صراع الموت والحياة: الانتحار بوصفه هجومًا لا استسلامًا
إذا كنت تفكر في اﻻنتحار، توجَّه إلى شخص مُقرَّب واطلب منه المساعدة، أو يمكنك زيارة هذا الموقع.
الخير والشر، الحب والكُره، الصداقة والعداوة، مفاهيم نسمع حكايات عنها في الأدب والفلسفة والتاريخ والأديان، حتى أن فيزياء نيوتن تقول بأن التوازن والاستقرار هو في النهاية نتيجة لتساوي قوتين متساويتين في المقدار، متعاكستين في الاتجاه. وقد يشكل هذا التضاد عماد الوجود، استنادًا إلى نظرية «سيغموند فرويد» حول غريزتي الموت والحياة فينا.
نريد الموت بقدر ما نريد الحياة؟
قدم فرويد نظرية الموت في كتابه «ما فوق مبدأ اللذة» عام 1920، متأثرًا بالوضع الإنساني إبَّان الحرب العالمية الأولى، إذ كان معظم الفلاسفة وعلماء النفس يعتقدون أن البشر محفزون للحياة بطبيعتهم الباحثة عن المتعة والهاربة من الألم. لكن فرويد رأى في مرضاه ما لا يفسره هذا المعتقَد، مثل الماسوشية والانتحار والحرب والإيذاء والقتل، فهل هناك شيء في التكوين الإنساني يدفعنا إلى تخطي غريزة البقاء والحفاظ على النفس، وإيذاء أنفسنا والآخرين؟
في سؤاله، وجد فرويد أن كل الغرائز تصنَّف تحت غريزتين اثنتين: الحياة (أيروس)، والموت (ثاناتوس).
1. غريزة الحياة
أسمى فرويد غريزة الحياة اشتقاقًا من «أيروس»، التي تعني «الحب» في الإغريقية. بل إن أيروس في الميثولوجيا الإغريقية هو إله الحب، ويعتبر أصل الخلق أحيانًا. وتسمى الهالة أو الطاقة الناتجة عن غريزة الحياة «ليبيدو»، إشارةً أحيانًا إلى الغرائز الجنسية.
لنتجنب تدمير أنفسنا إذعانًا لغريزة الموت، نوظف غريزة الحياة لتواجهها، وحين نفشل في ذلك، تدفعنا غريزة الموت نحو الانتحار.
2. غريزة الموت
هي ما وصفها فريود للمرة الأولى في كتابه بالإشارة إلى وجود نزعة غير مدرَكة فينا للموت، وأنه طالما كان عمل نزعة الموت قاصرًا على السَّريرة فهي تظل صامتة، ونحن نفطن إليها حينما تتجه إلى الخارج وتصبح رغبة تدميرية.
يرى فرويد أن لغز الحياة يكمُن في الصراع بين الغريزتين، وتطور الحضارة يكمن بين الرغبة في التدمير والرغبة في الازدهار. أو بتعبير الفيلسوف «إبيقور»: «الموت في فلسفته حدث واقعي ماثل في صميم الحياة منذ البداية، واقعة مستمرة لا تكاد تنفصل عن فعل الوجود نفسه».
قد يهمك أيضًا: 7 حوادث اختار فيها البشر الانتحار جماعيًّا
قد تلخص نظرية «فريدريك نيتشه» عن «العَوْد الأبدي» نظرته الفريدة إلى ثنائية الحياة والموت: «كل شيء يمضي، كل شيء يعود، وتدور إلى الأبد عجلة الوجود. كل شيء يموت، كل شيء يتفتح من جديد، وخالدًا يمضي زمن الوجود». كل شيء سيعود مرةً أخرى، وكل ما حدث سيحدث مرةً أخرى، لا بداية ولا نهاية.
الانتحار ليس استسلامًا
يقول فرويد إننا، كي نتجنب تدمير أنفسنا إذعانًا لغريزة الموت، نوظف غريزة الحياة لتواجهها بنفس القوة، فتدفعها خارج أنفسنا مولدةً الغرائز العنيفة والعدوانية فينا، وحين نفشل في ذلك، تدفعنا غريزة الموت نحو الانتحار.
قدمت الشاعرة والكاتبة اللبنانية جمانة حداد في كتابها «سيجيئ الموت وستكون له عيناك»: أنطولوجيا تعبر عن تأملاتها الشخصية في الموت والانتحار من خلال 150 شاعرًا انتحروا في القرن العشرين.
صورت حداد الأمر بطريقة شاعرية ربما: «أنا أموت إذًا أنا موجود»، «حرٌّ هو كل من يمكنه أن يختار الكفَّ عن العيش»، «نعم! مئة وخمسون، في القرن العشرين، انتحروا.. احتقروا.. هذه الحياة الانتحارية. مئة وخمسون بطلًا وبطلة ازدروا العروش كلها، الباطلة منها وغير الباطلة، وارتموا في الهاوية». ذاكرة قصص انتحار 150 شاعرًا وفنانًا من مختلف الجنسيات العربية والغربية، منهم الأمريكية «سيلفيا بلاث»، والإيطالية «أنطونيا بوتسي»، والجزائرية صفية كتو، وغيرهم.
اقرأ أيضًا: تجربة شخصية: أستطيع أن أفهم انتحار «فيرجينيا وولف»
أحد المنتحرين المذكورين في الكتاب، الشاعر عبد الباسط الصوفي، الذي انتحر بشنق نفسه في أحد المستشفيات إثر إصابته بانهيار عصبي مسبوق بعدة محاولات انتحار. تصف حداد قصائده بأنها تبين حساسيةً رومانسيةً مفرطةً وتجربةً وجوديةً عميقة، والمقطع من قصيدة «طريق» ربما يعطي لمحة عن نظرته إلى الموت:
رجفة بين حنايا القبر، فلْأرسل صلاتي
ولأسْرِ، كالحلم الغارب، ولْأطْوِ حياتي
عبثًا أنظر في الأعماق لا أبصر شيًّا
والمدى الشاحب، ما مات رؤىً في مقلتيَّا
هكذا أمضي مع الدهر ولا أشكو المضيَّا
أتخطى الزمن الموغل إيقاعًا خفيَّا
أنا لا شيء، ولا شيء وجود الكون فيَّا
عبد الرحيم أبو ذكرى شاعر آخر ذكرته جمانة حداد في كتابها، انتحر برمي نفسه من قمة مبنى أكاديمية العلوم السوفييتية في موسكو، بعدما أحرق معظم قصائده وأعماله.
عُرف أبو ذكرى في أوساطه بأنه كان طموحًا، ودائمًا ما يردد: «أشعر بأن لي مكانًا في الحياة ينتظرني، وأن هذا المكان لن يملأه أحد غيري في الشعر والترجمة»، لكنه عانى سلسلة انهيارات عصبية وحالات اكتئاب متكررة، وربما كان هذا المقطع من قصيدته «الرُّسُو في كوكب الظلام» بمثابة تنويه لمغادرته:
أصغِ! تدق خطوات آخر الزمان
يا زمن الملوك والأباطرة
يا زمن العواهر المراهقات
يا زمن المساومات
إن كان هذا عصرنا فإنني أهجم في ضراوة عليه
وإنني (من بعد إذنكم)
أبول فوقه وأزدريه
في حديث جمانة حداد عن تفسير فعل الانتحار تقول: «لا، ليس الانتحار امِّحَاءً في الضرورة، ليس تنازلًا، ليس استسلامًا ليس انحدارًا، ليس تراجعًا ليس غيابًا ولا هزيمة، بل هو غالبًا هجوم إلى الأمام». ووفقًا لفرويد وللمحللة النفسية «ميلاني كلاين»، هو فعلًا كذلك.
هل نحن مبرمَجون على الكراهية؟
ارتكزت أبحاث كلاين إلى دراسة التكوين السيكولوجي للأطفال، معتمدةً بشكل أساسي على مبدأ فرويد للثنائية الغرائزية (غريزتا الحياة والموت)، يعني أنها تنادي بأسبقية الصراعات الداخلية على صراعات المحيط أو التكيف، هذا ما ترجع إليه الصراعات الداخلية للطفل منذ الولادة.
يرتبط هرمون الأوكسيتوسين بالمشاعر الإيجابية، لكن بعض التجارب أثبتت أن بخَّة منه في الأنف تدفع التحيزات الدفينة فينا إلى الظهور.
انطلاقًا من الاعتقاد بوجود ثنائية غريزية مبكرة ونُضج مبكر، يمكننا أن نحلل ونتفهم رأي كلاين في كتابها «التحليل النفسي للأطفال»، إذ تذكر آليات ذهنية خاصة تبدأ عملها حتى يتشكل الجهاز النفسي، وهي الالتحام و الإسقاط، فكل التجارب الأولى، خصوصًا الفسيولوجية مثل عملية التغذية (الرضاعة)، تؤدي إلى تنظيم وتفعيل العمليات العقلية كتجارب الرضا والمكافأة، مرتبطةً بغريزة الحياة، وعليه، تلتحم داخل الطفل عاطفة الوجدان المرتبط بالموضوع الجيد الذي يكون قاعدة للأنا.
أما التجارب السيئة غير المرضية مثل تأخير رضعة الرضيع مثلًا، فهي مرتبطة بغريزة الموت، ويترجمها الرضيع كخطر ويُسقطها أو يوجهها نحو الخارج، على شكل بكاء أو أي صورة من صور العنف.
اقرأ أيضًا: 6 أسباب يشرحها مختص نفسي قد تدفع الناس للانتحار
تعتقد كلاين أننا، حتى وإن استطعنا توجيه قوة غريزة الموت خارج ذواتنا، نظل نستشعر خطر التدمير الذاتي هذا من خلال هذه الغريزة العدوانية، وأن دفع غريزة الحياة في وجه غريزة الموت مهمة شاقة فعلًا، العيش بهاتين القوتين المتضادتين صراع نفسي موروث ومحوري في التجربة الإنسانية، وهذا التوتر النفسي بين النزعتين الكامنتين في طبيعتنا، الحياة والموت، هو بذرة كل المعاناة.
نحن مجبولون بيولوجيًّا على تقسيم الأرض والشعوب إلى «نحن» و«هُم»، وهذا الكره والبغض والإقصاء غريزي فعلًا.
يرتبط هرمون الأوكسيتوسين بالمشاعر الإيجابية، فيعمل على خلق مشاعر التعاطف في أدمغتنا، ويسمى أحيانًا «هرمون العناق»، إذ يطرأ في الحديث عن مشاعر الحب بين عاشقين، أو مشاعر الرابطة الفريدة بين أم ورضيعها، لكن تجربة أجراها «كارستن دو درو» من جامعة أمستردام وجدت أن بخَّة في الأنف من هذا الهرمون تدفع التحيزات الدفينة فينا إلى الظهور.
جاء دو درو بمجموعة من المتطوعين الأيرلنديين وعرض عليهم مسألة العَرَبة الفلسفية الكلاسيكية: تخيل أنك تمشي على مقربة من سكة حديد، ثم تلاحظ خمسة أشخاص مقيدين على التوالي على السكة، وإذ بعربة خارجة عن السيطرة متجهة نحوهم، وأمامك رافعة لتغيير المسارات، إذا رفعتها ستنقذ الخمسة أشخاص وتوجه العربة نحو سكة أخرى، لكن السكة الأخرى مقيد فيها شخص واحد، فهل تقتل الواحد، أم تقتل الخمسة؟
اختار المتطوعون إنقاذ الخمسة كما هو متوقع، ثم أعطاهم دو درو أسماء الشخصيات المقيدة من مختلف الأعراق والجنسيات، اسم مسلم مثلًا وآخر ألماني وهلم جرا، وبخَّة من محلول لا يحتوي على أوكسيتوسين، فلم تتغير النتيجة.
لكن حين استنشق المتطوعون المحلول الذي يحتوي على أوكسيتوسين تغيرت توجهاتهم تمامًا وبشكل ملحوظ: زادت احتمالية تضحيتهم بمسلم أو ألماني مغاير عنهم، وقلت احتمالية تضحيتهم بشخص أيرلندي، وظهرت الانحيازية والعدوانية الدفينة داخلهم.
يعني هذا أننا مجبولون بيولوجيًّا على تقسيم الأرض والشعوب إلى «نحن» و«هُم»، وأن هذا الكره أو البغض أو الإقصاء غريزي فعلًا، الحب والكره كلاهما غريزيَّان فينا.
السعادة: تحمُّل الصراع
الصراع المستميت بين الغريزتين يولِّد ارتباكًا في عقولنا وفقًا لكلاين، غضب أو مشاعر سلبية تولِّد دوافع ونزعات بدائية أوَّلية، لا نتخلص منها أبدًا، بل نحملها داخلنا طيلة حياتنا دون أن نبلُغ مرحلة آمنة أو ناضجة تمامًا، فنعيش بـ«لاوعي» مشبَّع بمشاعر بدائية عنيفة.
تعتقد كلاين أن السعادة بمفهومها التقليدي الحالم مستحيلة المنال، وأن الحياة تدور حول إيجاد طريقة نتحمل بها هذا الصراع، ونوازن بها كفة النزعتين لصالح نزعة الحياة والنمو والازدهار.
قد يهمك أيضًا: في اليابان.. نُفضِّل أن ننتحر معًا
يقدم الكاتب والفيلسوف «فين جانينغ» في مقاله «الميتة السعيدة لجيل دولوز» ربطًا بين أعمال «جيل دولوز»، الفيلسوف والناقد الأدبي والسينمائي، وانتحاره عام 1995، مستندًا إلى السؤال المفتاحي الذي طرحه الفيلسوف الوجودي «ألبير كامو» في «أسطورة سيزيف»: هنالك مشكلة فلسفية مهمة ووحيدة، هي الانتحار. فالحكم بأن الحياة تستحق أن تعاش يسمو إلى منزلة الجواب على السؤال الأساسي في الفلسفة.
من أجل أن نعيش حياةً أفضل، علينا أن نحمل إحساسًا عميقًا بالموت.
يقتبس جانينغ تعبير دولوز في كتاب «ما هي الفلسفة؟»: «كان جرحي موجودًا قبلي، وُلدت لأجسِّده». ثم يقول، قياسًا عليه، إن موت دولوز كان موجودًا قبله، وإنه وُلد ليجسَّده: «دولوز لم ينتحر لأن حياته فقدت معناها، أو جرَّاء صدمة نفسية، بل لأن حياته كانت قد انتهت مسبقًا».
إذا كانت الحياة هي ثمرة رغبتنا في فعل شيء ما، في صنع شيء ما، لكن تلك الرغبة لا تكاد تجد طريقة لتحقق نفسها بها، فإننا لا نموت حينها وحسب، بل نكون قد متنا مسبقًا. أن تستعمل قدراتك كلها، وتستنفد كل طاقتك الإبداعية، وتقدم كل ما في وسعك، ثم تموت بسلام وسكينة، كما سمَّم سقراط نفسه، فهذا بالنسبة إلى جانينغ تعريف الميتة السعيدة، وهي الميتة التي اختار دولوز أن يموتها.
يخبرنا «أدونيس» أن «الحياة امرأة حُبلى بالموت دومًا، ومن لا يشعر في سريرته بالموت لا يمكنه أن يشعر بالحياة، فمِن أجل أن نعيش حياة أفضل علينا أن نحمل إحساسًا عميقًا بالموت. إذا كانت هناك حالة لا يعود الموت والحياة فيها متناقضين، فهي نشوة الوصال العشقي، والإبداع أيضًا فعل من أفعال الحب، لا يعود الموت والحياة فيه على طرفي نقيض»، والمجاز في تعبير «نشوة الوصال العشقي» يسَعُ كل معنًى ممكن.
نهى الرومي