مستقبل الخصوصية: هل نخوض حربًا خاسرة؟

الصورة: Anonymous Content

آية علي
نشر في 2017/10/06

بعد إصدار شركة «آبل» هاتفها الجديد «iPhone X»، فإن تقنية التعرف إلى الوجه التي يتميز بها ستدخل بنا إلى عصر جديد من  الراحة، وكذلك مخاطر جديدة بسبب المراقبة الواسعة المعتمدة على معرفة الوجوه، والتي تستخدمها الشركات والحكومات.

تاريخ آبل القوي في ما يتعلق بالخصوصية يعني أنه من المرجح أن تنشر الشركة أداة التعرف إلى الوجه بحذر ومسؤولية، لكن هذا لا يشمل شركات الأطراف الثالثة التي تخطط لدمج هذه التقنية في تطبيقاتها. قد تسعى مثل هذه الشركات إلى جمع قواعد البيانات الخاصة بها من الوجوه، لكن أسوأ السيناريوهات التي قد تحدث هو استخدام قواعد البيانات لمعرفة المستهلكين في الإنترنت والشوارع من أجل أغراض دعائية.

لم تُفصح آبل بعد عن التفاصيل الكاملة لكيفية عمل هذه التقنية، رغم أن مصدرًا مُطَّلعًا على الأداة أكد أن هناك خطة لمنع صناع التطبيقات من انتهاك خصوصية المستخدم. لكن في الوقت ذاته، ومع عدم وجود قانون دولي موحد، فإن المستهلكين لن تكون بيدهم حيلة إذا بدأت الشركات بجمع صور وجوههم دون موافقة منهم.

لكن، هل يُلقي المستهلكون اهتمامًا لهذا الأمر حقًّا؟

الخصوصية مقابل الراحة

الصورة: Gage Skidmore

فكِّر في آخر مرة أعطيت فيها بياناتك الشخصية لشركة كبيرة. من المحتمل أن يكون هذا قد حدث خلال الساعات الماضية، خصوصًا إذا كنت قد تسوقت من موقع «أمازون» أو شاهدت فيلمًا أو حلقة من مسلسل على «نتفلكس». وإذا لم تستطع تذكُّر مكان وجودك بالتحديد خلال الساعات الماضية، يمكنك الاطلاع على الخط الزمني الموجود في خرائط غوغل لديك، الذي يخزن فترة سنة من المعلومات المتعلقة بالمسارات التي قطعتها، والأماكن التي ذهبت إليها.

هل أعطيت كل هذه البيانات عن قصد؟

نحن نريد التحكم في مدى خصوصية بياناتنا الشخصية وكيفية استخدامها، لكننا استسلمنا لعدم قدرتنا على التحكم في هذه الخصوصية.

يدَّعي المسوِّقون أنك عندما تعطي بياناتك الشخصية، فإنك تشارك في «مقايضة» منطقية، فأنت تقرر أن فوائد استخدام أدوات الإنترنت كالبحث والتوصيات والتسوق تفوق المخاوف المحتملة المتعلقة بالخصوصية. وقد وجدت دراسات بالفعل أن بعض العملاء بدأوا يرون الإعلانات الموجهة كشكل بديل من أشكال المقايضة، فيقبلون رؤية الإعلانات في مقابل منتجات مجانية أو مصممة حسب الطلب.

على أي حال، فكِّر في مدى اتفاقك أو عدم اتفاقك مع هاتين العبارتين:

  1. «أريد التحكم في ما يعرفه المسوِّقون عني على الإنترنت».
  2. «لقد تقبلت كوني لا أستطيع التحكم كثيرًا في ما يمكن للمسوِّقين معرفته عني عبر الإنترنت».

إذا كنت متفقًا مع كلا العبارتين، مثلما اتفق 58% من الأمريكيين في مسح أجرته جامعة بنسلفانيا عام 2015، فأنت جزء من جيل المستهلكين الذين يمرون بعملية التنازل. نحن نريد التحكم في بياناتنا الشخصية وكيفية استخدامها، لكننا استسلمنا تقريبًا.

اقرأ أيضًا: سلِّم لي على خصوصيتك: المواقع الإباحية هي التي تشاهدك

لماذا نهتم بالخصوصية على أي حال؟

الصورة: Garry Knight

الخصوصية مهمة لعدة أسباب، يرجع بعضها إلى العواقب الناتجة عن انعدامها، إذ يمكن أن يلحق الضرر بالناس إذا لم تكن هناك قيود على وصول العامة إلى البيانات الشخصية واستخدامهم لها.

هناك أسباب أخرى أساسية أكثر وتلمس جوهر الإنسان، إذ يتطلب تقدير الإنسان كغاية في حد ذاته وككائن مستقل وجو احترام لمساحته الشخصية. إن فقدان السيطرة على المعلومات الشخصية هو إلى حدٍّ ما فقدان للسيطرة على حياتا وحريتنا، وبالتالي فإن الخصوصية ضرورية لحماية حقوق جوهرية أخرى، حتى لو لم تكن هي في ذاتها حقًّا جوهريًّا.

هناك طرق عدة يمكن أن يتضرر بسببها المرء نتيجة كشف معلوماته الشخصية الحساسة، إذ هناك كثير من التفاصيل الحميمة لحياة كل واحد مننا في قوائم مثل السجلات الطبية والاختبارات النفسية وسجلات المحكمة والسجلات المالية، سواء كانت من البنوك أو مكاتب الائتمان أو مصلحة الضرائب، وسجلات الرعاية والمواقع التي زرتها على شبكة الإنترنت، ومجموعة متنوعة من المصادر الأخرى. ويمكن أن يترك كشف هذه المعلومات أشخاصًا كثيرين عرضةً لانتهاكات عديدة.

من المعلومات التي يجب الحفاظ على خصوصيتها: سجلات المحاكم، التي قد نتعرض بسببها إلى مضايقات.

نحن في حاجة إلى معلومات جيدة من أجل اتخاذ قرارات جيدة، وقد يبدو لنا أنه كلما زادت المعلومات كان ذلك أفضل، لكن يمكن أحيانًا إساءة استخدام هذه المعلومات، أو استخدامها لأغراض خبيثة.

من الأمثلة على ذلك: يوجد في مجتمعاتنا قدر كبير من سوء الفهم المتعلق بالأمراض العقلية، وبالأشخاص الذين يعانون منها، ولو حدث أن أصبح تاريخ المصاب بمرض عقلي مكشوفًا، قد يتعرض لمضايقات أو تجاهل من الجيران، ويمكن أن تسبب له هذه التصرفات والتعليقات ضيقًا وحرجًا شديدين. هذا التحامل والتمييز الواقع على المريض القادر على عيش حياة طبيعية قد يتسبب في حرمانه من السكن والعمل، وغير ذلك من الاحتياجات الأساسية.

بالمثل، فإن الشخص الذي صدر ضده أمر بالضبط أو الاعتقال، حتى إن ظهر كونه بريئًا ولم تدِنه المحكمة، قد يتعرض لمضايقات وتمييز. وأظهر عديد من الدراسات أن احتمالات توظيف أرباب العمل لشخص ذي سجل اعتقال، قليلة للغاية، حتى إن أُسقِطت التهم أو بُرِّئ تمامًا.

بالإضافة إلى ذلك، من تنكشف معلوماتهم الشخصية الحساسة سيكونون عرضةً للابتزاز ممَّن لديهم إمكانية الوصول إلى هذه المعلومات.

لذا، فإن حماية الخصوصية أمر ضروري للحماية من هذه الانتهاكات.

قد يهمك أيضًا: إدوارد سنودن: خصوصية الإنترنت التي حولت جاسوس أمريكا إلى لاجئ في روسيا

لماذا نتنازل عن خصوصيتنا رغم ذلك؟

أشخاص يبوحون بكلمات السر الخاصة بهم لبرنامج تلفزيوني

المعلومات الشخصية هي المادة الخام لاقتصاد المعرفة، وكما أشارت أستاذة الدراسات المعلوماتية لدى جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، «ليا ليفرو»، فإن «الحصول على مثل هذه المعلومات يحتل موقعًا مركزيًّا في الأعمال التجارية لشركات التكنولوجيا الأكثر نجاحًا (وبشكل متزايد في الصناعات التقليدية مثل بيع التجزئة والرعاية الصحية والترفيه ووسائل الإعلام والتمويل والتأمين)، وافتراضات الحكومات المتعلقة بعلاقة المواطنين بالدولة».

في تجربة عملية، تخلى بعض الناس عن بياناتهم الشخصية (صورة أو بصمات أصابع أو رقم الضمان الاجتماعي) في مقابل قطعة لذيذة من الكعك بالقرفة.

أجرت شركة «AT&T»، المتخصصة في الاتصالات، تجربة عن مقدار المال الذي سيدفعه الأمريكيون مقابل الخصوصية. فإذا كان المستهلكون في ولاية كنساس على استعداد لدفع 30 دولارًا إضافيًّا في الشهر للاشتراك في خدمة الإنترنت الخاصة بالشركة، فإنها ستعفيهم من الإعلانات الموجهة، لكن اتضح أن معظم الناس يختارون الخدمة الأرخص، التي تصاحبها إعلانات موجهة بناءً على بياناتهم.

علقت المتحدثة باسم الشركة قائلة إنه «منذ أن بدأنا تقديم هذه الخدمة قبل أكثر من عام، والغالبية العظمى من الناس تختار النموذج المدعوم بالإعلانات». بعبارة أخرى: معظم الناس مستعدون للتنازل عن خصوصيتهم في مقابل سعر أقل.

لا ينبغي أن يفاجئنا هذا الأمر، فهذه هي الكيفية التي تصرف بها البشر لأكثر من ثلاثة آلاف سنة. والدرس المستفاد من تاريخ الإنسانية هو أن الخصوصية لم تمثل أبدًا أولوية كبيرة للبشر، فلطالما اختار الناس المال أو الهيبة أو الراحة عند تعارض أي منها مع الرغبة في العزلة، ويبدو أن هذا لا يزال صحيحًا حتى يومنا هذا.

تمكنت فنانة الأداء «ريسا بونو» من جعل نصف الحضور تقريبًا في مهرجان بروكلين للفنون يقايضون بياناتهم الشخصية (صورة أو بصمات أصابع أو رقم الضمان الاجتماعي) في مقابل قطعة لذيذة من الكعك بالقرفة، حتى أن بعضهم كتب بفخر عن هذا على حسابه في تويتر.

وفي مثال آخر، أعطى بعض السياح الموجودين في شارع هوليوود كلمات السر الخاصة بهم عن طيب خاطر لبرنامج «جيمي كيمِّل لايف»، فقط من أجل ثانية من الشهرة التلفزيونية.

لكن في الاتجاه الآخر، قد يكون ثمن الخصوصية أكبر مما نستطيع تحمله. ومع تقدم التقنيات الصحية المتطورة، ربما يعني حجب المعلومات الحساسة الوفاة. من الأمثلة على ذلك أن الباحثين اكتشفوا أنه لو كان مرضى عقار فيوكس القاتل شاركوا معلوماتهم الصحية علنًا، لاستطاع الأطباء اكتشاف الآثار الجانبية في وقت مبكر بما يكفي لإنقاذ حياة 25 ألف شخص.

نتيجةً لذلك، باشر مؤسس جوجل «لاري بيج» مشروعًا يشجع مزيدًا من المستخدمين على مشاركة معلوماتهم الصحية الخاصة مع مجتمع البحث الأكاديمي. ومع أن بيدج قد أخبر الجمهور في مؤتمر «TED» عام 2013 بأن مثل هذه المعلومات قد تبقى سرية، فإن يشككون في هذا.

اقرأ أيضًا: الأمن السيبراني: حماية من الأخطار الرقمية أم انتهاك للخصوصية؟

إذا كنت ترغب مثلًا في معرفة ما إذا كنت ستصاب بنوبة قلبية، فإن عليك منح بياناتك الشخصية للأبحاث العامة، لأن الخصوصية ستكون حينها حكمًا بالموت المبكر. وقد بدأت شركات التأمين الصحي بالفعل تقديم خصومات للأشخاص الذين يرتدون أجهزة تعقب للصحة، ويسمحون للآخرين بتحليل تحركاتهم الشخصية. وسيختار كثير من مستهلكي الجيل القادم، إن لم يكن معظمهم، الدفع النقدي والحياة الأطول في مقابل نشر أكثر تفاصيلهم حميمية.

لا يمكن مشاركة هذه البيانات والحفاظ على الخصوصية في الوقت نفسه، إذ يُعَد تحديد الأشخاص في مجموعات بيانية مجهولة المصدر أمرًا في غاية السهولة، فهناك مثلًا عدد محدود من اليهود المصابين بآلام ظهر مزمنة، ويبلغ طولهم 1.74 متر ويعيشون في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية.

ما الذي يسعنا معرفته من المعلومات الصحية الأساسية كالسعرات الحرارية المحروقة على مدار اليوم؟ يمكننا تقريبًا معرفة كل شيء. فباستخدام عداد بسيط لحرق السعرات الحرارية يمكننا مثلًا أن نحدد ما إذا كان شخص ما يمارس الجنس أو يمارس التمارين الرياضية، وذلك لاختلاف معدل حرق السعرات الحرارية لكلا النشاطين اختلافًا واضحًا.

مستقبل الخصوصية: هل هي مسألة سلطة؟

الصورة: Integrated Change

تقدم غوغل وشركات أخرى صفقات غير منصفة، فتدعو الناس إلى التخلي عن خصوصياتهم للحصول على إعلانات، مع إعطائهم خدمات مجانية كالتصفح والبريد الإلكتروني.

تصبح بياناتنا الشخصية هائلة القوة إذًا عندما نجمعها معًا، فسجلات تحركاتنا تساعدنا على التخطيط العمراني، وتُمكِّن سجلاتنا المالية الشرطة من كشف عمليات غسيل الأموال ومنعها. كذلك، تساعد التغريدات والمنشورات التي نكتبها ونشاركها على مواقع التواصل الاجتماعي الباحثين على فهم الكيفية التي يعمل بها المجتمع. هناك كثير من الاستخدامات الإبداعية المثيرة للاهتمام للبيانات الشخصية، تلد معارف جديدة وتحسن من حيواتنا جميعًا.

تمثل بياناتنا أيضًا قيمة شخصية لنا كأفراد، فنحافظ على خصوصيتها أو نفصح عنها مثلما نشاء. وهنا تكمُن المشكلة، وهي استخدام البيانات في تقديم مصلحة جماعية على الحريات الفردية، الضغط الأساسي الذي تكافحه البشرية منذ الأزل.

تقدم لنا الحكومات مثلًا هذا الاتفاق: سوف نحميك من الجريمة والإرهاب إذا قدمت لنا جميع بياناتك الشخصية. لكن هذا ربما لا يعدو كونه خدعة لا تؤتي ثمارها، وتؤكد فكرة أمن الجماعة على حساب الأمن الفردي.

الصفقة التي تقدمها الشركات الكبيرة مثل غوغل تماثل تلك التي تقدمها الحكومات، إضافةً إلى كونها غير منصفة، فهي تدعو الناس إلى التخلي عن خصوصياتهم وجميع بياناتهم الشخصية في مقابل الحصول على إعلانات يرغبون يريدونها، مع إعطائهم شيئًا من الخدمات المجانية، كالتصفح والبريد الإلكتروني وغير ذلك من الخدمات.

تستطيع شركات مثل غوغل وفيسبوك عمل هذه الصفقة في حالة واحدة، هي تخلي ما يكفي من الأشخاص عن خصوصياتهم، فالجماعة لن تستفيد إلا برضاء عدد كافٍ من الأفراد.

يكشف استطلاع أجراه مركز «Pew» عن مستقبل الخصوصية أن الخبراء ينقسمون في رؤيتهم بشأن المستقبل، لكنهم يتفقون بشأن الحاضر، وهو أننا نعيش بالفعل تحت مراقبة دائمة تتزايد باستمار، لأننا نقدم بإرادتنا أجزاءً من معلوماتنا الشخصية عبر الإنترنت، وهي معلومات تُجمع ثم تُستخدم في سبيل كسب المال.

قد يعجبك أيضًا: تجربة عملية تفضح مدى هشاشتنا أمام قراصنة الإنترنت

إذا استمر الوضع في التطور بنفس الاتجاه، فربما يقرأ غريبٌ رسائلك الإلكترونية ذات يوم، أو يفتش فيها دون إذنك، أو يتفحص المواقع التي زرتها، أو حتى يكتشف أنك قرأت هذا الموضوع. قد يتجسس عليك متجر الملابس عبر كاميرا سرية، وقد يسترق أحدهم نظرة خاطفة إلى مشتريات بطاقة الائتمان الخاصة بك، وربما تضعك إحدى الجهات الأمنية تحت المراقبة بناءً على معلومات شخصية اشترها من طرف ثالث.

ليس بالضرورة أن يساعدنا مزيد من التشفير على تفادي هذا الواقع، وذلك لأن السرية تفضِّل الأقوياء دائمًا. فالأغنياء سيمتلكون الموارد التي تمكِّنهم من الاحتيال على كل الحواجز والحدود المثيرة للشفقة التي نضعها أنا وأنت، في الوقت الذي ستعمل فيه قوانين الخصوصية على حماية أولئك الذين في القمة.

لكن مع كل ذلك، ربما لا تكون الإجابة مزيدًا من الخصوصية، بل من الشفافية. ما نعنيه بالشفافية هو النوع الذي يسير في الاتجاهين. فإذا كنا نسير باستمرار نحو مستقبل ستصبح الخصوصية فيه أثرًا من الماضي، ربما باستطاعتنا الحد من الأضرار الواقعة، فلو استطاع أي مواطن عادي قراءة العائدات الضريبية للمواطن الملياردير، أو قراءة كشف حساب المواطن الذي يشغل منصبًا سياسيًّا، ولو لم تكن أي هيئة حكومية أو غرفة اجتماعات آمنة من الفضائح، لأصبحنا نمتلك شيئًا ثمينًا يعوضنا عن خسارة الخصوصية: قدر أكبر كثيرًا من الديمقراطية.

مواضيع مشابهة