إلى الإنسانية وما بعدها: عن المسارات التطورية المحتملة للبشر

الصورة: Adrian Cadiz

فادي حنا
نشر في 2018/09/18

تحفل أدبيات ما بعد الحداثة والخيال العلمي، لا سيما كتب «الكوميك» ومجلاتها وأفلام السينما، بقصص الأبطال الخارقين، أمثال «كابتن أمريكا» و«هَالك» وغيرهما من البشر المُعدَّلين وراثيًّا ليصبحوا خارقين ويمتلكوا ميزات غير مألوفة لا يتمتع بها الإنسان الطبيعي.

في الوقت نفسه، يُثار سؤال داخل الأوساط العلمية البيولوجية، خصوصًا المهتم منها بالتطور الدارويني، حول ما إذا كان جنسنا البشري معرضًا للتطور البيولوجي خلال الحقبة القادمة من تاريخ الإنسان. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ وإلى ماذا يمكن لجنسنا أن يتطور؟

وفي ظل جميع المؤثرات التي لا يمكن إغفالها من جانب التكنولوجيا الحديثة، والتي تؤثر حتمًا بشكل أو بآخر في ميكانيزمات التطور البيولوجية وأحواض الحمض النووي لجميع أشكال الحياة، هل يمكن القول إن ما سيؤول إليه جنسنا يحدث نتيجة الانتقاء الدارويني الطبيعي؟ أم إن الانتقاء فقد طبيعيته نتيجة التقنيات الحديثة المؤثرة في ميكانيزمات التطور البيولوجي؟

تهتم علوم الأحياء التطورية بتلك الأسئلة. لكن هناك نوعًا آخر من التطور لا يعتمد على مفهوم الانتقاء الطبيعي الدارويني، إذ تتدخل التقنيات الحديثة عن قصد لإحداث انتقاء وتطور اصطناعي، بواسطته عمل تعزيزات جذرية على الكائن الإنسان الفرد. هذا بالضبط ما يُعرف بـ«Transhumanism» (ما بعد الإنسانية)، بمعنى محاولة الاستعانة بالتكنولوجيا الحديثة لتجاوز الإنسان الحالي وحالته الراهنة في الوجود.

الفصل الأول: الإنسانية

جدارية «La creazione di Adamo» لميكيل أنجلو

نعلم أن عصر التنوير، عصر العقلانية، بدأ بطموح علمي ينتوي الكشف عن قوانين الكون بأكمله، وتوسيع نطاق المعرفة الإنسانية لتشمل كل شيء تقريبًا. ذلك بناءً على وجهة نظر مسبقة مفادها أن ذلك المخ الإنساني الذي يزن نحو كيلوغرامًا واحدًا على وجه التقريب، والموجود أعلى منتصف كتفيك، في استطاعته بلوغ الحقيقة وسبر أغوار الطبيعة والآليات التي يعمل وفقًا لها كل شيء دون مبالغة.

كان ذلك بالطبع وفقًا لمقولات إنسانية دعمها حضور الثورة الفرنسية على مسرح الأحداث في أوروبا، وما مهد لها وتلاها من أحداث في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، من فلاسفة العقد الاجتماعي وظهور مفهوم «الحق الطبيعي» الذي يولد به الإنسان الفرد، قطيعةً مع مفهوم «الحق المكتسب» الذي يحق للفرد أن يحصل عليه من السلطة، سواءً الدينية أو الزمنية، واللَّتين ترسخا خلال العصور الوسطى.

عقب الثورة على كل ما هو ديني، وإحلال كل ما هو دنيوي محله، ارتفعت شعارات الإنسانية، وأعلت الفلسفة من شأن كرامة الإنسان وحريته، ومحاولة تضمين هذه الحقوق من ناحية تشريعية وضعية بالكامل. وكان بيان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أقصى وأمثل تجسيد لهذه الرؤية، والنظر إلى الواقع وإلى حالة الإنسان الغربي الحديث.

هكذا ترسخت مبادئ وحقوق إنسانية بالكامل، ترعى بقاء الكائن الأوفر حظًّا في المملكة الحيوانية بقدراته وتفوقه. لكن ظلت هناك عدة مشكلات تتعلق بالخصائص المميزة لذلك «الهوموسابيان»، إذ ظهرت مشكلات تحد من قدراته، ولا يستطيع التغلب عليها بسهولة، منها حياته الكئيبة المليئة بالمعاناة والألم. ففي القرن السابع عشر، وصف «توماس هوبز»، الذي كان قد تجاوز من العمر 91 عامًا وقتما مات، حياة الإنسان في زمنه بأنها «منعزلة، فقيرة، حقيرة، همجية وقصيرة».

منذ القرن التاسع عشر، تتصاعد وتيرة الأحداث ليصل كل شيء إلى ذروته في الثورة الصناعية، وتفشِّي دور التقنية في كل شيء، ليحدثنا ماركس ناقدًا المجتمع الصناعي الناشئ حديثًا عن «فيتشية السلعة»، التي تعني تحوِّل الإنسان الصانع إلى عبد لما يصنعه، ما جعل السؤال حول جدية تناول مشروع التنوير والحداثة الأوروبيين لمسألة الإنسان والإنسانية، سؤالًا مشروعًا، بل مُلحًّا إلى درجة كبيرة.

لكن وسط تجاهل كل التخوفات والأسئلة والشكوك حول مشروع الحداثة الأوروبي، تصل الحضارة العلمية العقلانية إلى ذروتها التي تُعد الثانية، مع مفهوم آخر لا يقل أهمية أو قلقًا عن باقي المفاهيم المصاحبة للحضارة الرأسمالية الحديثة، وهو مفهوم يرتبط بحَدَث يحدث لأول مرة في تاريخنا الإنساني، وهو محاولة تجاوز الإنسان الحالي. محاولتنا لتجاوز أنفسنا، أو في ما يُعرف بما بعد الإنسانية.

الفصل الثاني: ما بعد الإنسانية

مفهوم ما بعد الإنسانية يمثل مشروعًا علميًّا جديدًا، يهدف إلى تطوير مجال قدرات الإنسان البيولوجية والعقلية والنفسية وتوسيعها.

كان «إف. إم. اسفندیاري‎» كاتبًا للخيال العلمي وأستاذًا وفيلسوفًا ما بعد إنساني، ومؤمنًا متحمسًا بالتكنولوجيا الحديثة، وداعية للوثوق الكامل بها. غيَّر اسمه في ما بعد ليصبح «إف. إم-2030» احتجاجًا على ما وصفه هو بالأسماء العادية المتفَق عليها، والتي أملاها علينا كبشر، الوعي الجمعي القبَلي المتعصب المتجذر في ثقافاتنا.

واحتفاءً بعام 2030 الذي كان سيكمل فيه مئة عام، قبل أن يتوفى سنة 2000 عن 70 عامًا، يقول: «تُعيِّن الأسماء العادية كل ما يتعلق بالفرد من ناحية أسلافه وعرقه وقوميته ودينه. إن اسمي الجديد إف إم-2030 يعكس اهتمامي بالاعتقاد أنه بحلول عام 2030 سنحيا أوقاتًا ساحرة. ففي 2030 سنصبح دائمي الشباب، كلٌّ منا سيمتلك الفرصة ليحيا إلى الأبد. 2030 حلم وهدف».

إن ما بعد الإنسانية رؤية لما وراء الجنس البشري وما يمكن أن يصل إليه. ليس على طريقة نيتشة عندما حدَّثنا عن ضرورة تجاوز الإنسان الحالي، ودشَّن هدفًا، هو بلوغ الإنسان النيتشوي الأعلى أو «السوبرمان». إنسان نيتشه الأعلى مجاوز لذاته، لكنه تجاوز الإنسان الحالي عن طريق إرادته، وليس بأي وساطة تكنولوجية.

هنا يكمن الفارق ومربط الفرس والسمة الجوهرية التي تميز فلسفات ما بعد الإنسانية ورؤيتها للإنسان والوجود عن الفلسفة النيتشوية والفلسفات الوجودية قاطبة. فما بعد الإنسانية يمثل مشروعًا علميًّا جديدًا، يهدف إلى تطوير مجال قدرات الإنسان البيولوجية والعقلية والنفسية وتوسيعها. هذا بالاستعانة بتقنيات حديثة والإفادة من كل العلوم البيولوجية والرقمية والذكاء الاصطناعي.

قد يعجبك أيضًا: المستقبل الآن: هكذا سنتحكم في ما حولنا بمجرد التفكير

الطموح الأكبر لما بعد الإنسانية: إكسير الحياة

كيف يبدو مستقبل البشر وفقًا لفلسفة ما بعد الإنسانية؟

قهر الموت بصفة نهائية، وتحقيق حلم الخلود، ما زال بعيدًا رغم محاولات ما بعد الإنسانيين.

منذ أن بدأ التاريخ، وتظهر فكرة الشباب الدائم وسر الخلود في أساطير كل الحضارات البشرية تقريبًا. إنها أفكار تراوغ وتداعب العقل الإنساني منذ فجر التاريخ حتى زمننا هذا. فالبرغم من أنه في الموت تكون راحة الإنسان من كل أتعابه وكدره والقلق المصاحب دائمًا لوجوده، فإنه ما زال يسعى إلى الحياة بشكل مؤبد. هل يتمكن الإنسان من تحقيق هذا الحلم القديم بمساعدة العلم الحديث؟ أم إنها تطلعات صبيانية؟

تقع مسألة إطالة عمر الإنسان ضمن أهم أولويات ما بعد الإنسانية. فلا يصح أن يظل «إنسان ما بعد الإنسان» يعاني من قِصر العمر وأمراض الشيخوخة، وإلا لما كان يتميز عن الإنسان الحالي في شيء. لذلك يبذل علماء ما بعد الإنسانية كثيرًا من الجهود لإطالة عمر الإنسان الجديد والتغلب على أمراض الشيخوخة.

لكن ينبغي التأكيد على أن قهر الموت بصفة نهائية، وتحقيق حلم الخلود، ما زال بعيدًا رغم محاولات ما بعد الإنسانيين، أملًا في تحقيق ذلك في يوم من الأيام. إذًا قضية الحياة والموت تقتصر على قهر الشيخوخة في الوقت الحاضر، وإطالة عمر الإنسان الجديد أطول وقت ممكن.

قد يهمك أيضًا: الإنسان والمرض: من ينتصر في النهاية؟

يقول «ناثانيل ديفيد»، عالم التقنية الحيوية وما بعد إنساني: «ما نسعى إليه في الوقت الحاضر هو، بدلًا من أن تموت وأنت على مشارف الثمانين من عمرك، ممددًا على سرير المرض، وموصَّلًا بأنابيب القسطرة، ومصابًا بخلل عقلي ما، ستموت، ولكن في عامك المئة وثلاثة عشر، في ملعب التنس، بينما تفوز في المباراه. أو في سيناريو آخر، ستكون مقتولًا على أيدي شريك حياتك لأنه يغار عليك».

يهدف مشروع ما بعد الإنسانية إلى رفع كفاءة الإنسان بوجه عام، أي الإنسانية جمعاء، وليس الإنسان الفرد الذي يتمكن من تطوير قدراته الفردية بحسب أهوائه. ما يرمى إليه العلماء ما بعد الإنسانيين، هو نقل الإنسانية ككل، نقل النوع الإنساني نقلة نوعية إلى نوع آخر، تتوسع فيها قدراتنا لنصبح خارقي الذكاء وطويلي العمر، نتمتع بقدرات فائقة لا نحلم بها.

من ناحية الحقوق، وهذه إشكالية كبرى في الفلسفات ما بعد الإنسانية، تدافع حركات ما بعد الإنسانية عن حقَّين أساسيين بجانب باقي الحقوق والإشكالات الخلقية: الأول هو حق البشرية جمعاء في التطور ككل للخطوة القادمة التي سيخطوها الإنسان عن طريق ما بعد الإنسانية. الحق الثاني هو احترام رغبة الإنسان الفرد في رفض أن يكون مُعززًا ومطورًا بتلك التقنيات.

حينها سيكون الفارق بين الإنسان المُعزز والآخر العادي، كالفارق بين الهوموسابيان والقردة العليا في مملكة الحيوان.

هل يبقى الإنسان نفسه؟

هل الإنسان المجاوز الذي جرى تعزيزه ليصبح ما بعد إنسان يظل نفسه؟ إذا عزز أحدهم خواصه تعزيزًا جذريًّا، ما الذي يضمن أن يظل هو هو؟

دعك الآن من هذا كله، وفكِّر في المكنسة الكهربية الموجودة في غرفتك، إنها تبدو هي نفسها الآلة مذ أول استخدام لها، والذي ربما لا تستطيع تذكره على وجه التحديد. ماذا يحدث لو تعطلت؟ يمكنك إصلاحها وصيانة مكوناتها أكثر من مرة، لكنها تصبح هي نفسها. الآن، افترض أنها تحطمت وذابت بالكامل. من المرجح أنها الآن لم تعد موجودة على الإطلاق. وما يتبقى منها، من الواضح، أنه ليس مكنسة كهربية على أي حال.

من هنا يبدو أن بعض التغيرات قد تؤدي إلى توقف شيء ما عن الوجود، بينما تغيرات أخرى لا تفعل ذلك. يطلق الفلاسفة على الصفات الملازمة للشيء ما دام موجودًا، اسم «الخواص الجوهرية للشيء».

أنت مثلًا تظل كما أنت إذا بُترت أطرافك، أو تظل كما أنت مهما تتعرض لأحداث أثرت بشكل أو بأخر في أجزائك الداخلية والخارجية، وإلى حدٍّ معين، يصبح أي تلاعب بعده تلاعبًا في هويتك نفسها. هذا هو مفهوم الهوية الذاتية أو الشخصية. وكما ترى، إنه مفهوم ميتافيزيقي بالضرورة نظرًا إلى جهلنا حتى الآن بكُنه الهوية الذاتية وماهيتها، وما هو الحد الفاصل بين ما هو جوهري بالنسبة إلى الهوية وما هو زائد.

تبعًا لذلك، فإن فكرة تعزيز الإنسان الحالي وبلوغ ما بعد الإنسان، تتقاطع مع مفهوم ميتافيزيقا الهوية الذاتية ذاك. فهل الإنسان المجاوز الذي جرى تعزيزه ليصبح ما بعد إنسان يظل نفسه؟ إذا عزز أحدهم خواصه الفسيولوجية والعقلية تعزيزًا جذريًّا، ما الذي يضمن أن يظل هو هو؟ وليس شخصًا آخر؟ فلا أحد يرغب في أن يجري تعزيز كل قدراته الجسمية والعقلية ليستخدمها شخص آخر.

لا يختلف السؤال عن الإدراك، عن السؤال حول طبيعة الهوية كثيرًا. إذ يمكن معرفة كنه الهوية الشخصية وطبيعتها إذا عرفنا كيف يحدث الإدراك. والنظرية التي تنسجم مع أهداف ما بعد الإنسانية، ويتبناها كثير من العلماء ما بعد الإنسانيين، هي «النظرية الحسابية للعقل»، وهي نظرية مفادها أن العقل الإنساني عبارة عن جهاز معالج للبيانات، ويعتمد على الحوسبة. ويجري التعبير عنها بالتعبير الشهير باستعارة الكمبيوتر، لأن المخ وفقًا للنظرية الحسابية جهاز كمبيوتر، والعقل الواعي برنامج هذا الكمبيوتر.

اقرأ أيضًا: لقد كنا مخطئين: جسدك كالكمبيوتر، يمكن ترقيته وقتما تريد

بحسب علماء ما بعد الإنسانية، في حالة الإنسان المُعزَّز، يكون تعزيز الذكاء بواسطة دوائر كهربية عصبية تزيد من سرعة المعالجة العقلية للبيانات فحسب، وتؤهل الإنسان للولوج بعقله داخل شبكة الإنترنت ليصبح كيانًا «سيبرانيًّا» بالكامل، أو يصبح موجودًا على شبكة الإنترنت، ويعني هذا أن ما بعد الإنسان لن يصبح إنسانًا بأيٍّ من مقاييسنا الراهنة.

يتخوف كثيرون من دمج التكنولوجيا بالجسم البشري، لأننا عندها لن نعود قادرين على التمييز بين الطبيعي وغير الطبيعي، وما هي الآثار الناجمة عن اختلاط وتماهي كل هو طبيعي مع كل ما هو صناعي.

بعد كل هذا، هل يصير الإنسان إلهًا على الأرض؟ هل يستطيع تحقيق الحياة الأخرى والخلود والجنة المنشودة في جميع الديانات والأساطير، ولكن هنا، على الأرض؟

في الأساس، تتحرك معظم أهداف ما بعد الإنسانية تحت تأثير علم الذكاء الاصطناعي وإلهامه، والذي بدوره يعمل متأثرًا بأدب الخيال العلمي والروايات التي أنتجها ذلك اللون من الأدب في عصره الذهبي، أي في النصف الثاني من القرن العشرين. فجميع تلك البحوث والمشروعات منطلقة في الأساس من خيال العقل الإنساني، وما يمكن أن يحققه على أرض الواقع، وما يمكن أن يحققه ذلك العقل حتى لنفسه.

وسواء تعرضت البشرية لنوع من التحويل والتعزيز الجذري لمقدرات الإنسان البيولوجية، أو سواء انفجر الذكاء الاصطناعي مُحدثًا المفردة، فهذا كله من صنيعة العقل وخياله المبدع قبل كل شيء، والذي سيجني أيضًا ما سيجنيه: ثمارًا كانت أم كوارث.

مواضيع مشابهة