الصحوة الدينية في «وستروس»: لعبة «هاي سبارو» الخطرة

هشام فهمي
نشر في 2017/09/14

الصورة: HBO

هذا الموضوع ضمن هاجس شهر سبتمبر حول «ماذا تبقى من الصحوة الإسلامية». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.


رجل أشيب قصير نحيل تملأ وجهه التجاعيد، قدماه حافيتان سوداوان متيبستان كجذور الأشجار، يقود جماعة من المتدينين الفقراء. الرجل ورفاقه في طريقهم إلى العاصمة لمناشدة الملك إنزال العدالة بمن قتلوا الأبرياء خلال الحرب. هذا الرجل الزاهد العابر سيتصدر لاحقًا المشهد السياسي في العاصمة، مناديًا بعودة السلوك الديني القويم، وسيتجمع حوله المزيد والمزيد من المهمَّشين، وسيضطر القصر الملكي إلى عقد صفقات منفعة متبادلة معه، وستكون له شرطته الخاصة التي تجبر الناس على فعل ما يراه صوابًا وتعاقبهم على آثامهم، وسيكون بالوقت أحد أهم وأخطر اللاعبين في «لعبة العروش».

من هو العصفور الأعلى؟

العصفور الأعلى يحكي قصته للملكة مارجري

عكس أغلب شخصيات المسلسل، لا نعرف عن العصفور الأعلى الكثير، حتى اسمه نجهله، وتاريخه لا ندري عنه سوى النزر اليسير.

للدين دور بارز في «وستروس»، وتتعدد الديانات فيها لتتجاوز الثلاثين، منها التي لا نعرف عنها إلا أقل القليل، ومنها التي تُعنى أكثر بحكمة العالم القديم والطبيعة كديانة الآلهة القديمة في شمال «وستروس»، ومنها التي يشغلها تقديم القرابين وتحقيق النبوءات كديانة إله الضياء في «إسوس»، لكن أكثر ديانة لدينا اطلاع عليها هي ديانة الآلهة السبعة، التي يعتنقها أغلب أهل «وستروس» ويُطلقون عليها «العقيدة».

«العقيدة» تدين لإله واحد له سبعة وجوه مختلفة، هي الأب والأم والعجوز والعذراء والمحارب والحدَّاد والغريب، كتابها المقدس يسمى «النجمة السباعية»، وتعاليمها تدعو إلى التواضع والتسامح والعدل وغيرها من قيم الخير،  وإن كان لا يبدو أن هذه القيم شقَّت طريقها حقًّا إلى قلوب الحكام والعامة على حد سواء إلا في حالات نادرة، وهو الوضع الذي يسعى الرجل الأشيب الذي سيصبح لقبه «العصفور الأعلى» إلى تغييره بإرادة من حديد، فمن هو هذا الرجل؟

إجابة هذا السؤال محفوفة بالغموض، في الوقت الحالي على الأقل، فعلى عكس أغلب شخصيات هذا العالم، لا نعرف عن الرجل أكثر من وصف مقتضب لملامحه، وثيابه شديدة التواضع الأقرب إلى الأسمال، أما اسمه فنجهله، وتاريخه لا نعرف عنه إلا النزر اليسير الذي قاله هو، إنه «سبتون» أو «كاهن»، اعتاد أن يتجول بين القرى الصغيرة التي ليست بها معابد لأداء الواجبات التقليدية، من طقوس الزفاف وتسمية المواليد والإبراء من الذنوب.

في المسلسل، يحكي الرجل عن أصله وبداياته، لكن ليس لنا أن نثق بكلامه، لأنه يحكي قصتين متضاربتين لشخصيتين مختلفتين، وإن لم يعُد هذا يهم كثيرًا بما أن قصته انتهت هناك، بينما يبدو أنها بلغت ذروتها في الكتب، لكن لنعود إلى البداية.

تبعات الحرب: الصحوة الدينية في «كينغز لاندنغ»

الصورة: HBO

خلال حرب الملوك الخمس ارتُكبت فظائع شتى من جميع الأطراف دون استثناء، فظائع عانى منها العامة (كالمعتاد) أكثر من غيرهم بكثير، أكثر من البلاط الملكي واللوردات والفرسان، وممَّن يجب عليهم أن يحموهم، وأحيانًا على يد من يُفترض أن يحموهم. قُتل الأطفال واغتُصبت النساء وهُدمت البيوت وأُحرقت الحقول وسُممت الآبار، ولم يجد الفقراء إلا قلائل يدافعون عنهم، وكما يحدث في عالم الواقع حينما تتأزم الأمور إلى هذه الدرجة، لا يكون أمامهم من ملاذ إلا الدين.

قد يهمك أيضًا: 6 اختلافات أساسية بين الدين والروحانية

لم تأخذ «سرسي» العصافير التي بدأت تتكاثر في شوارع العاصمة بجدية، وركزت انتباهها على الأسماء المطروحة لشغل منصب العصفور الأعلى.

دخل الرجل ذو الاسم المجهول العاصمة على رأس مجموعة كبيرة من «العصافير» الذين انضموا إليه على الطريق. العصافير هم أفقر أتباع «العقيدة»، عقيدة الآلهة السبعة، ويطلقون على أنفسهم هذا الاسم لأن العصفور أكثر الطيور تواضعًا وشيوعًا، وكذلك هُم.

في ذلك الحين كان اثنان ممَّن يحملون لقب «السبتون الأعلى»/الكاهن الأكبر قد ماتا خلال فترة قصيرة، الأول قتله الغوغاء في أحداث شغب لمَّا رأوا بدانته المفرطة وثيابه الفاخرة فيما يتضورون هم جوعًا، والثاني اغتيل بأمر من الملكة «سرسي»، التي قررت أن تؤمِّن عرش ابنها الملك «تومن» بتحالف مع «العقيدة» فور انتخاب «السبتون الأعلى» الجديد، والذي يجب أن يكون على هواها بالتأكيد.

لم تأخذ «سرسي»، الملكة الأم، العصافير التي بدأت تتكاثر في شوارع العاصمة بجدية، وركزت انتباهها على الأسماء المطروحة لشغل المنصب الحساس، الذي يشبه منصب بابا الفاتيكان في عالم الواقع، وكيفية استمالة أو ابتزاز كلٍّ منهم بما يخدم أهدافها، بما أن الفساد متفشٍّ حتى الجذور في المؤسسة الدينية، وهو ما ينبغي استغلاله.

وبينما اجتمع أعضاء «مجلس العقيدة» للتشاور، اقتحم العصافير عليهم المكان بالفؤوس، حاملين الرجل ذا الاسم المجهول على الأعناق ومطالبين بأن يشغل هو منصب «السبتون الأعلى»، لأنه الوحيد الذي يستحقه، الوحيد الذي نفَّذ تعاليم دينه واعتنى بالضعفاء والمساكين، بينما ينعم ذوو المناصب بالحياة المترفة.

كانت أعداد العصافير قد تضاعفت مرارًا، وانضمت إليهم جحافل من الفقراء والشحاذين، وهو ما دفع الجميع إلى الرضوخ وإعلان الرجل «السبتون الأعلى»، وكانت هذه الحادثة بداية تغيير شامل في أمور ديانة الآلهة السبعة والحياة والسياسة في العاصمة «كينغز لاندنغ»، وبسببها أطلق مهرج البلاط الملكي ساخرًا على الرجل اسم «العصفور الأعلى».

تحالف السلطة والدين: اللعبة الخطرة

الصورة: HBO

في الرواية، لم يضيع «العصفور الأعلى» وقتًا فور أن شغل منصبه، وبدأ يبيع التيجان الذهب التي يعتمرها الكهنة وثيابهم وممتلكاتهم الثمينة، بالإضافة إلى تاج «السبتون الأعلى» البلوري، وارتدى ثوبًا متواضعًا من الصوف دون أن ينتعل حذاء، وأرغم الباقين على أن يفعلوا مثله كما يجدر بممثلي «العقيدة»، الذين يجب أن يكونوا آية في التواضع.

كلما تكلم «العصفور الأعلى» يقول إن هدفه أن يسود عدل الآلهة على الجميع، ويستغل سمة كل إله لتحقيق هذا.

سريعًا كذلك نزل الرجل إلى ملعب السياسة. من ناحيتها، تريد «سرسي» تأمين حُكم ابنها، ومن ناحيته، يريد «العصفور الأعلى» أن يؤمِّن وجود أتباعه ويطبِّق تعاليم الدين جبرًا. وعليه، كانت الصفقة بين الاثنين أن تعفو «العقيدة» عن المبلغ الذي يدين لها به العرش، ويبلغ أكثر من مليون قطعة ذهبية، مقابل أن يسمح العرش بإعادة تشكيل «جنود العقيدة»، الجناح العسكري للمؤسسة الدينية، الذي كان قد حُلَّ قبل مئتي عام أو يزيد.

وافقت «سرسي» بحماقة معهودة، متصورةً أن ضررًا لن يمسَّها، لكن أحداث رواية «وليمة للغِربان» لا تنتهي قبل أن تجد الملكة الأم نفسها سجينة مُهانة ومتهمة بعدد من الجرائم، تتراوح بين قتل الملك «روبرت» والزنا، وتضطر إلى أن تخوض «مسيرة التوبة» في سبيل العودة إلى القلعة انتظارًا لمحاكمتها.

قرر «العصفور الأعلى» تطهير البلاط الملكي نفسه من الفساد، ولم تكن «سرسي» الوحيدة التي تعرضت لبطشه، بل طالت يده أيضًا الملكة «مارجري»، وعددًا كبيرًا من السادة والسيدات والفرسان، وهكذا يكون قد نجح في فرض سيطرته على كبار العاصمة وصغارها، وأصبح لديه جيش صغير، ويسعى إلى مد نفوذه إلى بقية البلاد.

النهاية الضرورية

الصورة: HBO

كلما تكلم «العصفور الأعلى» يقول إن لا هدف له إلا أن يسود عدل الآلهة على الجميع، ويستغل الرجل سِمة كل إله لتحقيق هذا، فيمزج بين الصبر والرحمة والعنف، ولا يتردد في التنكيل بمن يثبت ذنبهم، وإن كان يريهم أحيانًا لمحة من العفو.

هل كان الرجل يسعى إلى الحكم المطلق للدين حقًّا أم أن له غرضًا آخر؟ هل هو الوصول إلى الحكم بأي وسيلة؟ وهل اختار الدين لأنه، في عالمَي الواقع والخيال، الطريق الأقصر للتلاعب بمشاعر الناس واستغلالهم في تحقيق الأهواء؟

ما زالت إجابات هذه الأسئلة مجهولة، وهو ما دفع كثيرين من القراء إلى التكهن والتخمين ووضع عدة نظريات قد تفسر شيئًا من أهداف الرجل.

اقرأ أيضًا: الخوف في خدمة النظام: كيف تستفيد الأنظمة من رهبة الشعوب؟

من شاهدوا المسلسل يعرفون كيف كانت نهاية «العصفور الأعلى»، لكن حتى تصدر الرواية الجديدة من سلسلة «جورج آر. آر. مارتن»، يبقى متابعو قصته على الورق منتظرين، وإن كانت النهاية في المسلسل قريبة من حدث تاريخي مذكور في الروايات، عندما اشتدت شوكة «العقيدة» في عهد الملك «ميجور تارغاريَن الأول»، واستحوذ رجالها على «معبد الذكرى» في العاصمة، ودارت هناك معركة انتهت بأن امتطى الملك تنينًا وأحرق المعبد بمن فيه، بينما تصيَّد الرماة من حاولوا الهرب.

لا أحد يضمن أن تكون نهاية «العصفور الأعلى» في الروايات هي نفسها نهايته في المسلسل، أو أن تتكرر محرقة ميجور تارغاريان، خصوصًا أن القصة تفرعت كثيرًا بما لا يتيح هذا، لكن شخصيته تظل إحدى أبرز الشخصيات في الروايات، ولا شك أن المؤلف يعرف كيف يكتب نهاية مُرضية لها، وإن كانت نهايته بالتفجير هي الحل الوحيد لمأزق حضوره وأثره وسلطته، وهي أيضا الأكثر إرضاءً للجميع.

هشام فهمي