مصر وكوبر.. معركة الهوية

مدرب المنتخب المصري «هيكتور كوبر» - الصورة: Getty/Fared Kotb

محمد فتحي
نشر في 2018/03/26

كانت الفرحة عارمة. تسيل بيننا وتغمرنا ولا يوقفها شيء. الأعلام تُرفرف، والهتاف البسيط العفوي يدوّي: مصر.. مصر.

كنا سعداء جدًّا بالتأهل لكأس العالم، متلهفين لأي انتصار كروي بعد سبع سنوات عجاف. كان بيننا صديق لم تكتمل فرحته. في ابتسامته حزن، وفي حديثه بعض الغضب، باغتني متسائلًا: «دي والنبي طريقة نتأهل بيها لكأس العالم؟».

نَبَش سؤاله جرحًا وُلِدَ قبل أشهر، تحديدًا حين كانت مصر تشارك في كأس الأمم الإفريقية 2017، ورغم ذلك كانت الإجابة حاضرة وسريعة: «المهم اننا اتأهلنا».

بعد أيام تذكرت سؤاله، وصار يداهمني بين الحين والآخر: «دي والنبي طريقة نتأهل بيها لكأس العالم؟».

(1)

حين جاء الأرجنتيني «هيكتور كوبر» لقيادة المنتخب المصري كانت هناك هوية واضحة للمنتخب، وكان للمدرب الأرجنتيني أفكار واضحة. وكل منهما أبعد ما يكون عن الآخر.

هل تخيلت يومًا أن تشاهد «برشلونة» الإسباني يلعب مباراة منذ بدايتها حتى نهايتها في منتصف ملعبه. يدافع لاعبوه عن مرماهم مكتفين بالهجمات المرتدة بين الحين والآخر؟ أو هل تخيلت أن تشاهد المنتخب الإيطالي يخوض مباراة منذ بدايتها حتى النهاية بهجومٍ كاسح. يندفع جميع لاعبيه إلى منتصف ملعب الخصم ويهاجمون حصونه دون حذر دفاعي أو تأمين مرماهم؟

الإجابة على السؤالين السابقين سهلة: برشلونة لن يدافع منذ انطلاق المباراة حتى نهايتها أيًّا كان الخصم. وإيطاليا لن تدفع بكل لاعبيها إلى مرمى المنافس دون أن تحمي مرماها.. لكل فريق في كرة القدم هوية واضحة وراسخة.

لا تكتسب الفرق هويتها، في الغالب، عبر جيل واحد من اللاعبين أو مدربٍ بعينه. يحتاج الأمر سنوات طويلة وأجيالًا متعاقبة ونجاحات وإخفاقات كثيرة حتى تتشكل تلك الهوية بتفاصيلها المتعددة.

والهوية الكروية تتجاوز التصنيف الشهير: (هجومي-دفاعي) إلى مساحات أوسع تتطرق إلى كيفية الدفاع والهجوم، ونقاط القوة والضعف في كل خط من خطوط الملعب، والأنواع المفضلة من اللاعبين، إلى غير ذلك من التفاصيل.

وبمرور الوقت تكتسب تلك الهوية قوة وصلابة، وتواجَه محاولات العبث بها سواءً بإحداث تغيير جذري أو إضافة بعض التفاصيل الصغيرة ومحوها بانتقادات حادة. ويمكن أن نرى مثالًا على ذلك من خلال الانتقادات الحادة التي وُجهت إلى المدرب الإسباني الشهير «بيب جوارديولا» من بعض مشجعي «بايرن ميونيخ» حين أشرف على قيادة الفريق الألماني رغم تحقيقه سبعة ألقاب خلال ثلاثة أعوام فقط. وسبب الانتقادات، من وجهة نظرهم، أن بيب حاول فرض أفكاره على الفريق بشكل يضر بهويته الكروية.

وفي مصر، حين جاء الأرجنتيني «هيكتور كوبر» لقيادة المنتخب الأول قبل نحو ثلاثة أعوام كانت هناك هوية واضحة للمنتخب المتوَّج بكأس الأمم الإفريقية سبع مرَّات. وكان للمدرب الأرجنتيني المخضرم أفكار واضحة. وكل منهما (هوية المنتخب وأفكار المدرب) أبعد ما يكون عن الآخر.

مصر تتلاعب بالكاميرون في عهد حسن شحاتة

(2)

نجم الشباك في الكرة المصرية ليس المهاجم. اللاعب الأكثر امتاعًا القادر على انتزاع الآهات بمراوغاته أو  تمريراته الجميلة المتقنة هو الأقرب لقلوب الجماهير.

يُفضِّل كثيرون اعتماد الدفاع والهجوم معيارين رئيسيين للتصنيف الكروي. ووفقًا لهذا التصنيف، فإن الكرة المصرية هجومية. وهذا الوجه الهجومي له قاعدة حاكمة: المتعة أولًا وقبل كل شيء.

يحوي هذا الوجه كثيرًا من التفاصيل والملامح تؤكد بتنوعها خصوصيته. يندر في مصر أن نرى مهاجمًا فارع الطول يتجاوز 190 سنيتمترًا، ويندر أيضًا أن نرى مهاجمًا من أصحاب القوة البدنية الهائلة مثل عدد من دول القارة السمراء. والحالات القليلة التي عرفت الكرة المصرية فيها واحدًا من هؤلاء تعامل الجمهور معه باعتباره خروجًا عن المألوف. مثل عمرو زكي المهاجم الدولي القوي مفتول العضلات الذي خاض مع المنتخب 64 مباراة دولية بين 2004 و2013، وسجل خلالها 32 هدفًا.

المهاجم الأكثر انتشارًا في مصر يقترب طوله من 185 سنتيمترًا. وهناك من لا يصل إلى 180 سنتيمترًا، وهم كُثُر أيضًا، أبرزهم حسام حسن الهداف التاريخي للمنتخب، وطوله 178 سنتيمترًا.

نجم الشباك في الكرة المصرية ليس المهاجم. اللاعب الأكثر امتاعًا القادر على انتزاع الآهات بمراوغاته أو  تمريراته الجميلة المتقنة هو الأقرب لقلوب الجماهير، لذلك يعد صانع الألعاب (رقم 10) هو اللاعب المُفضل للجماهير في مصر، وبخاصة إذا أضيفت إلى قدرته على المراوغة وصناعة الأهداف مهارة هز شباك المنافسين. وكثير من الجماهير يغض الطرف عن جدوى المراوغة أو مدى استفادة الفريق منها. يُنظَر إليها كعمل إبداعي مستقل بذاته.

مجموعة من أهداف ومهارات محمد أبو تريكة

لاعبو الارتكاز في وسط الملعب يجذبون الأنظار إذا امتلكوا قدرة على المراوغة، مثل حسام غالي، أو إذا كانت إسهاماتهم الهجومية بارزة سواءً بصناعة الاهداف أو تسجيلها مثل أحمد حسن وحسني عبد ربه.

يحجز المدافعون الدرجة الأخيرة من سلم الجماهيرية والإبداع أيضًا. يعتمد الدفاع على النظام والدقة في المقام الأول. الهامش المتروك للأخطاء قليل للغاية لأن كل خطأ قد يكلف فريقك هدفًا. ولا تملك مصر وفرة في المدافعين من أصحاب القامات الطويلة (ممن يتجاوز طولهم 190 سنتيمترًا). ورغم إسناد مهام الدفاع عادة إلى أقوى اللاعبين بدنيًّا في مراحل الناشئين، فإن كثيرًا منهم يسقط أرضًا في أول التحام مع أي مهاجم إفريقي من أصحاب البشرة السمراء الذين يَفِدون كثيرًا إلى المسابقات المحلية.

أخطاء المدافعين المصريين كثيرة. وهناك أخطاء تاريخية متوارثة من جيل إلى آخر، من أبرزها: الانشغال بمشاهدة الكرة عن مراقبة المهاجمين. والخروج من مناطق التمركز الأصيلة (منطقة الجزاء) ركضًا وراء الكرة أو خلف المهاجم في حالة تراجعه إلى منتصف الملعب. أما حراسة المرمى، فهناك ندرة في المواهب المتميزة في هذا المركز شديد الأهمية، لذلك جاء قرار اتحاد الكرة المصري بمنع التعاقد مع حراس أجانب.

(3)

فقد جمهور الكرة في مصر جزءًا من قوته بعد منعه من الوجود في المدرجات، فزادت قوة البرامج الرياضية التي بدأت تنتشر منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي.

الطرف الأقوى في المشهد الكروي المصري هو النادي الأهلي الأكثر تتويجًا بالألقاب المحلية (40 بطولة دوري- 36 كأسًا- 10 كأس السوبر)، ومنافسه الأبرز هو الزمالك الذي فاز بالدوري 12 مرة، وبالكأس 25 مرة، وبكأس السوبر 3 مرات.

سيناريو المنافسة على لقب الدوري محفوظ ومكرر، إذ يُتَوَّج الأهلي بالمسابقة سنوات كثيرة متتالية، ثم ينتزع الزمالك لقبًا أو اثنين متتاليين. أمّا بقية الأندية، فلا تظهر في دائرة المنافسة إلا على استحياء. وآخر فريق تُوّج باللقب بعيدًا عن الثنائي كان الإسماعيلي موسم (2001-2002).

يتفوق الأهلي على الزمالك أيضًا في قوة قطاع الناشئين. وفي قاعدته الجماهيرية التي توصف دائمًا بأنها الأكبر في مصر. ويملك الناديان، فضلاً عن منصات الإعلام الرسمية، عددًا من الأذرع الإعلامية التي تعمل على دعمهما والضغط من أجل تحقيق مصالحهما.

وضاعف من قوة الأهلي والزمالك أن مصر ليست من الأسواق المُفضلة للأندية الأوروبية التي تنقّب عن المواهب خارج القارة العجوز. وأسباب ذلك كثيرة، من بينها ما يتعلق بجودة اللاعبين، وقدرتهم على التأقلم خارج مصر، ومنها ما يتعلق بالأندية التي تطلب مبالغ كبيرة كي تسمح للاعبيها بالاحتراف أو تفضِّل انتقال نجومها إلى الأهلي أو الزمالك للحفاظ على العلاقات الودية مع الناديين الكبيرين.

أما اللاعبون الذين عرفوا الطريق إلى الاحتراف، فيكون خروجهم من مصر على دفعات تشبه مواسم الهجرة الجماعية. حدث ذلك عقب تتويج المنتخب بكأس الأمم الإفريقية 1998 على سبيل المثال. وقتها رأينا أغلب لاعبي المنتخب يغادرون المسابقة المحلية، واستقر كثير منهم في تركيا. وشهدت السنوات الأخيرة موسمًا جديدًا من مواسم الهجرة إلى الشمال. وسببه الرئيس كان توقف النشاط المحلي وعدم انتظامه بعد ثورة 25 يناير 2011.

لقطات من أهداف أحمد حسن خلال احترافه فى الدورى التركي

جمهور الكرة في مصر شغوف باللعبة، توّاق إلى التتويج بالألقاب، لكن وفق القاعدة المذكورة سابقًا: المتعة أولًا وقبل كل شيء. وفقد هذا الجمهور جزءًا من قوته بعد منعه من الوجود في المدرجات خلال السنوات الأخيرة. ومع تراجع نفوذه زادت بشكل واضح قوة البرامج الرياضية على المحطات الفضائية (التوك شو الرياضي)، تلك التي بدأت تنتشر منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي. أصبحت تلك البرامج مؤخرًا صاحبة الصوت الأقوى، وربما الوحيد، في المشهد الكروي المصري.

اقرأ أيضًا: هوس التشجيع: ما هربنا منه نحو كرة القدم، وجدناه في كرة القدم

(4)

تعثَّرت مصر بعد أن تسيَّدت، وبعد الفوز بكأس الأمم ثلاث مرات متتالية (2006-2008-2010) عجز المنتخب عن التأهل للنسخة التالية من البطولة. وتقدم حسن شحاتة باستقالته من تدريب المنتخب.

بدأت مرحلة قاسية من مراحل التجديد، لكنها لم تنتهِ سريعًا. كان الجيل الذي يوصف بـ«الذهبي» المتوج بالثلاثية الإفريقية قد توقف كثير من لاعبيه عن الركض، وأعلنوا الاعتزال واحدًا تلو الآخر. ورغم تألق بعض لاعبي الجيل الجديد، فإنه ما زال غير قادر على حمل الراية.

بعد بوب برادلي أُسندت مهمة تدريب المنتخب إلى شوقي غريب، مساعد حسن شحاتة السابق الذي قدم واحدة من أسوأ التجارب في تاريخ الكرة المصرية.

لجأ اتحاد الكرة بعد إقالة حسن شحاتة من منصبه إلى مدرب أجنبي هو الأمريكي «بوب برادلي»، لكنّه أخفق في التأهل لكأس الأمم الإفريقية، ثم أخفق، رغم البداية المتميزة، في التأهل للمونديال بعد الهزيمة القاسية الشهيرة أمام المنتخب الغاني بنتيجة (6-1).

تجربة برادلي بتناقضاتها عبَّرت إلى حد كبير عن الهوية الكروية المصرية بصفتيها البارزتين: هجوم قوي ودفاع ضعيف مفكك. امتلك المنتخب لاعبَيْن من طراز نادر في خط الهجوم: محمد أبو تريكة، ومحمد صلاح. سجل كل منهما ستة أهداف، وتصدرا مع «أسامواه جيان» ترتيب هدافي التصفيات الإفريقية. وضم الدفاع عناصر من أجيال شتى: وائل جمعة، ورامي ربيعة، وأحمد حجازي، ومحمد نجيب، وغيرهم.

كانت مصر الوحيدة بين المنتخبات الـ10 المتأهلة للمرحلة الأخيرة من التصفيات التي فازت بكل مبارياتها. وكانت صاحبة أقوى ثاني خط هجوم برصيد 16 هدفًا بفارق هدفين عن المنتخب الغاني الأقوى هجوميًّا، لكنها في الوقت نفسه كانت تملك أضعف خط دفاع بين منتخبات المرحلة الأخيرة من التصفيات. اهتزت شباكها سبع مرات في ست مباريات.

بعد برادلي عادت مصر إلى المدرب المحلي مجددًا. أُسندت المهمة إلى شوقي غريب، مساعد حسن شحاتة السابق. غريب الذي قال فور تعيينه إن إسناد مهمة الرجل الأول في جهاز المنتخب تأخر عشر سنوات، قدم واحدة من أسوأ التجارب في تاريخ الكرة المصرية. كانت مهمته أن يصل إلى كأس الأمم الإفريقية 2015، لكن المنتخب معه لم يحصد إلا ست نقاط من ست مباريات. فاز في اثنتين وخسر الأربعة الأخرى. كانت مرحلة غريب عامرة بالتجارب، إذ استدعى إلى المنتخب 33 لاعبًا خلال 10 مباريات فقط: 6 رسميات و4 وديات.

طُويت تلك الصفحة. عادت مصر إلى المدرب الأجنبي مرة جديدة. جاء هيكتور كوبر. أرجنتيني عجوز عنيد. يدافع كثيرًا ويهاجم بحذر شديد. في مسيرته محطات بارزة، مثل «إنتر ميلان» الإيطالي، و«فالنسيا» الإسباني، لكنّه ترنح كثيرًا في أعوامه الأخيرة، وبدا في خريفه التدريبي.

جاء كوبر في محاولة إنقاذ منتخب قوى تعثّر، وعجزت محاولتان متتاليتان استمرتا نحو أربعة أعوام عن مساعدته على النهوض. واحتضنت مصر كوبر مدربًا كبيرًا تعثرت مسيرته، ولم تعرف في سنواتها الأخيرة نجاحًا يُذكر. بدا أن كل طرف يستمد من الآخر قوته، لكنهما، رغم ذلك، ليسا على وفاق، بل كل منهما على طرفي نقيض.

(5)

بعد أقل من شهر كان الاختبار الأول: مباراة وديّة بين مصر وغينيا الاستوائية. يفضل كوبر طريقة لعب (4-4-2) بشكلها الكلاسيكي في خط الوسط: جناحان ولاعبا ارتكاز يتقدم أحدهما ويحمي الآخر الدفاع. واجهت مصر غينيا بتلك الطريقة، وفازت بثنائية نظيفة. تجاوز كوبر الاختبار الأول السهل، وظهرت بعض بصماته: دفاع متأخر، لعب مباشر من دون هوس بالاستحواذ على الكرة، تمريرات سريعة، تكبيل الأجنحة بمهام دفاعية واضحة.

كان موسم (2014-2015) واحدًا من الاستثناءات القليلة التي خرج فيها لقب الدوري من خزائن الأهلي، وذهب إلى الزمالك. حين جاء كوبر لقيادة المنتخب ضم جهازه الفني أسامة نبيه مهاجم الزمالك السابق. وحين أعلن  المدرب الأرجنتيني قائمة اللاعبين الذين استدعاهم للوديات أو للمباراة الافتتاحية في مشوار التصفيات المؤهلة لكأس الأمم الإفريقية 2017 كان لاعبو الأهلي، على غير العادة، أقليَّة داخل صفوف المنتخب. بعض جمهور الأهلي رأى أن وجود نبيه في الجهاز الفني سيكون سببًا في قلة ممثلي الفريق الأحمر بصفوف المنتخب.

في مسيرته الطويلة تعرض كوبر إلى ضغوط جماهيرية كثيرة. أشهرها كان في إيطاليا حين قاد إنتر ميلان، وقرر التمهل في الدفع بالبرازيلي رونالدو فور عودة اللاعب الفذ من إصابة قوية في الركبة. اعتاد المدرب تلك المواقف، لكنه، على الأغلب، لم يكن يتوقع أن يتعرض لها مُبكرًا إلى هذا الحد في رحلته مع الفراعنة.

في المعسكر التالي لم يستقر كوبر إلا على لاعبيْن فقط من الأهلي، هما سعد الدين سمير ورمضان صبحي. واجه المنتخب مالاوي وديًّا، ثم تنزانيا في بداية التصفيات المؤهلة لكأس الأمم 2017، وحقق الفوز في كلتا المباراتين، لكن الانتقادات بدأت توجه بقوة إلى الجهاز الفني بسبب قلة لاعبي الأهلي في المنتخب.

قد يهمك أيضًا: رمضان صبحي.. حين يخدعك الجمهور

ضم كوبر للمنتخب محترفين لا يملكون رصيدًا جماهيريًّا كبيرًا، ولم يحققوا نجاحات بارزة في الخارج، وفي مراكز يوجد بها وفرة من اللاعبين المحليين من ذوي الشعبية الكبيرة.

في فترات سابقة كان من شأن تلك الضغوط أن تُعدِّل من اختيارات المدير الفني، وعلى سبيل المثال حين تألق عرفة السيد مع فريق طلائع الجيش قبل سنوات، وطالبت الصحف وبعض البرامج الرياضية بضمه إلى المنتخب، استجاب على الفور شوقي غريب، ومنح اللاعب فرصته الأولى في مباراة قوية للغاية بتصفيات كأس الأمم أمام المنتخب التونسي، لكن مع كوبر كان الوضع مختلفًا، إجاباته على الأسئلة التي وُجهت إليه عن سبب قلة لاعبي الأهلي بالمنتخب كانت حاسمة: «لاعبو الزمالك وإنبي يقدمون مستويات أعلى، ولو أن لاعبي الأهلي في مستوى جيد لاخترت الأفضل منهم».

في تلك الفترة كان حسام غالي، قائد الأهلي العائد من رحلة احتراف قصيرة في بلجيكا، قد تضاعف نفوذه داخل القلعة الحمراء إلى حد بدا فيه أن كبح جماحه من المستحيلات. قبل معسكر المنتخب لمواجهة مالاوي وتنزانيا كان غالي يقود الأهلي محليًّا في مباراة أمام حرس الحدود بالدوري. حصل على بطاقة حمراء بسبب اعتراضه على حكم المباراة، وفي أثناء مغادرته الملعب ألقى شارة قيادة الفريق على الأرض. سحب الأهلي الشارة من غالي ومنحها عماد متعب.

لم يكن غالي ضمن اختيارات كوبر لمواجهتي مالاوي وتنزانيا، وحين سُئل المدرب عن أسباب عدم ضم اللاعب المخضرم؟ وهل هناك علاقة بين تصرفه خلال مباراة الحدود وقرار عدم استدعائه؟ أجاب بالنفي، وأرجع الأمر إلى أسباب فنية. كان المدرب المخضرم يحاول منذ يومه الأول صد المحاولات المتكررة للدفع به في قلب المشهد الكروي المصري بتفاصيله المربكة وحساباته الضيقة. يراقب عن كثب، ويعمل في صمت دون أن تنزلق قدماه في الوحل.

لم يخسر المنتخب في أول خمس مباريات مع كوبر. ثلاث وديات ومباراتان رسميتان في تصفيات كأس الأمم. سجّل 15 هدفًا، وتلقى هدفين فقط. رغم الانتصارات والأهداف بدت هناك فجوة داخل الملعب بين لاعبي الوسط والهجوم.

كان محمد النني، كعادته، يبذل جهدًا كبيرًا، ويركض بطول الملعب وعرضه، لكنه كان عاجزًا عن القيام بمهام صانع الألعاب حين يغلق الخصم طرفي الملعب ويحرم المهاجمين من التمريرات العرضية.

المباراة السادسة كانت أمام تشاد في المرحلة الثانية من التصفيات المؤهلة لكأس العالم. رجحت كفة الأهلي في المنتخب أخيرًا. انضم تسعة لاعبين إلى صفوف الفراعنة، وعلى رأسهم حسام غالي، قائد الفريق الأحمر. خسرت مصر خارج ملعبها (1-0). وبعدها بأيام كانت مباراة العودة، وفعل المدير الفني شيئًا غير معتاد.

لا يميل كوبر إلى تغيير خطته كثيرًا. الهزيمة أمام تشاد كان يمكن تعويضها في مباراة الإياب، المنافس ضعيف والهزيمة بهدف نظيف يسهل تجاوزها، لكن كوبر قرر تغيير خطة اللعب لسد الثغرة بين الوسط والهجوم وخلق مزيد من الفرص في عمق الملعب. وجد عبد الله السعيد، صانع ألعاب الأهلي، مكانًا مع الفراعنة. وظهرت بصمة اللاعب المخضرم سريعًا، فقد سجل هدفًا وصنع الآخر في المباراة التي انتهت بفوز مصر (4-0). تلك المرونة المبكرة جعلت البعض يتفاءل، ويظن أن رغبة كوبر في إنقاذ مسيرته التدريبية المتعثرة ستجعله يتخلى عن قدر من عناده وصلابته.

شيء آخر ظهر في اختيارات كوبر لم تعتده الكرة المصرية، وهو ضم محترفين لا يملكون رصيدًا جماهيريًّا كبيرًا، ولم يحققوا نجاحات بارزة في الخارج، وفي مراكز يوجد بها وفرة من اللاعبين المحليين من ذوي الشعبية الكبيرة. عمرو وردة لاعب الوسط المهاجم كان خير مثال على ذلك. غادر وردة مصر وعمره 22 عامًا، ورصيده 17 مباراة فقط في مسابقة الدوري (16 مع الاتحاد، ومباراة مع الأهلي). رحل إلى اليونان صيف 2015، وبدأ مسيرته مع فريق «أتروميتوس». وحين استدعى المنتخب وردة لم يكن اللاعب قد سجل إلا هدفًا واحدًا مع فريقه في الدوري اليوناني.

(6)

مر العام الأول بسهولة ويسر. خاض المنتخب 10 مباريات، خسر مرتين وتعادل مرة واحدة وفاز في سبع مباريات. تأهل للمرحلة الأخيرة من تصفيات المونديال. وكان على موعد مع اختبار حاسم في مشوار التأهل لكأس الأمم الإفريقية: مباراتان متتاليتان أمام المنتخب النيجيري.

خلال العام الأول لم تزد تجربة كوبر عن كونها محاولة رفض الضغوط الإعلامية والجماهيرية في ما يتعلق باختيارات اللاعبين فقط، أما داخل الملعب، فكان التغيير محدودًا. هناك قدر من التحفظ الدفاعي، لكنه ليس كبيرًا.

منذ مباراة الذهاب أمام نيجيريا في 25 مارس 2016، أي بعد عام وبضعة أيام من توليه مهمة تدريب الفراعنة، بدأ كوبر محاولة جادة لإحداث تغيير في طريقة لعب المنتخب المصري. هذا التغيير الذي سيراه كثيرون لاحقًا محاولة للعبث بالهوية المستقرة للكرة المصرية التي تبحث عن تحقيق الفوز مصحوبًا بأكبر قدر من المتعة واللعب الهجومي.

في هذه المباراة صبغ كوبر المنتخب بصبغته الدفاعية. كان المنتخب متماسكًا وصلبًا في منتصف ملعبه. أجبر لاعبي نيجيريا على نقل الكرة كثيرًا إلى طرفي الملعب والتسديد من خارج منطقة الجزاء. ظهرت ثغرة واحدة في الجبهة اليمنى التي شغلها عمر جابر بسبب عدم مساندة محمد صلاح له دفاعيًّا بالشكل اللازم. أما هجوميًّا، فلم يكن هناك سوى سلاح وحيد هو الهجمات المرتدة التي اعتمدت بشكل واضح على سرعة صلاح. وكادت تسفر عن هدف مُبكر.

ملمح آخر من ملامح محاولة التغيير في شخصية المنتخب ظهر حين اهتزت شباك الفراعنة بهدف في الدقيقة 60. في مثل تلك المواقف كان المنتخب، في الأغلب، يندفع إلى الهجوم بخطوطه الثلاثة، وهنا إما أن ندرك التعادل أو نتلقى هدفًا ثانيًا قاتلًا. ما فعله كوبر كان غير معتاد بالنسبة إلى كثيرين. حافظ خط الدفاع على تمركزه بالقرب من منطقة الجزاء، وسمح كوبر للاعبيْن فقط بالتقدم إلى الأمام لمساندة الرباعي الهجومي، هذان اللاعبان هما محمد النني وعمر جابر.

لعب المنتخب بهذه الطريقة حتى آخر 10 دقائق في المباراة قبل أن يدفع كوبر برمضان صبحي بدلًا من تريزيجيه، وصنع البديل هدف التعادل الذي سجله محمد صلاح في الدقيقة الأخيرة من الوقت الأصلي للمباراة.

في مباراة العودة احتاج المنتخب المصري إلى الهجوم منذ البداية لاقتناص النقاط وضمان التأهل، لكن هل سيندفع اللاعبون إلى الهجوم منذ البداية؟ الإجابة: لا.

كان هناك قدر كبير من التحفظ في أداء المنتخب مع محاولات هجومية جاء أكثرها عن طريق رمضان صبحي الذي بدأ هذا اللقاء لاعبًا أساسيًّا. فازت مصر بهدف نظيف وصعدت إلى كأس الأمم الإفريقية بعد غياب استمر منذ 2010، لكن كوبر كان في مرمى الانتقادات التي تضاعفت منذ مباراة الذهاب. كانت الحملة قوية وسلبت التأهل بهجته. رأى كارهو اللعب الدفاعي وحراس الهوية الكروية أن نجاح كوبر بتلك الطريقة يعد خطرًا كبيرًا. وأن عدم التأهل مع الاحتفاظ بالهوية الهجومية قد يكون أفضل من التأهل بتلك الطريقة.

بعد التأهل لكأس الأمم وخوض المرحلة الأخيرة من تصفيات المونديال أطل كوبر عبر وسائل الإعلام. الأصوات الغاضبة وصلت إليه ودفعته إلى التحدث. لكن ظهوره لم يكن من أجل مهادنتها أو التقرب إليها. لم يَعِد كوبر بتغيير أي شيء. دافع عن فلسفته الدفاعية وعن اختياراته للاعبين. شدّد على أن هناك فارقًا كبيرًا بين الواقع والأحلام. وقال إنه يجب قبل أن نتحدث عن ما نحلم به أن ندرك الواقع بتفاصيله، ونعرف مواطن قوتنا ونقاط ضعفنا. لم يرفع المدرب الراية البيضاء أمام الانتقادات. ظهر مصممًا على الاستمرار بطريقته الخاصة.

لكن اللافت أن تلك الانتقادات الجماهيرية لم تجد مثيلًا لها في وسائل الإعلام. وعلى غير المعتاد لم تُسن السكاكين للهجوم على المدرب وفلسفته. أحد الأسباب وراء ذلك كان محمود فايز، محلل الأداء والمترجم والذراع اليمنى لكوبر، والذي حرص على التواصل المكثف مع كثير من الصحفيين والإعلاميين.

حين عاد حسام غالي إلى صفوف المنتخب لم يجد لنفسه مكانًا في التشكيل الأساسي. كان كوبر يمنحه دقائق قليلة في الشوط الثاني من المباريات. شعبية لاعب الأهلي جارفة، حين أجرى عمليات الإحماء واستعد لنزول أرض الملعب في مباراة الإياب أمام نيجيريا انتفض المشجعون ترحيبًا بالقائد المُخضرم.

الجمهور المصري متحمس لنزول حسام غالي في مباراة نيجيريا

بعد حسم التأهل لكأس الأمم الإفريقية، وقبل البدء في مشوار تصفيات كأس العالم، انفجرت أزمة بين غالي وأسامة نبية. ترددت أقاويل كثيرة وروايات متضاربة حول سبب الأزمة، لكنها على اختلافها انحصرت في كونها صراعًا بين لاعب كبير ينتمي إلى الأهلي ومدرب في بداية مسيرته ينتمي إلى الزمالك. نتيجة الصدام كانت استبعاد غالي من المنتخب، ومزيدًا من الضغوط على كوبر وجهازه المعاون.

بعد أشهر خاضت مصر وديتين متتاليتين أمام غينيا، ثم جنوب إفريقيا. فتح فيهما كوبر الباب أمام بعض العناصر المحلية والمحترفة المميزة للانضمام إلى المنتخب والوقوف على مستواها، لكنه مجددًا حاول إرساء قاعدة مهمة عقب أزمة نشبت بين بعض لاعبي المنتخب في أثناء تنفيذ ركلة جزاء في مباراة غينيا.

حمّل كوبر نفسه مسؤولية الأزمة بين رمضان صبحي ومحمد النني في مباراة غينيا، في مشهد نادرًا ما نراه في مصر، لأنه اختار عبد الله السعيد لتنفيذ ركلات الترجيح، ولم يحدد بديلًا له.

ركض رمضان صبحي الذي ترك الأهلي وانضم إلى صفوف ستوك سيتي الإنجليزي، ليلتقط الكرة عازمًا على تسديدها. حاول محمد النني إثناء رمضان، وطلب منه التسديد، لكن الأخير رفض بغضب. أصر اللاعب الشاب على التسديد، وأهدر الركلة.

حدثت تلك المواقف سابقًا أكثر من مرة في صفوف المنتخب. ومن أبرزها في المباراة الافتتاحية لكأس الأمم 2006 بين مصر وليبيا، حين أصر أحمد حسام «ميدو» على تسديد ركلة جزاء رغم اختيار الجهاز الفني أحمد حسن لهذه المهمة. سدد ميدو الركلة، وتصدى لها الحارس، لكنها عادت إلى أحمد حسن الذي أسكنها الشباك.

كان من الممكن تجاهل الأمر باعتبار المباراة ودية. وكان من الممكن أن يقول كوبر، كما اعتدنا أن نسمع من مدربين مصريين، إن هذا أمر من الطبيعي أن يحدث بين اللاعبين. كان واردًا أيضًا أن يكتفي بتعنيف رمضان في غرفة خلع الملابس أو في إحدى المحاضرات، أو أن يلتمس العذر له لأن اللاعب «ما زال صغيرًا»، أو لأنه يريد الحصول على دفعة معنوية تساعده مع ستوك سيتي الذي يجلس فيه بديلًا، لكنّ شيئًا من هذا لم يحدث.

في المؤتمر الصحفي عقب المباراة، حمّل كوبر نفسه، في مشهد نادرًا ما نراه في مصر، مسؤولية هذه الأزمة. لأنه اختار عبد الله السعيد لتنفيذ ركلات الترجيح، ولم يحدد بديلًا له، وحين غادر السعيد الملعب، واحتسب الحكم ركلة الجزاء حدثت تلك الفوضى. بعد ذلك أبدى كوبر غضبه من تصرف رمضان صبحي.

في المباراة الودية التالية أمام جنوب إفريقيا لم يبدأ صبحي أساسيًّا كما كان متوقعًا. جلس على مقاعد البدلاء، وشارك كبديل في الشوط الثاني، وحين سُئل المدرب: هل كان الأمر عقابًا على أزمة ركلة الجزاء؟ قال: «هناك خط يجب أن يسير عليه جميع اللاعبين في المنتخب بغض النظر عن اسم اللاعب وقيمته (...) رمضان صبحي لم يشارك أساسيًّا لأنه لم يقدم المستوى الجيد أمام غينيا، وكنت أرى أن هناك لاعبًا أفضل منه يستحق أن يبدأ المباراة».

مرة أخرى حاول الأرجنتيني العنيد أن يفرض قواعده على جميع اللاعبين دون النظر إلى شعبيهم أو الانتقادات التي قد يتعرض لها.

(7)

الغياب المستمر عن المونديال وحملة الانتقادات التي تواجه كوبر بثت التشاؤم في الأجواء قبل مواجهة الكونغو في افتتاح المرحلة الأخيرة من تصفيات كأس العالم.

أيهما سيختار كوبر في مشوار تصفيات كأس العالم؟ الوجه الذي ظهر به خلال العام الأول من ولايته، إذ يغلب الدفاع قليلاً على الهجوم؟ أم الوجه الآخر الدفاعي المحافظ لأقصى حد الذي أطلّ به بدءًا من مباراة الذهاب أمام نيجيريا؟

آخر ظهور مصري في المونديال كان عام 1990. وخلال 26 عامًا أخفقت مصر لأسباب مختلفة في التأهل للبطولة رغم تسيّدها القارة الإفريقية، وفوزها بكأس الأمم أربع مرات من 13 بطولة أقيمت خلال تلك الفترة.

وتخوض مصر، في الغالب، مباريات التصفيات التي تقام بنظام المجموعات، وكأنها مباريات كؤوس يجب الفوز بنقاطها جميعًا. لا تلعب بحذر ولا تتمهل.

الغياب المستمر عن المونديال وحملة الانتقادات الحادة التي تواجه كوبر وإصرار الأخير على طريقته واختياراته بثت التشاؤم في الأجواء قبل مواجهة الكونغو في افتتاح المرحلة الأخيرة من التصفيات.

انطلقت المباراة، ولم ينطلق المنتخب نحو شباك الكونغو، ولم يتراص اللاعبون أيضًا في منطقة الجزاء. خاضت مصر المباراة بقدر من الحذر الدفاعي مع رغبة واضحة في الفوز كاد يترجمها محمد صلاح في الدقائق الأولى. لعب المنتخب دون مدافعيه الأساسيين: حجازي وربيعة. شارك بدلًا منهما إسلام جمال في ظهوره الدولي الأول وعلي جبر. تلقت الشباك هدفًا من مجموعة أخطاء دفاعية.

مرة أخرى كرر كوبر واحدًا من دروسه التي فرضها على المنتخب: «لن نندفع حين تهتز شباكنا». بدأ الظهيران في التقدم بحذر. تعادلت مصر برأس صلاح قبل نهاية الشوط الأول. بدأنا الشوط الثاني مثل الأول. التحفظ ذاته والأخطاء الدفاعية ذاتها. جاء الهدف الثاني بقدم عبد الله السعيد، وافتتحت مصر سجلها بفوز لم يُرض كثيرين.

الاختبار التالي كان شديد الصعوبة، لكن المنتخب تجاوزه، وتفوَّق على ضيفه منتخب غانا بثنائية دون رد. وإذا كانت مباراة نيجيريا قد شهدت أول محاولة من كوبر لصبغ المنتخب بصبغة دفاعية لم يعتدها كثيرًا، فإن مباراة غانا كانت التجلِّي الأبرز لتلك المحاولات. المدرب نفسه تحدَّث عن ذلك في المؤتمر الصحفي عقب المباراة. بدا سعيدًا للغاية وهو يردد أن اللاعبين اقتنعوا بطريقة لعبه.

شيء آخر امتدحه كوبر، وهو بالفعل كان أبعد ما يكون عن شخصية المنتخب في فترات سابقة. امتدح كوبر الصبر. كان سعيدًا أن لاعبيه استغلوا الفرص المناسبة لتسجيل الأهداف وقتْل المباراة. المدير الفني قال غير عابئ بالانتقادات إنه طالب اللاعبين بترك الكرة للخصم والسماح له بالسيطرة على منتصف الملعب ما دام لم يقترب من المرمى.

(8)

عام 2006 ضمت قائمة المنتخب المصري المشارك في كأس إفريقيا خمسة مهاجمين. وفي كلٍّ من النسختين التاليتين للبطولة ضمت قائمة الفراعنة أربعة مهاجمين. وحين أعلن كوبر القائمة النهائية لبطولة 2017 لم يوجد في المقدمة سوى لاعبين فقط هما: مروان محسن وأحمد حسن «كوكا».

تغيّرت بالطبع طُرق اللعب. كثير من المنتخبات، ومن بينها منتخب مصر، أصبح يميل إلى اللعب بمهاجم واحد فقط. لكن هذا وحده لم يكن السبب في الاكتفاء بهذا الثنائي. كان بإمكان كوبر ضم مهاجم ثالث حتى لو لم يكن في حساباته للمشاركة أساسيًّا مثلما فعل حسن شحاتة حين ضم عبد الحليم علي في نسخة 2006 ومحمد فضل في 2008 وأحمد رؤوف في 2010، لكن المدرب الأرجنتيني اكتفى بالثنائي كوكا ومروان، وقرر استبعاد باسم مرسي مهاجم الزمالك الذي اعتمد عليه في بعض مباريات التصفيات لأسباب تتعلق بانضباط اللاعب. واستبعد أيضًا عمرو جمال مهاجم الأهلي الذي لم يكن يشارك إلا قليلًا مع فريقه. وكذلك أحمد جمعة لاعب المصري الذي ضمه كوبر إلى القائمة الأولى، ثم استبعده.

رغم ذلك لم يكن خط الهجوم هو الأزمة الكبرى التي يبحث كوبر عن حلول لها قبل البطولة. منذ اعتمد كوبر طريقة لعب (4-2-3-1) لم يجد بديلًا لعبد الله السعيد في مركز صانع الألعاب. لا يوجد من يستطيع الربط بسهولة بين الوسط والهجوم. كان محمد إبراهيم لاعب الزمالك أحد الأسماء المطروحة في هذا الوقت. ضمه كوبر إلى القائمة الأوليّة، ثم استبعده. وإضافة إلى السعيد كان محمد النني هو الآخر دون بديل في تشكيل المنتخب واختيار كوبر، وبخاصة بعد استبعاد حسام غالي.

شيء آخر تغيَّر بخصوص المنافسات الكبرى. اعتادت مصر إقامة معسكرات طويلة قبلها حتى «ينسجم اللاعبون»، لكنّ كوبر لم يخض سوى مباراة واحدة قبل كأس الأمم، كانت أمام تونس، وانتهت بفوز مصر (1-0). في تلك المباراة كان المدرب مشغولًا بالبحث عن بديل للثنائي السعيد والنني. اعتمد على عمرو وردة في مركز صانع الألعاب منذ انطلاق المباراة حتى منتصف شوطها الثاني. وأشرك النني إلى جوار طارق حامد في الشوط الأول، ثم قرر سحب لاعب آرسنال، وأشرك إبراهيم صلاح لاعب الزمالك بدلًا منه في شوط المباراة الثاني.

(9)

«كأس الأمم» البطولة الأولى التي يخوضها المنتخب تحت قيادة كوبر. في الوديات ومباريات التصفيات كان المدرب يجتمع مع لاعبيه قبل انطلاق المباراة ببضعة أيام، ورغم ذلك نجح في إقناعهم بفلسفته الدفاعية. الآن ستطول فترة وجودهم معًا، وكلما طالت زاد الخطر، سيتشرب اللاعبون تعليماته وطريقته. وداعًا للكرة الهجومية واللعب الممتع.

عادت مصر إلى بطولتها المُفضَّلة. بطل قديم جاء بوجه جديد. كان التشاؤم وحده يسيطر على كل شيء في الشارع الكروي المصري. الغالبية توقعت خروج المنتخب من البطولة مبكرًا بسبب طريقة لعب كوبر.

وقعت مصر في المجموعة الرابعة مع منتخبات: غانا ومالي وأوغندا. منحت القرعة المنتخب فرصة جيدة لعبور الدور الأول، وبين ثمانية منتخبات تأهلت لربع النهائي كانت مصر الوحيدة التي لم تتلق شباكها أي هدف خلال مرحلة المجموعات. وكانت رفقة غانا الأقل تسجيلًا برصيد هدفين لكل منهما.

في المباريات الثلاث الأولى ظهر المنتخب صلبًا منظمًا يصعب اختراق دفاعاته والنفاذ إلى المرمى. صبور لا يتعجل لاعبوه تسجيل الأهداف مهما مرَّت الدقائق. غير مكترث بالاستحواذ على الكرة أو تناقلها كثيرًا بين لاعبيه. بارع في قتل المباراة وإفساد مخططات الخصوم.

تغلب كوبر على ما تم تسميته بـ«العقدة المغربية»، بعد أن فازت مصر على المغرب، بهدف نظيف في بطولة كأس الأمم الإفريقية.

أخرج كوبر من جعبته عددًا من الأفكار ساعدت المنتخب على عبور مرحلة المجموعات، كأن يكتفي في أجزاء من المباريات بلاعب ارتكاز واحد (محمد النني)، ويقرر زيادة لاعبي الوسط المهاجم أملًا في تسجيل الأهداف مثل ما حدث أمام أوغندا. أو أن يدفع بأحمد فتحي في مركز الظهير الأيسر بعد إصابة محمد عبد الشافي، ويطالب فتحي بالانتقال إلى عمق الملعب في بعض أجزاء المباراة لإفساد الهجمات مبكرًا على أن يعود تريزيجيه سريعًا للمعاونة الدفاعية مثل ما حدث أمام غانا، لكنَّ هذه الأفكار وغيرها كانت وفق القاعدة الحاكمة لفلسفة كوبر، وهي: حماية المرمى أولًا وقبل كل شيء.

لم يعبأ المدرب المخضرم بالانتقادات الحادة التي توجَّه إلى طريقة لعبه. ولم يكترث مجددًا بالدعم الجماهيري لبعض اللاعبين مثل رمضان صبحي الذي اعترض بطريقة غير لائقة على قرار استبداله أمام أوغندا، فما كان من المدرب إلا أن استبعده من المباراتين التاليتين. لم يهتم بالانتقادات الحادة التي وُجِّهت إلى لاعب الوسط محمد النني منذ المباراة الأولى للمنتخب في البطولة، وأصرَّ على وجوده في التشكيل الأساسي.

شيء آخر شديد الأهمية تغيَّر خلال البطولة: الهزائم والتعادلات الكثيرة أمام المنتخب المغربي جعلت ما اصطلح البعض على تسميته بـ«العقدة المغربية» أشبه بحقيقة لا تقبل الجدل لدى غالبية المشجعين. لم تفز مصر على المغرب طيلة 31 عامًا في مختلف المسابقات.

التقى المنتخبان في ربع النهائي. دون النني وعبد الشافي خاض كوبر اللقاء محاولًا علاج ثغرتي الوسط والجبهة اليسرى محاولًا التفوق على منتخب قوي يقوده المدرب الفرنسي الشهير هيرفي رينار. لم تعد هناك عقدة بعد تلك المباراة. فازت مصر بهدف نظيف، لكنَّها خسرت مهاجمها الأساسي مروان محسن بسبب الإصابة.

لم تتبقَ إلا خطوة واحدة لبلوغ النهائي. ورغم الضربات الثلاث (عبد الشافي والنني ومروان)، فإن المنتخب نجح في عبور منتخب بوركينا فاسو ليصل إلى آخر محطاته. في تلك المباراة، تلقت مصر أول هدف في البطولة. ورسَّخ كوبر خلال دقائق المباراة من التصور الشائع أن حلوله الهجومية قليلة. ففي غياب مروان محسن فضَّل كوبر الاعتماد على محمود عبد المنعم «كهربا»، ورغم أن الأخير غير مميز في التعامل مع الكرات الهوائية، فإن المدرب فضَّل الاعتماد على التمريرات الطويلة نحو اللاعب الشاب.

في المباراة النهائية أمام الكاميرون، وبعد إصابة أحمد حسن «كوكا»، وإيقاف كهربا، لم يجد كوبر بين لاعبيه سوى عمرو وردة ليلعب في مركز المهاجم. لم يغير المدرب طريقة اللعب للتوافق مع الأسماء المتبقية في قائمته. أصرَّ على التنظيم الدفاعي مع الاعتماد على التمريرات الطويلة إلى وردة وسرعة محمد صلاح.

خسر كوبر عددًا من النهائيات في مسيرته، لكنَّه ما زال عنيدًا يخوض تلك المباريات كأي مباراة أخرى. لا يغريه بريق الكؤوس ليتخلى عن قدر من حذره الدفاعي، ويغامر للفوز باللقب. لاعبو المنتخب أصبحوا نسخة مثالية من ما يريده المدرب الأرجنتيني. خسرت مصر اللقب في الوقت القاتل.

أهداف خسارة مصر نهائي الأمم الإفريقية 2017 أمام الكاميرون

ورغم الهزيمة، فإن البطولة أعلنت عودة مصر إلى ساحة التنافس القاري، لكنَّها عودة بوجه جديد يختلف كليًّا عن ذلك الذي عهدته منتخبات القارة السمراء عبر عقود. وتفسِّر لنا إحصاءات المنتخب خلال البطولة قدرًا من هذا التغيُّر.

فعلى سبيل المثال صنع المنتخب 31 فرصة للتسجيل خلال ست مباريات. بمتوسط خمس فرص في كل مباراة. بينما صنع منافسو مصر 56 فرصة بمتوسط يزيد عن تسع فرص في المباراة الواحدة. وبسبب تكبيل الظهيرين بمهام دفاعية لم يمرر لاعبو المنتخب سوى 47 كرة عرضية خلال البطولة، 12 فقط منها كانت ناجحة، بينما مرر منافسو مصر خلال المباريات الستة 132 تمريرة عرضية كان منها 25 تمريرة ناجحة.

(10)

خسرت مصر أمام تونس في افتتاح تصفيات كأس الأمم في واحدة من أسوأ مباريات المنتخب تحت قيادة كوبر الذي انتقد لاعبيه وتحولهم البطيء من الدفاع إلى الهجوم.

نجح كوبر خلال كأس إفريقيا في تغيير كثير من الثوابت الكروية المصرية. ونجح أيضًا في تكوين قاعدة من المؤيدين لفلسفته التدريبية. اقتنعوا بأن النتائج أهم من الأداء، وأن المنتخب لن يستعيد قوته إلا حين يحقق عددًا من الانتصارات المتتالية دون النظر إلى الكرة الجميلة، أو إلى شخصيته، وغير ذلك من الأمور.

هؤلاء، وليسوا أكثرية على أي حال، راهنوا على المدرب الأرجنتيني في تحقيق حلم الوصول إلى كأس العالم. واستندوا في رهانهم إلى نجاح مصر في اقتناص ست نقاط من أول مباراتين في تصفيات المونديال.

أكثر ما ميز تجربة كوبر خلال أول عامين كان التنظيم والانضباط. المدرب الأرجنتيني أظهر قوة وصرامة أسهما في ظهور المنتخب بشكل شديد الصلابة. اللاعب المصري الذي يعاني، في الأغلب، من قلة التركيز لم يكن كذلك مع كوبر، لكنَّ كل هذا لم يدم طويلًا.

بدأت مصر المرحلة الأصعب في ولاية المدرب الأرجنتيني: ستة أشهر فاصلة تحسم تأهل المنتخب للمونديال، ويبدأ خلالها مشوار التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا 2019.

خسرت مصر أمام تونس (1-0) في افتتاح تصفيات كأس الأمم. وخسر كوبر تنظيمه الدفاعي وصلابته المعهودة في واحدة من أسوأ مباريات المنتخب تحت قيادته. هذه المرة لم يوجِّه كوبر اللوم إلى نفسه فقط، لكنه انتقد لاعبيه بشكل واضح. انتقد تمركزهم داخل الملعب، وتحولهم البطيء من الدفاع إلى الهجوم.

كانت مصر على بُعد شهرين فقط من مباراتي أوغندا في تصفيات المونديال، الفوز بهما يجعل المنتخب على أبواب المونديال. حاول كوبر حسم مباراة الذهاب بالعودة إلى طريقة لعب «4-4-2» التي ضمنت لمصر بعض الوجود الهجومي في منتصف ملعب الخصم، لكنَّه لم يكن فعالًا.

كشفت تلك المباراة أن مصر لم تعد تجيد التعامل مع تلك المنتخبات التي تلعب بطريقة تشبه طريقتها: الدفاع المنظم والاعتماد على المرتدات. حاول ثنائي الهجوم صلاح وكهربا، لكن دون جدوى. ومع كل مرتدة للخصم كانت الثغرات الدفاعية في صفوف الفراعنة تتكشَّف، وبخاصة خلف محمد عبد الشافي الظهير الأيسر. خسرت مصر مباراة سهلة بهدف نظيف. تعرَّض كوبر إلى مزيد من الانتقادات، وبدأت حسابات التأهل تتعقد.

لم يكن أمام المنتخب في مباراة العودة أمام أوغندا إلا الفوز للاقتراب من المونديال والابتعاد عن الحسابات المعقدة للتأهل.

بذر كوبر في لاعبيه بذور التحفظ الكروي. أبدى سعادته حين اقتنعوا بفلسفته وطبقوها، لكنَّه حين طالبهم ببعض التغيير، والضغط على الخصم، وتسجيل الأهداف، لم يستجيبوا بالشكل الكافي. اعتاد اللاعبون في تلك الحقبة أن يسجلوا هدفًا، ثم يبدأ التراجع لحماية المرمى. علَّمهم كوبر الانضباط والتمهل والصبر، وعلَّمهم الخوف أيضًا. في مباراة أوغندا سجلت مصر هدفًا مبكرًا في الدقيقة السادسة، ثم تراجع اللاعبون مخالفين تعليمات كوبر هذه المرة.

بين شوطي المباراة سأل كوبر لاعبيه عن سر تراجعهم، فقالوا إنهم «حاولوا الحفاظ على هدف التقدم». تشرَّب اللاعبون طريقته وتعليماته.

كان في رصيد مصر تسع نقاط. الفوز على الكونغو في مباراة الجولة قبل الأخيرة من التصفيات يضمن لها التأهل مباشرة. بعد 10 دقائق من انطلاق الشوط الثاني اضطر كوبر إلى تغيير خطة اللعب والعودة إلى «4-4-2»، والسر في ذلك كان غياب عبد الله السعيد للإصابة، وظهور بديله صالح جمعة بمستوى سيئ.

تكرر السيناريو المعتاد: هدف في منتصف الشوط الثاني يتلوه تراجع لحماية المرمى مع محاولة شن بعض الهجمات المرتدة على فترات، لكنَّ هذا السيناريو لم يفلح هذه المرة، إذ اهتزت شباك المنتخب في الدقيقة قبل الأخيرة من وقت المباراة الأصلي.

كان المشهد بعد هدف التعادل غريبًا، خلال الدقيقتين التاليتين لم يتقدم المنتخب إلى منتصف ملعب الكونغو لهز الشباك. ظل اللاعبون في أماكنهم. كأن الدفاع بات واجبًا عليهم حتى في مثل تلك اللحظات الحاسمة. قبل نهاية الوقت بدل الضائع بدقيقتين اندفعوا جميعًا إلى الأمام، وحصل المنتخب على ركلة جزاء جاء منها هدف التأهل القاتل الشهير بقدم محمد صلاح. تأهلت مصر للمونديال بعد غياب دام 27 عامًا. نجح كوبر في مهمته الثانية مع الفراعنة.

هدف التأهل إلى كأس العالم بقدم محمد صلاح

بعد التأهل الذي وصفه البعض بـ«القبيح» سرت حالة من التشكك بين كثير من الجماهير حول أداء المنتخب ونتائجه المتوقعة في كأس العالم. ويخوض المنتخب المصري، وكذلك الأندية، المنافسات التي تتجاوز حيز القارة السمراء بمنطق ترويجي يهدف إلى إظهار أجمل وأفضل ما نمتلكه أمام العالم. لسان حالنا يقول: «نحن قادرون على مناطحة الكبار. نملك الموهبة والقوة، ولا نعبأ بالنتائج»، مثل ما حدث عام 2009 في كأس القارات. يذكر الجميع أننا كنا ندًّا قويًّا لمنتخب البرازيل في المباراة الشهيرة التي خسرناها (4-3)، ويذكر أيضًا أننا تفوقنا على إيطاليا بهدف محمد حُمُّص الشهير، لكنَّه يتناسى الهزيمة القاسية أمام المنتخب الأمريكي (3-0) التي تسببت في خروجنا من البطولة.

هذا المنطق أصبح يواجه الآن بحملات تشكيك كثيرة. وهذه واحدة من ثمار تجربة كوبر. تثق الجماهير أن اللاعبين لن يقدموا أداءً جميلًا في مونديال روسيا، لكن يداعب كثيرين شعور أن المنتخب، وبسبب فلسفة مدربه الأرجنتيني، قد ينجح في تجاوز الدور الأول، وبلوغ المراحل الإقصائية، والتحليق بعيدًا.

لم يعد سؤال صديقي «دي والنبي طريقة نتأهل بيها لكأس العالم؟» يشغلني كثيرًا الآن. حلَّت محله أسئلة أخرى أكثر تعقيدًا: كيف سيلعب المنتخب حين يرحل كوبر؟ هل سنتمكن من العودة إلى طريقتنا المفضلة بسهولة؟ هل سيتقبَّل اللاعبون، بعد أن تشربوا كل تلك التعليمات الدفاعية والخوف والتحفظ، أن يعودوا إلى اللعب الجميل الممتع دون النظر إلى النتائج؟ أم أن بصمة المدرب الأرجنتيني ستدوم طويلًا؟

مواضيع مشابهة