هل يمكن تمييز المصريين من ملابسهم؟
هذا الموضوع ضمن هاجس «ما وراء الملابس». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
في الأديان الإبراهيمية، عرف الإنسانُ الأرضَ بالخطيئة، وعرف الملابس ليواري سوءته. بعد ذلك استمر البشر في ارتداء الملابس عادةً، ويبدو أنهم سيواظبون على هذا طيلة حياتهم على الأرض. ومع ذلك، لا تزال بعض مجتمعات الصيد البدائية تختار العيش عارية في الغالب. فإذا كان التعري طبيعيًّا إلى هذا الحد، فمتى تطورت تلك الأقمشة التي نخيطها لتحجب جزءًا من جسدنا، وأصبحت تحمل في طياتها معاني عن ذاك الجسد الذي يرتديها؟
الأزياء التي نرتديها اليوم لا تختزل الهوية الوطنية فقط، بل تمتد إلى التعبير عن الهوية الشخصية والخاصة للفرد والجماعة. فبمجرد خروج الإنسان من الكهف، أخذت الملابس أهمية اجتماعية وفلسفة خاصة.
الآن، هناك كثيرون لا يعرفون أن الملابس كانت في ما مضى مجرد أقمشة لا تحمل طابعًا خاصًّا ولا تعبيرًا عن هوية شخصية أو قومية. صارت لدينا رغبة في التفريق بيننا وبين «الآخَر» عن طريق الارتباط بقبيلة اجتماعية، أو الالتزام بزي يُعبر عن الهوية.
لكن الحماية أو «ستر العورة» ليسا السببين الوحيدين وراء ارتدائنا الملابس، فالزي إعلان عما نحن عليه وما لا نرضى أن نكونه. وما ترتديه في الخارج، يخبر عمَّن أنت في الداخل. وخير دليل أن التركيبة السكانية المتنوعة الحالية التي تحظى بها مصر جعلت للعادات والتقاليد مورثات من ضمنها الأزياء، لكن العيب الذي تميزت به مصر، في نفس الوقت، هو اختفاء الزي العام التقليدي.
المصريون اليوم لا يجتمعون على زي موحد توارثوه كمواطنين على نفس الأرض، ولم يحظوا يومًا بزي تقليدي يجمعهم على السواء، لا يفرق في شكله بين غني وفقير أو شمالي وجنوبي، وربما الاستثناء الوحيد الذي حافظ على ملبسه حتى الآن هو الأزهر.
خليط مصري غير متجانس: «ولكنه ضحكٌ كالبكاء»
تمتلئ ملابس العرائس في واحة سيوة بتفاصيل ذات معانٍ، فتختلف ثياب العذراء عن المتزوجة.
في مصر نرى حالة غير قابلة للتأويل، أوجزها المتنبي فأنجز في التعبير عنها حين قال: «وكم ذا بمصر من المضحكات، ولكنه ضحكٌ كالبُكا».
حين تذهب إلى أقصى الشرق تجد سيناء، الصحراء الكبيرة شديدة الاختلاف عن سواها في تضاريسها الجبلية المأهولة بالسكان، وهناك ترى الزي العربي: مزيج من غُترة الرأس (الشماغ) والثوب الأبيض للرجال، مع نساء أكثر حشمة يختفين وراء العباءات السوداء.
بالتوجه إلى أقصى الغرب، الشمال الغربي تحديدًا، نجد في واحة سيوة سكانًا محليين تعود أصولهم إلى الأمازيغ، وهم أصحاب ملابس زاهية، فيرتدي الرجال ذاك الثوب القصير وتلك الصدرية المنقوشة والطاقية، فيما ترتدي النساء ملابس أبهى، تفصيلاتها متفردة وأكمامها واسعة طويلة.
في سالف الأيام، كانت نساء سيوة يرتدين فساتين مشغولة بالحرير. ويطلق عليها أهل سيوة «تدي أن لحرير». أما الآن، فإنهن يرتدين الفستان الأبيض والبنطلون «اسراولين ان لخواتم»، وهي بنطلونات مشغولة بالحرير، والطرحة «اترقعت»، وكذلك «اشراح ناحواق»، وهو فستان مشغول بالحرير وعليه صدف وأزرار.
هذه الملابس بهذه المسميات ما زالت ترتديها العرائس ما عدا «تدي ان لحرير»، التي حل مكانها الطرحة والفستان الأبيض في ليلة الزفاف. وهي ملابس مليئة بتفاصيل ذات معانٍ، فتختلف ثياب الفتاة العذراء عن تلك المخطوبة عن المتزوجة، ولكلٍّ منهن زي يميزها.
وبالتوجه إلى الجنوب، نجد أن الجلباب الصعيدي يسود مع العمائم، ويتحلى الزي ككل بالقفطان. وبينما ترتدي نساء مدينة إسنا ثيابًا تشبه الجلباب البلدي الطويل المعروف باسم «القفطان»، ترتدي نساء الأقصر «الجِبَّة»، وفي بني سويف والمنيا «الملس»، إلى جانب رداء آخر يأخذ منتصف دائرة ويسمى «شقة». وتُستخدم «البردة» في أسيوط، وتُصنَع يدويًّا من الصوف الأسود، وهناك أيضًا «الحبرة» التي تُصنَع من الحرير أو القطن.
وبالتعمق في الجنوب أكثر، حيث النوبة الأقصى بُعدًا، نجد ثلاث سمات مميزة لتلك البقعة الجغرافية: البشرة السمراء، واللغة الخاصة، والأزياء الفلكلورية.
بالرجوع نحو الدلتا في الشمال، نجد أن مزارعي مصر يتميزون بالجلباب الواسع المائل إلى السُّمرة الخالي من المشغولات، تحته بنطال أبيض. وقد وفر هذا تميزًا للنساء دون الرجال في تلك المنطقة، إذ حوت عباءاتهن كثيرًا من الألوان الفاقعة.
وبالعودة إلى المركز، قاهرة المعز، فلا أزياء سوى تلك البدلة وربطة العنق والقمصان والبنطلونات المستوحاة من الطابع الأوربي الحديث.
قد يهمك أيضًا: عزيزي القارئ: ماذا ترتدي الآن؟
أزياء مصر: عنصرية وتنمُّر
كل وطن يتندَّر أبناؤه ببعض الطرائف عن سكان الأوطان الأخرى ولهجاتهم، إلا أن الملابس في مصر أوجدت سبيلًا جديدًا لشيء من العنصرية.
جلباب القروي في مصر لا يكاد ينجو من تلك النظرات الساخرة، ولا يجد النوبيون أصحاب الثوب الأبيض والبشرة السمراء تمثيلًا في العقل الجمعي للمصريين إلا في صورة حارس عقار أو خادم. وعادة ما تظهر صورة أبناء سيناء عند تمثيلها وتقديمها للناس بمظهر تجار مخدرات أو مهربين عبر الأنفاق الرابطة بين مصر وغزة، فلا يعلم قاطنو قلب مصر عن أطرافها سوى أنها متنفس سياحي لقضاء عطلة.
ماذا تخبرنا الأزياء الآن؟
إذا كانت القومية تعني الانتماء لوطن واحد بتاريخ ولغة مشتركة ومصادر تأثير مثل «الملابس والعادات والتقاليد»، فهل الهوية القومية لمصر ناقصة؟
لمصر محاولات سابقة في خلق علامة ملابس معينة تجمع بين أطيافها، إلا أن القوانين التي وُضِعَت في فترات سابقة لتوحيد الزي سقطت بعد فترة، كالطربوش الذي دخل مصر مع العثمانيين، وكان زيًّا شعبيًّا انتهى بانتهاء العصر الملكي. وكذلك البدلة الشعبية التي اقترحها الرئيس السابق أنور السادات، في محاولة لجعلها زيًّا موحدًا للمصريين، وهي بدلة صيفية خفيفة مصنوعة من الكتان بجيوب كبيرة، انتشرت فترة، ثم اختفت.
يعود ذلك غالبًا إلى أن المصريين أحبوا دائمًا الانتماء إلى من يعملون معه عن طريق التشبه في الأزياء، ويظهر ذلك حديثًا في المصريين الذين انتقلوا للعيش مؤقتًا في بلدان الخليج، ثم عادوا إلى وطنهم محملين بثقافة الثوب.
في الشوارع المزدحمة لوسط العاصمة المصرية، لن ينتاب أحدًا من سكانها شكٌّ في أن ذاك الرجل ذي الطابع البدوي في زيه «الشماغ» ليس سوى أحد زوار مصر القادمين من الخليج، ولن يطمع العقل الباطن في استدراك مصرية ذاك الرجل برغم أنهم أبناء وطن واحد، فالمصريون لا يرون بعضهم.
والحال لا يختلف كثيرًا عن سكان الغرب المصري، الذين سيعتقد من يراهم في القاهرة أنهم قدموا سياحةً من المغرب العربي بالزي التقليدي. ولن يعرِّف أحد الشاب ذا البشرة السوداء القادم من النوبة سوى باعتباره ابن النيل من السودان الشقيق.
إذا كانت اللغة والتاريخ، الذي يظهر في الملابس والتراث، من أهم عناصر وحدة الدولة، وإذا كانت القومية هي انتماء جماعة لوطن واحد، بشرط أن يجمعهم تاريخ مشترك ولغة مشتركة ومصادر تأثير روحي نابعة من الدين والتراث الثقافي، الذي تدخل فيه «الملابس والعادات والتقاليد»، فهل الهوية القومية لمصر ناقصة؟
فيصل محمد