشي في أوروبا، وتقليص فرصة اندلاع حرب عالمية ثانية، فهي بمثابة إثارة للشك في قدرات نظامي هتلر وموسوليني ووعودهما، وبخاصة إذا كانت الهزيمة مُبكرة، ما قد يعني فرصًا أكبر في تضييق الخناق على النظامين.

بل وقد تذهب هزيمة الفاشية في إسبانيا إلى إحياء بعض المُعارضة الداخلية في إيطاليا وألمانيا التي سُحِقَت، وقد تُسبب عودتها تراجعًا لطغيانهم أو حتى إسقاطهم ضمن حرب محدودة داخل بلدانهم دون الحاجة لسقوط 50 مليون إنسان على مستوى أوروبا والعالم، مع توفر الدعم لتلك المعارضة من الـ«ديمقراطيات» الغربية الفرنسية والبريطانية مثلًا، لكن بالطبع لم يكن ذلك ممكنًا، وخصوصًا أن صحافة الديمقراطية الغربية لم تر الشر الكامن في مشروع هتلر إلا في وقت متأخر جدًّا، بعضها رآه مُخلِّص ألمانيا من الخطر الأحمر، في حين لم ير البعض الآخر في هتلر إلا الشبه بينه وبين شارلي شابلن.

أما على الجانب الآخر، فكان هناك ستالين الذي في المقام الأول لم يكن ليسمح بقيام ديمقراطية اشتراكية في إسبانيا قد تهدد سطوته على الحركة الشيوعية حول العالم، عن طريق اللجنة المركزية للحزب السوفييتي، وقد تحالف ستالين مع فرنسا الاستعمارية قبل الحرب الإسبانية بعام واحد لتطويق النفوذ النازي.

ويبدو أن ستالين قد رأى في الثورة الإسبانية تهديدًا للنفوذ الإسباني في المغرب، ما قد يزعج فرنسا باعتبارها مُستعمِرًا آخر مُجاورًا يخشى نزعة تَحرر قد تنطلق ضد الاستعمار الإسباني من المغرب لتُصيب المستعمرات الفرنسية في باقي إفريقيا، وبخاصة في الجزائر.

لكن ما حصل هو أن الحكومة الجمهورية في إسبانيا، وبطريقة غير مفهومة، لم تعلن استقلال المغرب، تَصرُّف استغربه أورويل، وبشكل عام يمكن وضعه، إما في خانة الخضوع للسياسة الستالينية، وإما في أفضل الأحوال ناجمًا عن غباء سياسي لأنه لو تحركت الجماهير الريفية والعاملة المغربية بقرار الاستقلال ضد فرانكو لانقلبت الأوضاع بصورة كبيرة ضده، وقد حصل أيضًا أن اشترك الآلاف من الجنود المغاربة تحت راية «الجيش الإفريقى» في الحرب ضد الحكومة الجمهورية تحت تأثير البروباغندا الفاشية التي روجت الحرب ضد الجمهوريين باعتبارها حربًا ضد «الملحدين الحُمر».

إذا كانت الحرب ضرورية، أو هكذا جعلها مأزق عجز الرأسمالية عن تسوية أزماتها التي تفرز من هم أمثال هتلر، فقد كان من الأفضل التخلي عن سيناريو يُقتَل فيه 50 مليون إنسان هكذا ببساطة في ظرف أربع سنوات، لصالح سيناريو آخر مُبكر يدعم المقاومة ضد الفاشية في عُقر دارها، ويمنع تلك الخسارة الفادحة في حرب شريرة لا معنى لها، الحرب العالمية الثانية، عن طريق حرب أخرى، نعم لكنها أقل شرًّا، هي الحرب الأهلية الإسبانية، يُدافع جانب مُنتمٍ إليها عن حق الجميع في الحياة ضد من يرون في الحياة حكرًا على حفنة ضئيلة من البشر.

أو ما الذي تعنيه حينها معاهدة يُوقعها مولوتوف وزير خارجية ستالين مع ألمانيا النازية بعد انتصار فرانكو بأربعة أشهر سوى ما يعنيه ذلك من أنك تتفق مع النازيين على السلام.

اقرأ أيضًا: كيف استقبلت الصحافة الأمريكية صعود هتلر وموسوليني إلى الحكم؟

لأن الحظ ليس للشجعان  

فرانشيسكو فرانكو - الصورة: Indalecio Ojanguren

في أثناء الحرب وما بعدها على امتداد فترة حكمه البوليسي من عام 1939 إلى عام 1975 اعتقل نظام فرانكو وعذَّب وقتل الآلاف من معارضيه، اُكتشف كثير منهم في مقابر جماعية، أقام فرانكو حكمًا ديكتاتوريًا لم تزل رواسبه مستقرة داخل إسبانيا إلى اليوم، حتى بعد بدء عملية الانتقال الديمقراطي التي تلت وفاته، يُقدر عدد الضحايا المسؤول فرانكو عن قتلهم خلال الحرب وما بعدها بمئة ألف إنسان، ويوجد في إسبانيا ما يزيد على 2000 مقبرة جماعية وضعها فرانكو.

بالطبع ارتكب الطرف الجمهوري فظائع خلال الحرب، لكنها لا تُقارن بالفظائع التي ارتكبها الطرف الفاشي، وهذا لا يُبرر بأي طريقة فظائع أي من الجانبين، والعادة أن طرفي الحرب ينكران الفظائع التي ارتكباها، ويُضخم كل طرف من فظائع عدوه، لكن دائمًا يظل في أي حرب طرف يُقارب الصواب، أو في أسوأ تقدير يمنع انتصاره كارثة أكبر مما تكون عليه في حال هزيمته.

لم يُبصر جورج أورويل في الذين رافقهم خلال الحرب الإسبانية غير أناس شجعان رغبوا في بناء عالم أفضل مبني على المساواة التي طبقوها بينهم فورًا دون ادعاءات كاذبة.

ويبدو جليًّا أن ما ارتكبه بعض الجمهوريين لم يتخذ شكل العقيدة، لكنه نبع من طبيعة الحرب نفسها، ومن تعدد الفرقاء السياسيين المختلفين جذريًّا داخل الجانب الجمهورى، والدليل على ذلك الاختلاف، ما تعرض له الماركسيون المعارضون لستالين والأناركيون من الحظر والسجن والإعدام، والملاحقة الأمنية من قيادات الحزب الشيوعي الإسباني بتهمة «الفاشية» بعد إعلان الحكومة، بعام من بدء الحرب، إلغاء الميليشيات وتأسيس جيش نظامي مراتبي هو «الجيش الشعبى»، وبعد أن بسط الحزب نفوذه على الحكومة، (هذا لا يعني أن المقاتلين في صفوف الميليشيات التابعة للحزب الشيوعي الذين سقطوا خلال سنوات الحرب لم يكونوا مخلصين في دفاعهم عن الجمهورية ضد الفاشية).

في المقابل، فإن الحديث عن الفظائع التي ارتكبتها قوات فرانكو وداعموه الدوليون من النازيين والفاشيين باعتبارها صدفة أو استثناء هو محض مزحة، إلا إذا استثنينا القصف الألماني-الإيطالي المشترك لقرية جورنيكا بإقليم الباسك، والذي أودى بحياة ما يزيد على ألف مدني بناءً على طلب من الجبهة القومية. أو إعدام الشاعر والمسرحي «جارثيا لوركا» الذي يُعد من أهم أدباء القرن العشرين، على الطريق بين بلدتين في غرناطة على أيدي الفاشيين بعد شهر تقريبًا من بدء انقلاب فرانكو.

لم يُبصر أورويل في الذين رافقهم خلال الحرب غير أناس شجعان رغبوا في بناء عالم أفضل مبني على المساواة التي طبقوها بينهم فورًا دون ادعاءات كاذبة، ولا يحتاج إنسان عبقريًة ما كي يبصر في الفلاح أو العامل الشجاع الذي صمد في الشارع وعلى الجبهة بسلاح مُهترئ من القرن الـ19 كي يُدافع عن عالم لأجل الجميع حليفه الطبيعي، بدلًا من أن يُبصر في عيني من يقمعه ويسرقه ويتسلط عليه قائدًا له.

اقرأ أيضًا: تستطيع أن تصنع السلام إذا اقتنعت أنك قد تكون الشرير

اندلعت الحرب الإسبانية ولم يُمكن تجنبها، انتهت بانتصار فرانكو وتُراثه، الذي يبدو أنه لم يزل على قيد الحياة إلى اليوم، لكن في تلك الحالة وإن مرت عقود، لا يمكن للمرء وصم كل الأطراف بالانحطاط والفساد في شطحة رومانسية بحجة أن الحرب كلها فاسدة، وهؤلاء الشبان الذين تركوا وراءهم مستقبلًا باهرًا ينتظرهم، ومنهم أصدقاء شخصيون لأورويل ذكرهم في روايته، مثل «جون ميك ناير» و«بوب سميلي» الذي مات داخل السجن من أجل الذهاب إلى إسبانيا والدفاع عن قيم الحرية والمساواة ضد بربرية الفاشية والرأسمالية، لم يكن أحد ليجبرهم على القدوم، إذًا لم يكن أحد ليجبرهم على ارتكاب الفظائع.

الحقيقة أن من يرتكب الفظائع هو المُجبَر صاحب الأفق المحدود، أو صاحب المصلحة الطبقية، أو الشخصية الضيقة، وهؤلاء امتلأت بهم جيوش فاشية فرانكو وهتلر وموسولينى، وحتى أتباع ستالين من القادة الحزبيين الشيوعيين داخل إسبانيا الذين أسهموا في قمع الثورة من الداخل وخسارة الحرب في النهاية، أما من ذهب بملء إرادته، فلم يكن تابعًا لأحد غير شعوره العميق بالإنسانية. ووصف أورويل الدقيق لرفاقه على الجبهة يُخبر عن أي من الطرفين كان على حق.

في اقتباس طويل بعض الشيء، لكن لا يمكن تجنب دقته وجماليته الأدبية أيضًا:

«هنا فوق الأراغون كان المرء بين عشرات الألوف من الناس الذين كانوا بالرغم من أنهم ليسوا جميعًا من الطبقة العاملة أصلًا، يعيشون على مستوى واحد، ويتعاملون على أساس المساواة. نظريًّا كانت المساواة كاملة، وحتى عند التطبيق لم تكن بعيدة عن هذا.

فيمكن بمعنى ما أن يصح قول المرء إنه كان يجرب حالة أوليَّة من الاشتراكية، وأعني بهذا أن المناخ العقلي السائد كان المناخ الاشتراكي. كثير من الدوافع المألوفة في الحياة (المتحضرة) العجرفة، التهالك على المال، الخوف من الرئيس.. إلخ، انعدمت ببساطة، واختفى الانقسام الطبقي المألوف في المجتمع إلى حد لا يمكن تخيله في جو المجتمع الإنجليزي الملوث بالمال، لم يكن هناك إلا نحن والفلاحون، وليس من أحد يسيطر على غيره بأنه سيد عليه.

طبعًا مثل هذه الأحوال لا يمكن أن تدوم. كانت ببساطة مرحلة مؤقتة ومحلية في لعبة كبرى مسرحها سطح الأرض كلها. لكنها ظلت مدة تكفي لتُحدث أثرًا دائمًا في كل من عاناها وخبرها. ومهما شتم المرء وتضايق في حينه، فإنه يتحقق بعد قليل بأنه كان يباشر شيئًا غريبًا قيمًا. وأنه كان في مجتمع الأمل سائد فيه أكثر من القنوط واللامبالاة. وحيث كلمة (الرفيق) تعني الرفقة، لا ما تعنيه في المجتمعات الأخرى من الخداع. لقد تنسم المرء نسيم المساواة».

مواضيع مشابهة