وحي المعركة: أدباء سوريون يحكون تجربتهم
هذا الموضوع ضمن هاجس شهر ديسمبر «كيف تشكِّلنا الحرب؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
تضج الحروب بالحكايات المؤلمة، تلك التي تصنعها الرصاصات والقذائف وقطرات الدماء والدموع على أجساد أصحابها، راسمةً عذابات الحرب، التي تخترق التاريخ والجغرافيا لتصبح قصصًا تَعبُر بقاع العالم، لتروي ما عانته الشعوب التي عانت الحرب.
لكننا حين نقف على عتبة النص الأدبي الذي ينشأ في الحرب، نتحيّر في اختيار كلماتنا التي تصفه، حين نجد أنفسنا أمام نص إبداعي نشأ من آلام الموت، وتشكّل تحت وطأة الصراعات القائمة فيها، متحيزًا إلى هذا الطرف أو ذاك، راسمًا معالم جديدة من الواقعية القائمة على حكايات الحرب، مؤسسًا لنوع مختلف من الأدب ينطوي على تلك الحالة المأساوية بكافة تفاصيلها، جاعلًا من حكاياتها منطلقًا لكامل الحكايات التي يصنعها.
يصير التساؤل مشروعًا عن ماهية الكتابة في الحرب وحصيلة الأدب منها، مقابل حصيلة الألم الذي يجد كُتابه ضرورة في تأريخه، ليبقى راسخًا في ضمير الشعوب التي عانت ويلات المعارك، ويصبح رسالة مستقبلية عن ضرورة السلام الذي تنشده الطبيعة البشرية.
الأدب: تعرية وحشية الإنسان في الحرب
أكثر ما يميز أدب الحرب أنه صادق، ينتمي إلى النقطة الأطهر في قلب الكاتب وخيالاته. وظيفة أي كاتب هي الوقوف في وجه الحرب بتناول حياة المهمشين.
يعتقد الشاعر السوري وفائي ليلا، صاحب كتاب «اسمي أربعة أرقام»، أن الحرب تضعنا وجهًا لوجه مع الموت، مسقطةً أي اعتبارات أخرى، فنواجه آلة القتل بشكل مباشر، وهنا يكون دور الأدب تعرية ضعف الإنسان وقدرته على الوحش الكامن فيه، حين لا تكون هناك قيمٌ تَردع ولا رحمة تمثِّل طوق نجاة من البربرية التي تولدها الحرب.
من هنا تنشأ مهمة الأدب في رسم وقائع الحرب، بحسب الأديب السوري، الذي يوضح لـ«منشور» أن الحرب ترسمنا أمام أنفسنا، تختبر جدوى كل ما كنا نظنه أفضل وأكثر نُبلًا، خصوصًا ضمائرنا، التي تقع أمام امتحان صعب من ناحية الصمت عن كل القتل والإذلال اللذين يعيشهما الإنسان المثقف، ويصبح معه الأدب محاولة لتضميد هذا الجرح الذي يصيب ضميره.
يؤكد ليلا، الذي كتب عديدًا من مجموعاته الشعرية خلال الحرب السورية، أن الحرب درس يجب أن يُستعاد طويلًا في ما لو انتهت، وهي المكان الطبيعي والوحيد الذي يَحسُن الإنصات إليه، وزرع خلايا لتعويض النقص الفادح بالمحبة وقِيم الجمال والحرية، فضلًا عن كشف هول الفاجعة، وبالتالي فإن الكتابة في الحرب تصبح للتوثيق والصراخ، وأداة وحيدة للحرية، وإحدى أكثر الوسائل فعاليةً وجدوى، إذ لا شيء يهزم الحرب سوى صوت العقل.
قد يهمك أيضًا: هكذا قُتل الوعي تحت حكم الأسد
الأديب كموثِّق صادق للحرب
الأدب في الحرب هو تسجيل إنساني للفجائع والقسوة والآلام في سبيل تقديس الحياة.
يعتقد الكاتب السوري عبد الله مكسور، الذي كتب روايات عاينت الثورة والحرب الأخيرة في سوريا، مثل «أيام في بابا عمرو» و«عائد إلى حلب» و«طريق الآلام»، أن الكتابة في الحرب عملية توثيق لا تستند إلى أدوات التاريخ، فهذا الأدب هو حكايات الذين سيمُرُّ عليهم التاريخ بالأرقام دون التوقف عند تفاصيل ما حدث معهم.
الكتابة، بحسب ما يحكيه مكسور لـ«منشور»، تعني اعتمادًا تامًّا على أدوات الصحافة، باعتبار أن «العمل الروائي هو تقرير مطوّل أو بحث استقصائي يُعرض من جوانب مختلفة كما أراه».
بالتالي فإن القصص أو الرؤية التي يقدمها كاتب ما لجولات الحرب الدائرة هي محاولة تأريخية ذاتية تروي ما حصل مع الشخصيات التي يقدمها في العمل، تنطلق من الأسباب إلى النتائج، مرورًا ببناء يضمن الانسجام التام بين البدايات والنهايات.
«لا أرى أن الأديب الذي كتب عن هذه المرحلة أو ما يشابهها من مراحل سابقة، سواء على الأرض العربية أو أراضٍ أخرى، قد تم جَرُّه إلى المعركة ليكون طرفًا فيها»، يضيف عبد الله مكسور، معتبرًا أن أكثر ما يميز أدب الحرب أنه صادق، ينتمي إلى النقطة الأطهر في قلب الكاتب وخيالاته، إذ أن وظيفة أي كاتب هي الوقوف في وجه الحرب، أي حربٍ في المطلق، وأن يسعى إلى تناول حياة المهمشين فيها في حال وقوعها.
قد يعجبك أيضًا: كيف يُقمَع الإبداع في العالم العربي؟
الحرب: مصنع الأفكار الخلاقة
يعتقد القاص السوري مصطفى تاج الدين موسى، مؤلف «قبو رطب لثلاثة رسامين» و«مزهرية من مجزرة»، أن الحرب نقطة تحول في حياة الإنسان إذا عاش فصولها، إذ تتولد نار تَنضج معها الأفكار كأنها في فرن، وتذوب أخرى، بما يناسب حالة الحرب التي يعيش فيها، فالحرب تُنتج أدبًا، بعضه يستحق الحياة وآخر سرعان ما يزول.
يوضح موسى لـ«منشور» أن الأدب المكتوب خلال الحرب هو تسجيل إنساني للفجائع والقسوة والآلام في سبيل تقديس الحياة، وهو دفاع الإنسان عن الحياة ولا شيء آخر غيرها، مستغربًا أولئك الأدباء الذين يقفون ضد قضايا شعوبهم في كتاباتهم، معتبرًا أن الكتابة تمثيل للإنسان وسرد لمعاناته.
اقرأ أيضًا: هل جسدت الرواية في سوريا آلام الحرب؟
الأدب يخلد الحرب بتفاصيلها
الكاتبة السورية الشابة دانة حبال، التي أصدرت أولى مجموعاتها النثرية «صداع وقطعة سكر» خلال الحرب، تؤمن أن كل تفصيلة في الحرب تستحق أن تكون أدبًا خالدًا، فالحروب تُعرِّي المفاهيم من أثواب الزيف والتلاعب في الطرح، وتُظهر كل الأشياء على حقيقتها، لتكون مجالًا دسمًا يتناوله الأدب الإنساني.
ترى حبال أن الحرب تضع الكاتب على محك اللحظة، فإما أن يكون صاحب تأثير، أو يكون بائعًا للكلام شأنه كشأن أي تاجر حرب يعبث بأرواح الناس، مؤكدةً لـ«منشور» أن ما يميز أدب الحرب هو ذلك الكَمُّ الكبير من الوجع والإبداع في وصفه وتعدد أشكاله وأنواعه وآثاره، فالكتابة لا تخلِّص من آثام الحرب، بل هي مجال للتخلُّص من الأفكار التي نعجز عن العثور على حلول واقعية لها.
عبد السلام الشبلي