مدخل إلى فلسفة العقل.. هذا إذا كان موجودًا أصلًا
تحتل فلسفة العقل الآن مكانة «الفلسفة الأولى»، أي الفرع الفلسفي الذي يسبق منطقيًّا ويؤسس كل ما عداه من فروع الفلسفة. قديمًا كانت الميتافيزيقا تحتل هذه المكانة، لفترة بلغت قرابة خمسة وعشرين قرنًا من الزمان. لكن فلسفة العقل، وهي واحدة من الفروع الحديثة في الفلسفة، استطاعت شغل هذا الحيز من الأهمية في السبعين عامًا الماضية فقط.
الأسئلة بخصوص العقل عمومًا من أصعب الأسئلة الفلسفية، وهي كذلك أسئلة معقدة بالنسبة إلى العلوم الحديثة، كالعلوم الإدراكية وعلوم الأعصاب والحاسب الآلي والذكاء الاصطناعي واللسانيات وعلم النفس بفروعه المختلفة.
يؤرخ أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، صلاح إسماعيل، بداية فلسفة العقل كميدان فلسفي مستقل له موضوعاته وأسئلته النوعية وأبحاثه الخاصة، بداية من نشر كتاب «مفهوم العقل» لـ«غيلبرت رايل»، وكتاب «البحوث الفلسفية» لـ«فيتغنشتاين»، لتتوالى بعد هذين العملَيْن الرائدين أوراق بحثية ودراسات تتناول موضوع العقل على طريقة البحث الفلسفي.
في النصف الثاني من القرن العشرين، تبلور عدد من النظريات الفلسفية والاتجاهات التي استفادت من العلوم الإدراكية، والتي ترى العقل من عدة جهات، فحاولت كل واحدة من هذه النظريات حل مشكلات العقل وألغازه بطرقها الخاصة، واختلفت في ما بينها في مسائل فهم ماهية العقل وتكوينه، والطريقة التي يعمل العقل بواسطتها ليتمثل الأشياء ويعرفها، وطبيعة الوعي والحالات العقلية.
ربما تكون أول أسئلة فلسفة العقل، والتي قد تبدو غريبة نوعًا ما كغالبية الأسئلة الفلسفية، هو سؤال: هل هناك وجود فعلي أساسًا لما نسميه نحن بالعقل؟ وهل هو شيء؟ أم فاعلية؟ وإذا كان العقل كما نعرفه موجودًا، فما العلاقة بينه وبين باقي أعضاء الجسم، كالحواس والجهاز الحركي؟ وهل يوجد تمايز بين العقل والمخ؟
تُولي فلسفة العقل كذلك اهتمامًا لموضوعات وأسئلة أخرى، كالعلاقة والاختلاف بين العقل الحي والذكاء الاصطناعي، وهل يمكن اعتبار العقل برنامجًا لجهاز يشبه الحاسب الآلي، هو المخ؟
«العفريت في الآلة»: نقد «غيلبرت رايل» لثنائية «ديكارت»
إذا كان مشروع فلسفة العقل قد بدأ حديثًا مع غيلبرت رايل، فإن هذا الأخير قد بدأ فلسفته تحديدًا من نقده لأفكار ديكارت بشأن العقل، وهي الأفكار التي تشبه كثيرًا الموقف الطبيعي للإنسان العادي. إذا سألت رجل الشارع عما يعتقده بخصوص العقل، وما إذا كان متمايزًا عن باقي أعضاء الجسد، سيخبرك بأن عقله يختلف عن جسمه، وهو الموقف نفسه الذي صاغه ديكارت بصورة فلسفية منظمة.
يُعرف هذا الموقف في الفلسفة بموقف «الحس العام» (Common sense)، إذ يدرك الناس وفقًا لهذا الموقف الأشياء إدراكًا عاديًا أو بدهيًّا، تعتقد فيه الغالبية العظمى من الناس. ولا شك أن جميعنا نميز في حياتنا اليومية بين عقلنا وجسمنا، أي ما هو عقلي وما هو مادي، ونميز كذلك بين أنفسنا من ناحية، كأناس عاقلين مستقلين، ومن ناحية أخرى كل شيء آخر عدانا، سواءً كان ماديًّا أو غير مادي.
يتكون الإنسان إذًا، وفق هذه الرؤية، من عقل وجسد. أي إن الإنسان يتكون من ثنائية تنحل إلى طبيعة مادية هي الجسد، وطبيعة غير مادية هي العقل. لكن طرفي هذه الثنائية جواهر قائمة بذاتها، أي إن العقل والمادة من طبيعتين مختلفتين جوهريًّا، لا يمكن اختزال الواحد منهما إلى الآخر.
إذا نفى غيلبرت رايل عن العقل أنه جوهر، فهل يعني هذا أن العقل غير موجود، أي باعتباره شيئًا واقعيًّا؟ وفي هذه الحالة ما هو العقل إذًا؟
من هذه النقطة بالذات يبدأ نقد رايل لثنائية ديكارت. فإذا كان كل من العقل والمادة جوهرين مختلفين، كيف يمكن تفسير التفاعل بينهما، وكيف يؤثر كل منهما في الآخر؟ هنا تظهر مشكلة الثنائية الديكارتية بوضوح، إذ يعجز ديكارت تمامًا عن تبرير الروابط السببية بين الجوهرين. فلدينا من ناحية عقل غير مادي، يوجد خارج الزمان والمكان، أبدي ومستقل عن الطبيعة، ومن جهة أخرى لدينا الجسم، الذي هو امتداد مادي في الزمان والمكان يخضع للحركة والتغير، فكيف يمكن للمتغير أن يؤثر في الدائم؟ وكيف يؤثر الأبدي في المتحرك؟ هنا يقف الحس العام حائرًا، ولا يقدم ديكارت ومن تابَعوه، أي إجابة مُرضية.
قد يعجبك أيضًا: هل يمكن لدماغ الإنسان تجاوز المستحيل؟
بالنسبة إلى غيلبرت رايل، يكمن خطأ ديكارت في إدراجه العقل مع الجسم باعتبارهما «جواهر»، وهو الخطأ الذي يسميه رايل «خطأ المقولة»، أي إدراج مفهومين في مقولة واحدة خطأ، هي هنا مقولة الجوهر.
خطأ المقولة هو الزلة التي يقع فيها مفكر مثل ديكارت عندما يختلط عليه الأمر، فيصنف فئة من المفاهيم غير الواضحة أو المدروسة بعناية، داخل فئة أو مقولة من المقولات، وهي لا تنتمي في الحقيقة إليها. ما فعله ديكارت أنه صنَّف فئتين من الأشياء، هما العقل والجسم، وهذا أساس الثنائية الديكارتية، لكنه ارتكب خطأ المقولة بتصنيفه العقل من نفس مقولة الجسم، أي جوهرًا. وهكذا ذهب ديكارت إلى القول إن العقل جوهر لا مادي منفصل عن الجسم، لكنه متصل به في الوقت نفسه اتصالًا وثيقًا، تجمعهما علاقة غريبة، ومَيَّزه بخصائص غير مادية، وتبدو كما لو كانت خارقة.
يصف رايل الخطأ الديكارتي بعقيدة «العفريت في الآلة» (Ghost in the machine)، وكأن الجسم آلة فيزيائية مادية، متصلة بجوهر من طبيعة أخرى، تتحكم فيها، هي العقل. لكن إذا نفى رايل عن العقل أنه جوهر، فهل يعني هذا أن العقل غير موجود، أي باعتباره شيئًا واقعيًّا؟ وفي هذه الحالة ما هو العقل إذًا؟
مفهوم رايل عن العقل: ليس شيئًا
كان أول أسئلة فلسفة العقل هو «هل يوجد عقل؟» ومن هنا تفرعت الإجابات والنظريات. كانت إجابة الثنائية الديكارتية بالإيجاب، لما رأت العقل جوهرًا موازيًا ومكافئًا للجسم، موجودان بصورة منفصلة لكن مرتبطان بعلاقة غير واضحة. رد رايل على هذه الثنائية كان نظريته المعروفة باسم «السلوكية اللغوية».
ظهرت السلوكية لأول مرة كتيار منهجي في علم النفس، كان يسعى لجعل البحث في مشكلات علم النفس أكثر تجريبية، فزعمت السلوكية أن الحالات العقلية لا يجب أن تُدرس في ذاتها، كما لو كانت أشياء باطنية تنتمي إلى داخل الإنسان، لكنها يجب أن تُختزل إلى السلوك الذي يمكن ملاحظته تجريبيًّا. فالسلوك الظاهر للعيان لا «يشير» إلى حالة عقلية باطنية أو يدل عليها، وإنما هو نفسه هذه الحالة العقلية، التي ليس لها أي محتوى أكثر من أنها سلوك خارجي.
رأت السلوكية أن الحالات العقلية الباطنية المزعومة ليست متاحة للدرس العلمي، ومن ثمَّ، ليست موضوعًا للمعرفة. فحالات مثل الخوف أو السعادة في التحليل الأخير، ليست أكثر من السلوك المرتبط بالخوف أو السعادة، وليست موضوعات وجدانية داخلية تُعرف بالاستبطان، وهو من مناهج علم النفس التقليدية.
بنفس الطريقة، تعاملت سلوكية رايل اللغوية مع العقل لا باعتباره شيئًا، بل باعتباره اسمًا نطلقه على مجموعة واسعة من العمليات والحالات السلوكية، أي اسم كلي يجمع فئة ضخمة من السلوكيات، لكنه ليس «شيئًا».
أما عن أن سلوكية رايل «لغوية»، فيعني هذا أن جميع المفاهيم والحالات العقلية، بل والعقل نفسه، يمكن ترجمتهم إلى عبارات لغوية عن سلوك أو استعداد لسلوك تحت ظروف معينة. فمثلًا إحساسك الباطني أو رغبتك الداخلية في متابعة مقال عن فلسفة العقل بغرض الفضول وحب المعرفة، يمكن ترجمته إلى عبارات لغوية عن سلوكك المرتبط بهذه «الأحاسيس» غير القابلة للدراسة، وهذا السلوك يتمثل في توقفك عند المقال عند رؤيته، وإعطاء وقت أكثر قليلًا لقراءة عنوانه، وأخيرًا قراءته الفعلية.
لم يفسح نقد رايل للثنائية الديكارتية المجال لهيمنة وجهة نظره الخاصة في المسألة، أي نظرية السلوكية اللغوية، لكن هذا النقد مع ذلك قد مهد الطريق أمام الفلاسفة ووسع آفاقهم لتجاوز الديكارتية بطرق مختلفة، وإنتاج رؤى وتصورات جديدة عن العقل لا تعتمد على الثنائية التقليدية.
مع ذلك، ستعود الثنائية جديدًا في ثوب معاصر، بعد أن تكون قد نقحت نفسها وردت على منتقديها.
قد يهمك أيضًا: كيف تطور الوعي البشري عبر التاريخ؟
عودة الثنائية إلى فلسفة العقل
إذا كانت الثنائية عمومًا نزعة تميز بين الحالات العقلية والحالات الفيزيائية، باعتبارهما من طبيعة مختلفة، في مقابل النظريات الواحدية التي تحاول رد وجود الإنسان إلى طبيعة جوهرية واحدة، سواء كانت تلك الطبيعة عقلية، كما في الفلسفات المثالية، أو فيزيائية كما في الفلسفات المادية، فقد عادت الثنائية حديثًا إلى ميدان الفلسفة، لكن بصورة جديدة: أي «ثنائية الخواص» (Property dualism)، وهي نزعة دافع عنها فلاسفة معاصرون، مثل «فرانك جاكسون» و«ديفيد تشالمرز».
ترى ثنائية الخواص أن البشر من جوهر واحد، هو الجوهر المادي. لكن لهذا الجوهر، إضافة إلى خواصه الفيزيائية، خواص عقلية. وهكذا، إذا كانت الثنائية الديكارتية تقسم العالم إلى جوهرين، وهي النظرية التي لقيت نقدًا عنيفًا من رايل وتابعيه، فإن الثنائية المعاصرة تتحايل على هذا النقد بأن تزعم أن العالم مكون من جوهر واحد له نوعان من الخصائص. بهذه الطريقة استطاعت ثنائية الخواص حل مشكلة العلاقة بين الجسم والعقل، لأنها ردتهما في النهاية إلى طبيعة واحدة، فالحالات العقلية تنبثق كخصائص للطبيعة المادية، لكنها ليست جوهرًا نقيضًا.
تقف الثنائيتان، أي الديكارتية القديمة وثنائية الخواص المعاصرة، موقفًا معارضًا للنزعة الواحدية المميزة لمذهب «الفيزيكالية الردية» (Reductive Physicalism)، وهو المذهب الذي يختزل العمليات العقلية والوعي في الجوهر المادي الفيزيائي، أي تكوين المخ البيولوجي، ما يجعل المخ مرادفًا للعقل، لا أكثر من ذلك. بالنسبة إلى الثنائية الديكارتية كان العقل من طبيعة مغايرة كليًّا للمادة، وبالنسبة إلى ثنائية الخواص، فإن العقل رغم كونه خاصية للمادة عندما تبلغ درجة معينة من التعقيد، فإنها تتميز عن خصائصها الأخرى نوعيًّا كذلك.
وراء هذا التمسك بالثنائية، يقف إدراك الفلاسفة لواقع أن الحالات العقلية «تبدو» مختلفة جذريًّا عن تفسيراتها المادية. فالألوان مثلًا لا تشبه بأي صورة تفسيرها الذي يعتمد على الأطوال الموجية للضوء، ولا علاقة واضحة تربط اللون الأحمر كما أراه أمامي في ثمرة فاكهة، وبين رقم 680 نانومتر الذي يساوي الطول الموجي للأشعة ذات اللون الأحمر.
حاول «فرانك جاكسون» الدفاع عن الثنائية انطلاقًا من هذا الانعدام بالذات لأي إمكانية للترجمة، وقدم لهذا الغرض تجربته الفكرية الشهيرة «حجرة ماري»، التي تهدف إلى صياغة مشكلة معروفة في فلسفة العقل باسم «مشكلة الكواليا»، إذ تشير كلمة كواليا إلى الطبائع المميزة المحسوسة للأشياء كما يختبرها الإنسان مباشرة، لا كما نعبر عنها فيزيائيًّا.
وفقًا لهذه التجربة، تعيش ماري، وهي فتاة ذكية، في غرفة تتكون فقط من تنويعات على اللون الرمادي، أي غرفة بالأبيض والأسود. يفترض جاكسون أنها أخذت في تعلُّم كل شيء عن فيزياء الضوء من الكتب والمراجع العلمية في مكتبتها، مع أن هذا كله أيضًا بالأبيض والأسود فقط، فأصبحت عالمة متخصصة في الفيزيولوجيا العصبية وفيزياء الألوان.
استطاعت ماري تعلم كل شيء يمكن تعلمه حول الضوء والبصريات، وكيف يؤثر الضوء والألوان في الجهاز العصبي والأجزاء الداخلية من المخ. لكنها لم تر أي من هذه الألوان التي تدرس أسماءها من قبل. السؤال الذي يطرحه جاكسون للبرهنة على وجهة نظره هو: عندما تخرج ماري من غرفتها، فترى الألوان لأول مرة، هل ستعرف شيئا جديدًا أم لا؟
بالنسبة إلى جاكسون، الإجابة بـ«نعم» قاطعة، ستعرف ماري اللون الأحمر والأخضر والأصفر لأول مرة. لكن هذا يعني بالضرورة أن الخبرة بهذه الألوان (الكواليا) معرفة مستقلة عن الخبرة بأساسها الفيزيائي، ما يعني أنها وقائع مستقلة كذلك، ما يؤيد وجهة نظره الثنائية من الحالات العقلية. يبدو أن اختبار اللون غير معرفة كل شيء يخص فيزياءه. فمعرفة كل الوقائع الفيزيائية عن اللون الأحمر والطريقة التي يؤثر بها في شبكية العين، دون معرفة ما هو، وماذا يعني حقًّا اللون الأحمر، أي كما يتبدى للخبرة المباشرة، تظل معرفة ناقصة.
لا يمكن إذًا، رد الحالات العقلية الإدراكية إلى وقائع فيزيائية في رأي فرانك، بما أن رؤية اللون تختلف عن التعلم عنه، وتؤدي إلى معرفة مغايرة.
تشكل «الكواليا» أكبر مشكلات فلسفة العقل المعاصرة حاليًّا، إذ تمثل إحساس الإنسان وإدراكه الخاص التي لا يشاركه فيه أي شخص آخر. وإذا كان بإمكان أي طبيب يعمل بأشعة الرنين المغناطيسي أن يدرس تراكيب مخك بالكامل، ربما يأخذ من مخك نسخة مخططات ويطبعها طباعة ثلاثية الأبعاد ليستنسخه بالضبط كما هو، لكنه سيظل عاجزًا مع ذلك عن استنساخ خبرتك الذاتية كما تظهر في صورتها الخام.
تستمر فلسفة العقل في تناول هذه الأسئلة ومثيلاتها، مستفيدة من التطورات الجارية في العلوم الإدراكية وعلوم الأعصاب، ومضيفة إليها هذا النوع من التجارب الفكرية والحجج الدقيقة التي يسعى الفلاسفة من خلالها إلى توضيح المفاهيم أو الدفاع عن مواقف بعينها أو الهجوم على مواقف أخرى.
فادي حنا