لعبة، وصناعة: كيف غير كأس العالم 1994 كرة القدم إلى الأبد؟
«انتهي عصر لاعبي الأجنحة الكلاسيكية إلى غير رجعة في ستينيات القرن العشرين على يد فيكتور ماسلوف وآلف رامسي وأوزفالدو زوبيلديا. وفي منتصف التسعينيات، بدا أن كل رؤوس الحربة ستذهب إلى الطريق نفسه، سنضحي بهم مع الولع بالسرعة». هكذا يبدأ «جوناثان ويلسون» الفصل الأخير من كتابه «الهرم المقلوب»، والمعنون بـ«العالم يتغير».
لم أستطع أن أسترسل في القراءة بسبب تلك المقدمة. ذِكرُ فترة منتصف التسعينيات ورؤوس الحربة في جملة واحدة، أصابني في منتصف رأسي تمامًا. توقفت عن قراءة الكتاب، ورحلت بذاكرتي إلى منتصف التسعينيات، تحديدًا كأس العالم 1994. وقتها لم تكن الغلبة لرؤوس الحربة، بل كان كأس عالم «روبرتو باجيو» و«ستويشكوف» و«هاغي» و«بيركامب»، وحتى «روماريو» لم يكن رأس حربة كلاسيكيًّا.
كان العالم يتغير حينئذ، وكان كأس العالم 1994 منصة ذلك التغير والدليل عليه.
الخروج بكرة القدم إلى السوق الأمريكية
المطربة الأمريكية التي أحيت حفل الافتتاح، «ديانا روس»، فشلت في وضع الكرة داخل الشباك من على بعد ست ياردات (خمسة أمتار ونصف المتر تقريبًا). ذلك المشهد يصف تمامًا حال الجمهور الأمريكي مع كرة القدم.
لم تكن اللعبة تجذب اهتمام الجماهير الأمريكية على الإطلاق حينئذ. لكن، وفي تحول كرة القدم إلى صناعة خالصة، كان لا بد من اقتحام السوق الأمريكية الخصبة والمربحة. هكذا أعلن «فيفا» عام 1988، أن الولايات المتحدة، متفوقةً على البرازيل والمغرب، ستستضيف كأس العالم 1994، وهو الخبر الذي شبَّهه أحد الصحفيين بتنظيم مسابقة للتزلج في بلد إفريقي.
لم يُلقِ الاتحاد الدولي بالًا للانتقادات، بل راهن على البنية التحتية الهائلة التي ستساعد في الترويج لكرة القدم كصناعة مربحة، الأمر الذي سيتكرر عام 2002 مع السوق الآسيوية.
نجحت الخطة، وصارت معسكرات الإعداد والبطولات الودية في أمريكا وآسيا قبل بدء الموسم طقسًا سنويًّا لا غنى عنه للأندية الأوربية الكبيرة. سيتطور الأمر إلى امتلاك نجوم كرة قدم معتزلين استثمارات في أمريكا، مثل الإيفواري «ديدييه دروغبا» والإنجليزي «ديفيد بيكهام»، إلى جانب اجتذاب الدوريات الأمريكية والآسيوية لاعبين كبارًا أوشكوا على الاعتزال، لم يكن «زلاتان ابراهيموفيتش» أولهم، ولن يكون «واين روني» الأخير.
كأس العالم 1994: تعريفات جديدة للمهارة
كانت نسخة 1990 فقيرة فنيًّا بشكل واضح: التزمت الفرق بالتكتيك الدفاعي ومحاولة الحفاظ على نظافة الشباك كأولوية، ما دفع الاتحاد الدولي إلى إجراء بعض التغييرات على اللعبة بداية من بطولة 1994، لعل أهمها إقرار نقاط الفوز الثلاثة بدلًا من اثنتين، وحرمان حارس المرمى من التقاط الكرة بيديه إذا وصلت إليه عن طريق زميل. كل ذلك أسهم في تقدير قيمة المهارة الاستثنائية.
نقل كأس العالم 94 المعركة إلى منتصف الملعب، ما سحب البساط من تحت أقدام المهاجمين.
اللجوء إلى التنظيم الدفاعي كشكل سائد دفع إلى البحث عن عناصر تكسر هذا التنظيم، عناصر قادرة على التسلل من الدفاعات المتكتلة لتصنع الفارق. مهارة المراوغة لم تعد تجدي، لأنها تقابَل بالخشونة والتكتل. صار الأمر أكثر تعقيدًا، فالمطلوب الآن لم يعد مهارة بِكر (طائشة وجريئة)، بل مهارة صناعة الفرص وربط خطوط الملعب مع بعضها.
شهد كأس العالم 94 تعريفًا جديدًا للمهارة، فبدلًا من المراوغة، تحولت إلى مهارة التحكم في إيقاع اللعب.
«ستويشكوف» البلغاري، و«هاغي» الروماني، و«فالديراما» الكولومبي، و«باجيو» الإيطالي، و«بيركامب» الهولندي، كل هؤلاء امتازوا بالقدرة على التحكم في إيقاع اللعبة. نقل كأس العالم 94 المعركة إلى منتصف الملعب، ما سحب البساط من تحت أقدام المهاجمين، وألقى الضوء على أهمية مركز لاعب خط الوسط المدافع، فكثيرون يُرجعون فوز البرازيل بالكأس إلى ثنائي الوسط «دونغا» و«سيلفا»، وليس «روماريو» وحده.
بمرور الوقت، ستبرز أهمية السرعة في مواجهة المهارة كحل أكثر إفادة، وربما ذلك ما سيدفع تكتيك كرة القدم نحو الجماعية المطلقة. لكن كأس العالم 94 كان يعج بتلك العناصر المميزة، وبالتالي صارت فرق تلك النسخة منتخبات «النجم الأبرز».
اقرا أيضًا: هوس التشجيع: ما هربنا منه نحو كرة القدم، وجدناه في كرة القدم
نيجيريا تخطف أنظار العالم نحو القارة السمراء
من عاصروا تلك النسخة لن ينسوا منظر المهاجم النيجيري «رشيدي يكيني» يصرخ داخل الشباك بعد أن أحرز هدفه في بلغاريا. لن ينسى أحد كيف بدأ يهز الشباك بعنف، وكأنه يوجه رسالة إلى العالم بأن إفريقيا تمتلك ما يستحق المتابعة.
تأهلت نيجيريا متصدرة المجموعة، متفوقة على بلغاريا والأرجنتين، ثم فشلت في عبور دور الـ16 أمام إيطاليا. لكن كرة القدم التي قدمتها كانت حديثة للغاية، امتازت بالسرعة والجماعية التي لم تكن معهودة حينئذ. «رشيدي يكيني» و«أوكوشا» و«أمونيكي» و«أوليسيه» و«أموكاشي»، أسماء حفظها الجميع في منتصف التسعينيات.
ثلاثة فرق فقط مثَّلت إفريقيا في نسخة 1994، ثم زادت حصة القارة إلى خمسة مقاعد في نسخة فرنسا 1998. لكن الأهم أن نيجيريا استطاعت أن تنبه أوروبا تحديدًا إلى ما يمتلكه اللاعبون الأفارقة، وما يستطيعون تحقيقه بما لديهم من سرعة وقوة.
مقارنة بسيطة بين الأندية التي ضمت لاعبي نيجيريا في كأس العالم 94 ومثيلتها في 98 توضح أن الأندية الأوروبية في المستوى الأول، أصبحت تثق كثيرًا في العنصر الإفريقي، ما سيتأكد بعد ذلك بالطبع.
لم تمر البطولة دون أحداث تاريخية كبرى، مثل انتهاء رحلة «مارادونا» بعد ثبوت تعاطيه المنشطات، وظهور الحكام لأول مرة بملابس ملونة، ومقتل اللاعب «أندريس إسكوبار» بعد عودته إلى كولومبيا بسبب هدف أحرزه بالخطأ في فريقه، ورقصة ثلاثي البرازيل احتفالا بابن «بيبيتو». كانت هذه بطولة «روماريو»، المهاجم الفذ الذي أعلن بداية نهاية المهاجم الكلاسيكي في كرة القدم، وركلة ترجيح «باجيو» وقصة شعره المميزة.
ماذا تغير في تكتيك اللعبة: البرازيل نموذجًا
تعلقت البرازيل بكرة قدم 1970 المثالية، لكن بعد 24 عامًا دون بطولات، كانت الواقعية التكتيكية السبيل الرئيسي لعودتها إلى عرش كأس العالم.
التكتيك السائد قبل كأس العالم 1994 كان 4-4-2، ولم يتغير كثيرًا خلال البطولة، لكن ما تغير كان محاول الوصول إلى الخلطة المثالية بين الواقعية التكتيكية والمهارة التي تفيد الفريق. إذا قررت أن تهاجم بروماريو وبيبيتو، لا بد من أن يضم خط الوسط لديك دونغا وسيلفا، ثنائيًّا خشنًا قليل المهارة يجيد قطع الكرات.
انتهى عصر كان يتألف فيه الوسط من «زيكو» و«سقراط» و«إيدر» و«فالكاو»، الرباعي المهاري الذي أمتع الجماهير بكرة قدم جميلة، لكنه لم يحمل الكأس في المكسيك 1986.
قد يعجبك أيضًا: برازيل «زيكو»: الهبوط من جنة كأس العالم
بعد أن رفع دونغا كأس العالم عاليًا، كجزء معتاد من طقوس التتويج بالبطولة، توجه نحو المصورين والصحفيين وبدأ في الصراخ: «هذه الكاس هدية لكم أيها الخونة. ماذا ستقولون الآن؟ هيا يا أولاد الزواني، التقطوا الصور»، وبالطبع تخلل صراخه كثير من الألفاظ النابية.
لم يكن رد فعل دونغا مبالغًا فيه، بل كان ردًّا علي كمية هائلة من الانتقادات لشكل الكرة التي يقدمها فريقه. آمنت البرازيل بالواقعية التكتيكية، وكان ذلك المنتخب تحديدًا أقل منتخبات البرازيل مهارةً، ما أثار حفيظة جمهور «السيليساو» وصحفيي البرازيل، متوقعين خيبة أمل جديدة للفريق.
وقتها كان البرازيليون لا يزالون متعلقين بكرة قدم 1970 المثالية، وحلم زيكو وسقراط 1986 الذي لم يكتمل. لكن بعد 24 عامًا دون بطولات، كانت الواقعية التكتيكية السبيل الرئيسي للعودة بالبرازيل إلى عرش كأس العالم.
ربما يلخص كل ذلك تعقيب «يوهان كرويف» على فوز البرازيل بكأس العالم 1994: «سر كرة القدم في القدرة على السيطرة على مجريات اللعب من أجل تحقيق الهدف. البرازيل فقط من فعل ذلك. بالطبع كان بإمكانهم أن يلعبوا بطريقة أجمل وأداء هجومي أكثر، لكن هناك لحظات يجب التضحية فيها بالشكل الهجومي».
قد يهمك أيضًا: كلاسيكو المتعة والصناعة: من يفوز بـ«كرة القدم»؟
فرق «الأندردوغ» وإيطاليا المختلفة
قبل أن يظهر مصطلح «الأندردوغ» (Underdog) في كرة القدم، ويُستَخدَم بصورة واسعة للدلالة على الفرق الأقل حظًّا في الفوز بالمباراة وكسب تعاطف الجماهير، قبل هذا كان كأس العالم 1994 الحدث الأهم الذي تبرز فيه ثقافة تعاطف جمهور كرة القدم مع الفرق الصغيرة تاريخًا، التي تقدم كرة قدم جيدة. وفي 1994، بلغاريا كانت أهم تلك الفرق.
تأهلت بلغاريا إلى كأس العالم على حساب فرنسا بهدف قبل نهاية الوقت الأصلي بثانية واحدة. مِن قلب باريس بدأت الدراما البلغارية، ولم تنتهِ سريعًا.
شاركت بلغاريا في بطولة 1994 وفي جعبتها 15 مباراة في نسخ كأس العالم السابقة، دون فوز واحد. لم يحدث أن فازت بلغاريا في أي مباراة في نهائيات كأس العالم. وقعت بلغاريا في المجموعة الرابعة رفقة العملاق الأرجنتيني، الذي كان طرفًا في المباراة النهائية لآخر كأسي عالم وقتها، والمفاجأة نيجيريا واليونان.
بدأت مشوارها في البطولة بخسارة ثقيلة أمام نيجيريا، التي قدمت أفضل أداء في البطولة في الأدوار التمهيدية. لم يلتفت أحد للفريق البلغاري، حتي بعد تحقيق فوزه الأول في كأس العالم أمام اليونان الضعيفة. ثم كانت المباراة الأخيرة في المجموعة أمام الأرجنتين، التي جعلت العالم كله يؤمن ببلغاريا، ويتمنى لها أن تكمل المسير نحو الكأس.
فازت بلغاريا على الأرجنتين بهدفين دون مقابل، في ليلة تألق فيها «ستويشكوف» لاعب برشلونة الأهم وقتها، محرزًا هدفًا وصانعًا الآخر.
في دور الـ16، تخطت بلغاريا بالمكسيك، الفريق المتمرس في كأس العالم، بأداء جيد استحوذ على مزيد من التعاطف الجماهيري. ثم كانت المباراة الأهم في دور الثمانية في مواجهة ألمانيا حامل اللقب.
تقدمت ألمانيا بهدف من ركلة جزاء، ثم حان موعد ذروة الدراما البلغارية: خلال ثلاث دقائق فقط هتف العالم باسم بلغاريا. في الدقيقة 75 أحرز ستويشكوف هدف التعادل من ركلة حرة مثالية، ثم في الدقيقة 78 أضاف ليتشكوف الهدف الثاني من تحرك ممتاز ورأسية رائعة. لم يكن أحد يتخيل أن بلغاريا تستطيع أن تفعلها، لكن الفريق كان يلعب من أجل التاريخ.
انتهت المغامرة على يد روبيرتو باجيو في مباراة قبل النهائي، لتحتل بلغاريا المركز الرابع بعد هزيمة أخرى أمام السويد.
لكن أسماء مثل ستويشكوف وليتشكوف كانت أجبرت العالم على احترام ذلك الفريق الذي حقق ما لم يتوقعه أحد.
لم تكن بلغاريا وحدها التي حركت قلوب مشجعي الكرة خلال تلك البطولة، فرومانيا قدمت أداءً راقيًا.
احتلت رومانيا قمة المجموعة الأولى متفوقةً على أصحاب الأرض أمريكا، وفريقي كولومبيا وسويسرا. وضعها ذلك في مواجهة الأرجنتين، التي تأهلت في المركز الثالث خلف نيجيريا وبلغاريا.
كانت رومانيا تتمحور حول جورج هاغي، أو «مارادونا البلقان» كما لُقِّب. بمجرد أن تكون الكرة بحوزته، يبدأ الفريق الروماني بأكمله في الانتشار. هناك ثقة مطلقة في إمكاناته، وكان هاغي علي قدر الحدث. أرسلت رومانيا الأرجنتين إلى الديار بهدفين من إحراز وصناعة هاغي، قبل أن تخسر بركلات الترجيح بعد مباراة قوية للغاية أمام السويد في دور الثمانية.
إيطاليا أيضًا ظهرت بشكل مغاير عن أسلوبها المعتاد.
المدرب «أريغو ساكي» كان وراء خفوت نجم المراقبة اللصيقة في الدفاع، وتحول الكرة الإيطالية إلى الضغط المتكامل. اجتاح ساكي أوروبا بفريق ميلان التاريخي، وكان من المنطقي أن يتولى الإدارة الفنية للمنتخب الإيطالي. لكنه إعترف لاحقًا بأنه وجد إيقاع تدريب المنتخبات صعبًا، ولا يتيح له القدرة على تعليم لاعبيه، إضافة إلى أن العلاقة بينه وبين باجيو لم تكن مثالية.
رغم ذلك، قدمت إيطاليا بفضل الاثنين كرة جميلة ومختلفة، تحررت فيها من الدفاع اللصيق وتميزت بالتحركات الدائمة للمهاجمين وخط الوسط، ثم انتهت تلك الحقبة بركلة باجيو الضائعة في النهائي.
اقرأ أيضًا: ماذا يدور في عقول لاعبي الكرة خلال المباريات؟
مرت كرة القدم بعدد من التغيرات في صميم تكتيك اللعبة، وفي شكلها كصناعة ترفيهية تهدف إلى إمتاع الجماهير، وربما كان كأس العالم 1994 حلقة وصل مهمة في هذا التطور. جذبت البطولة أنظار محبي الكرة والمتعة، وحوَّلت أنظار محبي الكرة إلى أهمية التكتيك والجانب الخططي.
في المقابل، ستذكِّرنا الشمس الدائمة في مقاطع فيديو البطولة بأنها كانت تُلعب صباحًا، لمراعاة أوقات البث التليفزيوني في أوروبا، في إشارة واضحة إلى تحول اللعبة إلى صناعة خالصة.
محمود عصام