ما الذي وجدته السينما تحت أقدام الأمهات؟
في كتابها «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحِها»، تشير الشاعرة المصرية إيمان مرسال إلى المجاز وراء غياب الأم في غالبية قصص الأطفال التي تربينا عليها: سندريلا، وسِتّ الحُسن والجمال، وهانسل وغريتل، وسنو وايت والأقزام، مفسرةً ذلك بأن الأم ترمز في كل الميثولوجيات والوعي الجمعي إلى العناية المطلقة، أكثر حتى من الأب، لدرجة أن المغامَرة، بكامل مخاطرها، لا تحدث إلا في غيابها.
يرتبط ذكر كلمة «أمومة» عادةً في وعينا بالمشاعر السامية، عطاء غير متناهٍ وتضحيات، ربما لقداسة الأم المتوارَثة منذ سعت هاجر أم إسماعيل بين الصفا والمروة، وفضيلة السيدة مريم أم المسيح، عوضًا عن التكريس لقداسة الأم في الإسلام بأحاديث «أمك ثم أمك ثم أمك»، و«فالزمها فإن الجنة تحت قدميها».
التقطت السينما ذلك الخيط في العالم كله، وقدمت نماذج لا تُحصى لمفهوم «الأم الفضيلة»، تؤكد أن الحبل السُّرِّي الممتد بين الأم والجنين لا ينقطع حتى بعد فصله لحظة الولادة. لكن السينما قدمت نماذج مختلفة كذلك، أكثر عمقًا، وأكثر فهمًا لمشاعر الأمومة، وكونها علاقةً مُركَّبة للغاية، وفي بعض جوانبها يلتف حبل الحنان ذلك ليخنق أبناءه.
فـبخلاف الجنة، ما الذي وجدته السينما تحت أقدام الأمهات؟
1. التملُّك: عندما يصبح الأبناء فرصةً شخصية
تقف «زينب» في فيلم «الحفيد» داخل مطبخ ابنتها «نبيلة» في الصباح الأول بعد عُرسها، تحاول إقناعها بالتعجل في قرار الإنجاب، وتزيد في الإلحاح بشكل يدفع ابنتها في نهاية الأمر إلى الإذعان، وتنفيذ قرار لم تكن لديها رغبة فيه من الأساس.
أما «إريكا»، والدة «نينا» في فيلم «Black Swan»، فتعتمد الترغيب بدلًا من الإلحاح، تُزيِّن في عين ابنتها محاسن لعب دور البطولة في فرقة الباليه، تزيد من تلاعبها الضمني، لدرجة تتبنى معها نينا تلك الرغبة، تصدقها تمامًا حتى تتحول إلى هوسها الحقيقي، الذي يودي بحياتها في نهاية الأمر.
رغم التباين الواضح في اختيارات النموذجين، زينب وإريكا، إلا أن الاثنتين مثال قوي لمساوئ أن تكبر لتجد نفسك ابنًا لأمٍّ مهووسة بتمديد جذورها في العالم، كلٌّ بالشكل الذي يوافقه، وكلٌّ بطبيعة سياقه المجتمعي.
تبايُن النموذجين ينقل حقيقةً سَطْوة الأمومة العابرة للثقافات.
تحاول زينب، التي تتفاخر بإنجابها سبعة أبناء، تحويل نبيلة إلى صورة أخرى منسوخة عنها، أنثى جديدة تعرِّف نفسها فقط بعدد الأطفال الذين أنجبتهم للعالم، وبإغفال، أو ربما تجاهل، رغبات ابنتها الشخصية وحقها في اختيار شكل الحياة الذي يوافقها.
أما إريكا، التي حالت الأمومة بينها وبين أن تكون بطلة فرقة الباليه في الماضي، فالأمر أكثر تعقيدًا، إذ ترى في ابنتها نينا فرصةً لتجديد الحلم، تراه أيضًا حقًّا مكتسبًا، فمجيء ابنتها إلى الحياة غرَّمها شغفها الوحيد في لعب الباليه، ومِن ثَمَّ فإن العدل توريث هذا الشغف للابنة، ومن الإنصاف أن تحقق الابنة أحلام أمها الخاصة كنوع من رد الجميل.
تبايُن النموذجين لا يحكي شيئا كبيرًا عن اختلاف المجتمعين المصري والأمريكي، لكنه ينقل حقيقةً أكبر عن سطوة الأمومة العابرة للثقافات، والقافزة فوق الاختلافات المجتمعية.
لا فارق بين مجتمع يرى في الإنجاب إنجازًا شخصيًّا، وآخر أكثر اختلافًا في تعريفه لمفهوم الإنجاز الشخصي، ففي كل الأحوال ستجد الأمومة مدخلها، بالتواءٍ لا يخلو من نعومة، لتجعل من الأبناء فرصةً شخصية في تحقيق الأحلام أو مدِّ الجذور. بالنسبة إلى بعض الأمهات، الأمر يتعدى توريث الصفات الوراثية.
ربما يخرج التملُّك في شكل رغبة لتمرير الأحلام الشخصية في بعض الحالات، إلا أنه، وفي حالات أكثر مباشَرة، يكون نتيجةً للممارسات القهرية. أحد الأفلام التي تطرقت إلى ذلك كان «المراهقات»، وأحد أشكال هذه الممارسات كان قهر الأبناء الذي تتسبَّب فيه مَحبَّة الأم وهوسها بحمايتهم، والذي يُفضي إلى نفس النتيجة: امتلاك ضمني يخوِّل للأم السيطرة على أبنائها.
صحيح أن الفيلم كان محاولةً مختلفة قياسًا بزمن عرضه عام 1960، لكن المعالَجة لم تكن بالفهم الكافي لتركيب مشاعر الأمومة، ربما لتركيز الفيلم على حياة «ندى» وصديقاتها المراهقات دون الاهتمام بالتعرض لمشاعر أمها، التي لا شك أنها تحب ابنتها وتحاول أن تحميها، لكن المسألة هي كيف تحبها؟ ولأي درجة تحميها؟ أسئلة لم يُعنى الفيلم بإجابتها أو التطرق إليها حتى.
قد يهمك أيضًا: تحكُّم الوالدين يجعل الأطفال أميَل إلى القلق وجَلد الذات
فيلم آخر نجح في ذلك، أتى بعد عقد ونصف تقريبًا من «المراهقات». كان الفيلم الأمريكي «Carrie» أكثر تعقيدًا في تناول حياة «كاري»، فتاة مراهقة أفسدتها القوقعة المنعزلة التي حاصرتها أمها داخلها. كذلك، لم تكن علاقتها بأمها بالسطحية التي تناولها «المراهقات»، بل كان هناك فهم حقيقي لمشاعر والدة كاري، وكونها مُحبَّة مكبَّلة بالمخاوف التي أدت بها لطمس شخصية ابنتها بدافع الحماية، ممَّا أدى لفرضها سُلطتها بشكل عنيف وحاد.
كان «Carrie» أكثر وعيًا بعواقب تلك السُّلطة وأثر العزل على كاري، وتحويلها إلى شخص عاجز بشكل مَرَضي عن التواصل مع من حولها.
الأمر أكبر من مجرد تضييق في الخروج أو تدقيق في المواعيد، والحل ليس دومًا في الزواج مثلما حدث في «المراهقات». هنا نجد أُمًّا تحاول خلق مساحة أمان، ظاهريًّا لابنتها، لكن الأمان في الحقيقة لها وحدها. وفي محاولة منها لتسكين القلق وتهدئة قلبها، الذي يتآكل في كل مرة تخرج فيها ابنتها من المنزل، تحاول أم كاري إسكات تلك الهواجس ببتر مصدرها، وحبس الابنة في قوقعة لو لزم الأمر.
2. المَحبَّة، التي هي في قوة الموت
مثلما كانت كاري مثار سخرية رفاقها في المدرسة لارتباكها وعجزها عن التواصل بشكل سلس، كان شاب آخر يعاني نفس السخرية من زملائه الجامعيين، ويعاني كذلك أزمات في التواصل، إلا أن حالة «كامل»، بطل فيلم «السراب» الذي أفسدته محبَّة أمه الغامرة، كانت أكثر خطورة في عواقبها، كما كانت الدوافع أكثر من مجرد خوفٍ من الأم.
انجذب كامل شعوريًّا إلى صورة تحاكي مصدر الحنان الوحيد في حياته: أمه.
علاقة كامل بأمه أكثر تعقيدًا والتباسًا، فهو نتيجة زيجة استمرت يومًا واحدًا، لم تخرج منها الأم سوى بابن وحيد أرضعته حتى أتم الأربعة أعوام، وألصقته بفراشها كي ينام إلى جوراها حتى صار عمره 25 عامًا. إنها علاقة مبنية على المحبة الخالصة، تحبه أمه لأنه استثمارها الوحيد في الحياة ولا تطيق فكرة الانفصال عنه، ويحبها لأنها أمه، مصدر أمانه ورعايته.
يحب كامل أمه كثيرًا، لدرجة أن يختار عروسًا تشبهها تمامًا: نفس قَصَّة الشعر ونفس الطول تقريبًا، لكنه يعجز عن التحقق جنسيًّا وإبداء أي تواصل حميمي تجاهها (لأن أحدًا لا يمكنه ممارسة الجنس مع أمه، أو صورتها في هذه الحالة)، وهو ما لا يحدث عندما يحاول مع «بائعة هوى». في الوقت ذاته، تُصاب أمه بالغيرة من عروسه الجديدة، فتستمر في محاولة إفساد علاقتهما المختلة من الأساس.
ببساطة، كان انجذاب كامل «شعوريًّا فقط» إلى صورة تحاكي مصدر الحنان الوحيد الذي عرفه في حياته: أمه.
اقرأ أيضًا: لماذا يصعُب على جيل الألفية العثور على شريك الحياة؟
ربما يذكرنا هذا بمأساة «أوديب» في الميثولوجيا اليونانية، فمثلما قتل أوديب أباه في الأسطورة، قتلت الأم صورة الأب في عيني كامل ابنها خلال الفيلم، ومثلما تزوج أوديب من أمه، تزوج كامل من الأنثى الأكثر شبهًا بوالدته.
الاختلاف الوحيد ربما هو أن كامل نموذج بشري مستَقًى من الحياة، له إرادة ووعي متطور، وبالتالي انتهت محاولة تحرره من التصاقه النفسي بأمه بموت الزوجة (صورة الأم) في الفيلم، أما في الرواية المقتبَس عنها الفيلم فانتهت بموت الأم نفسها.
قد يهمك أيضًا: أفلام عربية مقتبسة من روايات عالمية
ماذا عن السينما العالمية؟
تتعدد النماذج السينمائية التي حاولت تقديم «عقدة أوديب» وحب الأم الغامر الذي من شأنه إفساد حياة الابن، مثل فيلمَيْ «New York Stories» و«Only God Forgives».
لكن النموذج الأكثر خطورة والأكثر شبهًا بعلاقة كامل المضطربة بأمه، وإنما بشكل أكثر تطرفًا، هو فيلم «Santa Sangre» للمخرج التشيلي «أليهاندرو هودوروسكي»، إذ يتوحد «فينكس» مع أمه لا شعوريًّا فقط ولكن نفسيًّا أيضًا، بعد أن شاهد أباه يبتر ذراعيها بوحشية في طفولته، وتحت وطأة التعويض المعنوي يمُدُّ إليها ذراعيه لتعويضها عن خسارتها.
تُحكم الأم سيطرتها بالرابط العاطفي القوي، فتأكل بذراعي ابنها، وتمارس بهما هوايتها في لعب البيانو، وتقتل بهما كذلك، وليس دافعها في ذلك الأنانية، وإنما رعب مستمر من انفصال ابنها عنها وانقطاع رعايته، المتمثلة في ذراعين ممدودين من خلف ظهرها.
تصنيف «رعب» هو الأكثر صدقًا لعلاقة معقدة قائمة على الحب الذي لا لَبْسَ فيه.
«لم يكونوا يحضنوننا مثلما كنا نتوهَّم، لكن كانوا يثبتون لنا أنهم قادرون على تحطيم ضلوعنا، لو عصينا أوامرهم».
ربما تكون كلمات الشاعر المصري عماد أبو صالح تلك الأكثر تعبيرًا عن علاقة فينكس وكامل بأمَّيْهما، فمثلما حاولت أم كامل تخريب علاقته بزوجته، حاولت والدة فينكس إحكام سيطرتها على ابنها بالتلاعب به ودفعه إلى قتل كل فتاة ينجذب إليها. يقتلهن فينكس بذراعيه، اللذين أصبحا ذراعَيْ أمه البديلين، بتأثير رباط عاطفي شديد القوة، تنازل فيه بإخلاص وولاء حقيقيين عن إرادته الحرة (ذراعيه في هذه الحالة) لأمه. ومثلما تحرر كامل بموت الأم وصورتها، تحرر فينكس في النهاية بنفس الطريقة.
اللافت أن «Santa Sangre» يُصنَّف باعتباره فيلم رعب، وهو التصنيف الأكثر صدقًا لعلاقة معقدة قائمة على الحب الذي لا لَبْسَ فيه، فسواءً في «السراب» أو «Santa Sangre»، لا تقدَّم الأم على أنها شر مطلق وإنما مَحَبَّة، لكنها مَحَبَّة من النوع الخانق، عنصر حِصار، صَدَفة منغلقة على لؤلؤة ثمينة، مصيدة حريرية مُعَدَّة بتعقيد، أعمدتها تشمل الحب الذي يسلب الإرادة، والضعف الذي يُغوي بالانصياع، وأي محاولة للابن للإفلات منها لن تتم إلا بكسر الصدفة، أي كسر الأم.
3. صراع الهُويَّة: لأن الأم بشرية قبل أي شيء
يصبح الابن هو العنصر الأكثر تأثيرًا في حياة الأم، وحتى موتها.
قبل أن تُقدِم الروائية والشاعرة الأمريكية «سيلفيا بلاث» على الانتحار بحشر رأسها في موقد الغاز، حرصت جيدًا على سدِّ فتحات باب مطبخها بالأقمشة، لا لإتمام مهمتها سريعًا، ولكن كي لا يجد الغاز المتسرِّب طريقه إلى طفليها في الحجرة المجاورة للمطبخ.
انتحرت بلاث بسبب معاناتها مع الاكتئاب، وصحيح أن انتحارها قد يرى فيه البعض شيئًا من التخلِّي عن طفليها، إلا أن أحدًا لا يمكنه إغماض عينيه عن أن آخر تصرف بَدَرَ منها قبل مغادرة العالم كان مكلَّلًا بالحب. مشاعر الأمومة وحدها هي ما جعلت سيلفيا تحرص على إبقاء طفليها بخير حتى لحظتها الأخيرة.
قد يعجبك أيضًا: هل يشبه المنتحر في السينما العربية نظيره في الأفلام الغربية؟
ربما يكشف تصرف سيلفيا بلاث عن صراع الهُويَّة الذي تُحدِثه مشاعر الأمومة، فمن اللحظة الأولى للولادة، تتحول المرأة، جزئيًّا، إلى مَشجَب يُعلَّق عليه وجود كائن آخر، يصبح فجأة هو العنصر الأكثر تأثيرًا في معادلة اختياراتها، بدايةً من حياتها المهنية ووصولًا إلى قرار إنهاء تلك الحياة نفسه.
تنمو مشاعر الأمومة وتزحف فوق جدار القلب بشكل قد يطغى على أي رغبات شخصية للأم، فتتخلى عن بعضها مرغمةً حينًا وطائعةً حينًا آخر، وفي المحاولات المستمرة للتوفيق بين مفهومَي «الكيان المستقل» و«الأمومة»، تتولَّد الكثير من التعقيدات التي حاولت السينما تسليط الضوء عليها.
كل ممارسات منى الديمقراطية في «إمبراطورية ميم» هي محاولات للحفاظ على هُويَّتها.
تحاول «منى» في فيلم «إمبراطورية ميم» صياغة علاقة صحيَّة تجمعها بأبنائها، تُخفق مرةً فتحطم جيتار ابنها المراهق من منطلق أبوي يحاول الإمساك بزمام الأمور، وتنجح مرةً أخرى لدرجة إبداء موافقة متحضرة على إجراء انتخابات لإدارة شؤون منزلها.
تعي منى وجود خط فاصل بين السيطرة والتسلُّط لا ينبغي تعديه، كذلك تُعنَى بتنشئة أبناء أسوياء مدركين لحقوقهم، والإدراك هو ما يدفعهم إلى تنبيهها لو تجاوزت حدود السيطرة غير المعلَنة بينها وبينهم بتأثير عاطفة الحب.
تتشابه منى من «إمبراطورية ميم» مع زينب في فيلم «الحفيد»، كلتاهما أنجبت عددًا ضخمًا من الأبناء، إلا أن منى تتميز بكونها أكثر وعيًا بذاتها. منى، التي تعمل وكيلةً لوزارة التربية والتعليم، وهو دور تربوي بطبيعته، يأخذ صراعها مع أبنائها لإدارة المنزل شكل صراع الهُويَّة في المقام الأول، هنا امرأة تحاول الإبقاء على هُويَّتها بإدراج دور الأمومة تحت كل الأدوار الأخرى، كل ممارسات الديمقراطية التي تحاول اتخاذها لم تكن إلا محاولةً للحفاظ على هُويَّتها.
وكي لا تجد نفسها محاصَرةً في شرنقة الأمومة، تذكِّر منى نفسها بأنها أنثى، فتعلن رغبتها في الزواج ممَّن تحب، وتذكِّر نفسها أنها شخصية ريادية، فتقبل بانتخابات لتمرير سُلطة المنزل. بمعنى أكثر وضوحًا، كاد الصراع المتصاعد هنا بين منى ونفسها أن يكلفها أحد الدورين: أمومتها.
اقرأ أيضًا: أبرز الأفلام التي تناولت حياة وقضايا المرأة العربية
تخاف شارلوت من الحب المتفجر داخل قلبها تجاه ابنتها، ومن احتمال أن يدفعها لإفناء نفسها.
بعكس منى، التي نجحت نسبيًّا في التوفيق بين هُويَّتها وأمومتها، لم تفلح «شارلوت» في الفيلم السويدي «Autumn Sonata» في الإبقاء على علاقة صحية بابنتها «إيف».
شارلوت، عازفة البيانو ذات النجاح الصاخب، لا تجد وقتًا لزيارة ابنتها إلا مرة كل سبعة أعوام. للوهلة الأولى يفسَّر هذا بانشغالها المحموم بصناعة مسيرة مهنية خالدة، إلا أن الأمر أكبر بكثير، فمع تصاعد الصراع الذي يبدأ بسؤال طفولي النبرة يصدر من ابنتها ذات الثلاثين عامًا: هل تحبينني؟ نجد أنفسنا أمام أمٍّ أحبت ابنتها لدرجة أخافتها هي شخصيًّا.
خوف شارلوت لم يكن من متاعب الأمومة وحدها، أو من طلبات إيف ابنتها كما بررت لها في البداية، بل كان خوفًا من هذا الحب المتفجر داخل قلبها تجاه ابنتها، ومن احتمال أن يدفعها لإفناء نفسها تحت وطأته.
فضَّلت شارلوت أن تصبح عازفة بيانو على أن تكون أمًّا، لأن الأمومة شعور طاغٍ بشكل يصعب تحمله، يأكل في طريق نموه كل شيء آخر، بشكل قد يكون مؤذيًا للأم بقدر ما هو مؤذٍ للأبناء في بعض الأحيان، إلى درجة تدفع مجموعة من الأمهات في الفيلم السويدي الآخر «Brink of Life» إلى التفكير بشكل جاد في مدى استعدادهن للأمومة، والنظر في إمكانية عرض أبنائهن للتبني كي ينشأوا بشكل سوِيٍّ مع أمهات أكثر استعدادًا لتجربة الأمومة، وبالشكل الذي يدفع «كيكو» في الفيلم الياباني «Nobody Knows» إلى الرحيل عن أبنائها سعيًا وراء حبها للغناء.
قد يهمك أيضًا: فيلم «Dreams»: هلاوس المخرج الياباني «أكيرا كوروساوا»
لكن يظل النموذج الأقسى، والأكثر إنصافًا لعواقب الأمومة، هو أم «فتنة» في فيلم «فرحان ملازم آدم». الأم التي تعي حقها كأنثى في مجتمع ينكر هذا الحق عليها، وتعي أن رغباتها جزء أساسي من هُويَّتها كإنسان، فتترك نفسها لعلاقة حميمة مع «فرحان»، الذي سيتضح لاحقًا أن ابنتها تُكِنُّ له مشاعر حب.
صحيح أن الفيلم يدور بالأساس حول فرحان، وأن دور أم فتنة فيه ثانوي، إلا أن النموذج نفسه ضروري في تسليط الضوء على شكل أكثر صراحةً لصراع الهُويَّة، والأهم أنه لم ينكر على الأم غريزتها. أهمية الفيلم تكمُن في خروجه من مجتمع يُنكر على نسائه غرائزهن، كبارًا وصغارًا، ويُنكر على الأمهات الأرامل والمطلقات حقوقهن.
قد يعجبك أيضًا: شبح «كلام الناس» يطارد النساء في العالم العربي
الأم أكبر من مجرد رحِم يُنجب أو قلب ينبض، بل خليط من الحب والخوف والنزاع والرغبة.
بشكل عام، ربما تكون النماذج التي تناولت صراع الهُويَّة هي الأكثر إنصافًا للأم، بمحاولتها الوقوف على مبررات الإيذاء بدلًا من إصدار أحكام أخلاقية، من خلال تقديم الأم بكل جوانبها وأحلامها الشخصية، وصعوبة احتفاظها بكيانها كإنسان بشكل مستقل عن كيانها كأم.
الأمومة ليست مثالية
إن إنتاج أفلام في دول مختلفة تتحدث عن نفس نوع المشاعر، وبنفس درجة التعقيد، لا يؤكد شيئًا سوى أن الأمومة مشاعر ضبابية، ليست مَحبَّة مطلقة ولا أذًى خالصًا، وإنما خليط بين الاثنين، وسواءً في مجتمع يجيد قراءة نفسه أو مجتمع يعجز عن ذلك، ستجد هذه المشاعر طريقها للظهور.
ليس المقصد هنا ذم الأمومة أو التشكيك في صدقها، بل محاولة فهمها والاتساق مع كونها أكبر من مجرد رحِم يُنجب أو قلب ينبض أو عملية تقويم وتربية، الأمر يتعدى ذلك ليصبح خليطًا من الحب والخوف، نزاعًا بين رغبة الأم في الالتصاق بمن كان يومًا جزءًا منها، ورغبتها في الهرب منه في الآن ذاته.
ربما حاولت السينما كسر الصورة النمطية للأم، ربما كانت تحاول نزع هالة القداسة المرتبطة بها لتخفيف عبء المثالية عنها، ربما كانت تفكك الأمومة وتشرِّحها، ليس لتقديمها في شكل سيئ أو لكشف جوانبها القبيحة، وإنما لفهم أن الأمومة ليست مثالية، ولا يُفتَرض تحميل الأمهات بعبءٍ كهذا من الأساس، بل علينا أن نفهم أنهن بشر: عُرضة للإخفاق، وعُرضة لارتكاب الأخطاء.
الهدف ليس مُساءَلة العاطفة الأمومية، ففي النهاية كل النماذج التي تعرضت لها السينما أحببن أبناءهن، وكل الأمهات في العالم يحببن أبناءهن، ولكن ما تحاول السينما مُساءَلته، ربما، هو كيف يُمارَس هذا الحب، وبأي قدر يتم تقديمه.
إسراء مقيدم