أطاح صوت الشعب الأردني بمشروع قانون ضريبة الدخل، ورحل هاني الملقي، وجاء عمر الرزاز ليتسلم رئاسة الحكومة الأردنية. أطفئت الميكروفونات التي كانت تهتف بإسقاط حكومة الملقي، وطُوِيَ العلم الأردني، ووُضِعَ في شنطة «دبة» السيارة الخلفية، وأُغلِقَت خدمة اللايف على فيسبوك، وتناول «الهتِّيف» (الشخص الذي يهتف خلال الاعتصامات) السكر الأبيض بعد أن بُحَّ صوته جراء الهتاف طوال ثمانية أيام متواصلة.
انتصر صوت الشعب الأردني، وحقق بعد سلسلة من الإضرابات والاعتصامات التي شهدتها الساحات الأردنية جزءًا لا بأس منه من مطالبه، وغادر المواطن تلك الساحات مثلوج الصدر منتظرًا غدًا أردنيًّا أفضل.
العمل السياسي ما بعد الحراك
يفكر الكثير من الأردنيين في الانخراط بالعمل السياسي، رغم أن صفوف الاحتجاجات لم تكتسب أي تنظيم سياسي.
رأى كثيرون أن الحراك الذي شهده الأردن مؤخرًا غلب عليه الطابع العفوي الشعبوي، لا سيما أن أغلبية المشاركين فيه لا يوجدون أسفل مظلات حزبية أو قيادية، بل خرج كثير منهم إلى الشارع لأول مرة بكثافة يقرعون الأجراس ليؤكدوا أن المطالبة بحياة كريمة ليست حِكرًا على الأحزاب، بل حق كل مواطن.
الأمر الذي يطرح التساؤل عن ما إذا كان المواطن الأردني المنتصر الذي شارك في الاحتجاجات سيتحمس أكثر وينخرط في العمل السياسي؟ وهو ما أجاب عنه المواطن قاسم عابورة الذي لم يتخلف عن الاحتجاجات. يقول عابورة لـ«منشور»: «بالتأكيد تجرتبي الأخيرة لن تجعلني فأرًا يبحث عن جحر يحميه. أنا من الشارع، وسأبقى مع الشارع، ولن أقبل بالانخراط في أي حزب سياسي أردني».
يضيف عابورة: «تربيتي علمتني أن الحياة إما أبيض وإما أسود، لكن السياسة دائمًا لونها رمادي، وتربيت على أنها ليست نظيفة، وأنا أرفض أن أتلوث. نعم خرجت إلى الشارع دفاعًا عن كل أردني جائع».
المواطِنة تمارا العالول تتفق مع عابورة، وتقول: «أنا لا أثق في الأحزاب الأردنية، وأرفض أن يُزَجَّ باسمي فيها لأنني أجد أن أنشطتها ترتكز على مصالحها وأجنداتها الشخصية، وليس مصلحة الوطن والمواطن».
«نعم شاركت في الاحتجاجات الأخيرة، وسأشارك مستقبلًا مع أي حراك مطلبي معيشي». تقول العالول، مضيفة: «ما ميَّز الحراك الأخير أنه شعبوي بامتياز، ثار في وجه الظلم، واستطاع أن يحقق مطالب المساكين».
في المقابل، ترجِّح الناشطة ميس عودة أن كثيرًا من الأردنيين الذين شاركوا في الاحتجاجات الأخيرة سيأتي في بالهم سيناريو احتمالية انخراطهم في العمل السياسي، رغم أن صفوف الاحتجاجات لم تكتسب أي تنظيم سياسي.
تؤكد عودة أن الحراك الأخير كان شعبيًّا في الغالب، لكن هذا لا يمنع أن يلفت الحراك انتباه بعضهم للدخول في عالم السياسة، ليس بالضرورة للانخراط في أحزاب، لكن على الأقل البحث عن إطار حراكي تنظيمي.
الخمسيني مصطفى مؤمن يقول: «آخر مرة خرجت فيها إلى الشارع مطالبًا بالعدالة والحق الإنساني في الحياة كانت في 1998، إبان الحرب الأمريكية على العراق. خرجت من حرقة قلبي على العراق». ويضيف: «هذا مؤشر على أنني حتى عندما شاركت في مسيرات 1998 خرجت لأجل العراق، وليس من أجل شأن يخص الأردن».
يبرر مصطفى ذلك بقوله: «أنا فاقد ثقتي في أحزابنا السياسية منذ عقود، لكن هذه المرة كانت مختلفة، فقد خرجت وشاركت في الاعتصامات الأخيرة لأن فتيات الأردن وشبابه غير المنخرطين في أي حزب هم الذين قادوها، ولا أخفيك أنني شعرت بأن الروح عادت إليَّ وأنا أردد هتافات شبابنا».
رائد وهبة، المهندس وعضو نقابة المهندسين، أبرز النقابات المهنية التي أطلقت شرارة إضراب الأردن، يقول: «لا شك في أن التحرك النقابي الذي دعا إلى إضراب الأردن كان تحركًا اجتماعيًّا اقتصاديًّا أكثر مما هو سياسي، ولأن الناس شعروا بأن الحراك الذي حدث حقق تغييرًا أسهم في إلغاء قانون وإسقاط الملقي وتعيين آخر له شعبية، فقد تحمسوا أكثر الى الاستمرار في طريق تحقيق التغيير».
بالرغم من ذلك الشعور الحماسي كما يضيف وهبة، فإنه يستبعد أن يتوجه كثير ممن شاركوا في الاعتصامات إلى الانخراط في العمل الحزبي أو السياسي بشكل عام، ذلك «لأننا لا نملك ثقافة حزبية»، كما يقول، مستشهدًا بتجربة حدثت معه قبل أعوام عندما «أخطات وتحمست كثيرًا، وأسهمت في تأسيس حزب، لكن سرعات ما تعرَّض للإحباط».
يختم وهبة بقوله: «للأسف نحن ليس لدينا أحزاب سياسية همها الحقيقي المصالح الوطنية، وأجد أن أهدافها شخصية جدًّا».
اقرأ أيضًا: إضراب الأردن من ضريبة الدخل وحتى إسقاط الحكومة
اكتئاب ما بعد الصدمة
بعيدًا عن العمل السياسي سادت حالة غريبة لمسها المتابع لمواقع التواصل الاجتماعي في الأردن، حالة صمت شبَّهه كثيرون باكتئاب ما بعد الإضراب أو متلازمة الإضراب، ذلك الشعور الذي اجتاح كثيرين ممن شاركوا في الاحتجاجات، والآن، وبعد تحقيق الانتصار يعيشون تجربة «ماذا نفعل الآن»، أو كما يقال: «وين كنا ووين صرنا».
هذا ما يؤكده المختص النفسي باسل الحمد، موضحًا أن هناك حالتين حدثتا بعد إضراب الأردن، أولهما أن من شاركوا في الإضراب دخلوا في مستوى عالٍ من الانفعال، إذ قلت ساعات نومهم، وارتفع منسوب القلق، وفجأة تلك الإثارة العالية تسببت في حالة من الانتكاسة، وبالتالي انخفاض مفاجئ في الطاقة.
أما الحالة الثانية، فتكمن في أن التجربة نفسها كانت صادمة، ولم تحدث بعد عملية معالجة لهذه الصدمة، إذ لم تدخل في النظام المعرفي، أي «لم نستوعب ما حدث». وينصح الحمد بإعداد ندوات وحلقات نقاش تتحدث عن ما بعد إضراب الأردن، وينوه إلى ضرورة الاستعجال بذلك.
«والله حاسة حالي زي الضايعة» تقول مها شديقات واصفة الحالة التي تمر بها بعد إضراب الأردن، ومتفقة مع الحمد في أن هناك حالة مُلِحَّة لعقد فاعليات لمناقشة ما بعد اضراب الأردن.
«نعم، عمري ما شاركت في عمل سياسي، لكن بفتخر اني شاركت بإضراب الأردن». تقول مها، مؤكدة أنها «تنفست الحرية» خلال مشاركتها، وهي تمر الآن بمرحلة أشبه بالاكتئاب، وتحاول البحث عن متنفَّس يحتويها، لكن بالطبع «ليس الأحزاب» كما تقول.
قد يهمك أيضًا: مشاهد من 7 أيام أسقط فيها الأردنيون الحكومة
نعم باتت الساحات الآن فارغة، وأصيب أردنيون باكتئاب ما بعد الإضراب، وبانتظار متنفَّس آخر يعبِّرون من خلاله عن مطالبهم، متنفس تشي المؤشرات بأنه لن يكون الأحزاب.