بورتريه تاريخي: ملامح تشكُّل الفن العربي في بداية القرن العشرين

زينب أبو حسين
نشر في 2017/10/23

منمنمة للفنان الجزائري محمد راسم

«الفنون الجميلة» كما هي معروفة اليوم في العالم العربي، نشأت متأخرةً نتيجةً للظروف السياسية والاجتماعية. هذا لا يجب أن ينفي وجود وانتشار الفن بشكل عام، فالفنون في المنطقة العربية لها تاريخ مديد وعريق، وكثير من أشكال الفنون نشأت أو تطورت في مصر وبلاد الرافدين والشام.

كانت الفنون في العالم العربي قبل القرن العشرين عبارة عن حِرف وصناعات، ولم يكن الاهتمام بها كما هو الحال الآن. لا يوجد تأريخ للفنانين والحرفيين في العالم العربي قبل القرن العشرين، فضلًا عن أنه لم يصلنا من هذه الفترة إلا قليلًا من الأعمال. ربما كان ذلك بسبب موقف الدين الإسلامي من الرسم والتصوير، الذي جعل الفن الإسلامي والعربي يبتعد عن النحت والتصوير ويكتفي بالزخارف والخط والأشكال الهندسية المجردة.

يمكن أن نفترض سببًا آخر هو أن الفنون، مثل الرسم والخط، كانت مكلفة لذلك اقتصرت على من يملكون المال. ثم إن التخريب والحرق خلال النزاعات والحروب ضيَّع الكثير من الأعمال، وربما لم تساعد البيئة المناخية على الحفاظ على الأعمال الفنية، وهكذا لم يصلنا منها سوى القليل.

من الصعب فصل الفن العربي عن الفن الإسلامي، فالإسلام هو الدين السائد في المنطقة العربية، لكن هناك فنونًا بعينها ازدهرت في المنطقة العربية تحديدًا، منها الفخار والخزف في الشام وبلاد الرافدين. ومن المعروف أن عجلة الفخار اختُرعت في ما يُسمى بالعراق حاليًّا (ما بين النهرين) قبل الميلاد بأكثر 3500 عام.

أما الزليج (نوع من الموزاييك/الفسيفساء المنتظم الدقيق) في المغرب فهو من الفنون الزخرفية الراقية التي انتقلت إلى أوروبا عبر الأندلس. ولدينا أيضًا الخط العربي، الذي رغم ازدهاره في تركيا فهو فن عربي. ولدينا زيادة على ذلك المنمنمات عربية الطراز التي تختلف عن المنمنمات التركية والفارسية.

هناك فنون كثيرة نشأت في المنطقة العربية قبل العصر الإسلامي، مثل رسم الأيقونات الدينية المسيحية، الذي ازدهر في مصر ثم باد، ورسوم البورتريهات الفنية في مصر، وخير مثال عليها «وجوه الفيوم»، حتى لو لم تكن المنطقة عربية في تلك الفترة.

كان الرسم على الجدران في العصر القبطي يحدث بطريقة تقليدية، بواسطة ألوان الأكاسيد على الجدران المكسية بطبقة من الجبس، وهذه الطريقة ظلت متبعة بين مسيحيي الشرق والغرب حتى طُوِّرت في عصر النهضة.

الفنون الجميلة بمفهومها الحالي تضم اللوحات المِسنَدية (المُعلَّقة) والتماثيل النحتية وغيرها من الأشكال، لكن كيف كانت البداية؟ متى عرف العالم العربي اللوحة المِسنَدية؟ ومتى ظهر مصطلحا الفن التشكيلي والفنون الجميلة؟

الواضح أن مفهوم الفن التشكيلي ومصطلح الفنون الجميلة عُرِفَ عند العرب عن طريق المستعمر الأجنبي، حين افتتح المستعمرون صالوناتهم الفنية وعرضوا أعمالهم، سواء كانت استشراقيه أو غيرها.

لا يمكن الحديث عن تطور الفنون في العالم العربي بمعزل عن الأحداث التاريخية التي حدثت فيه، لأنها بدأت في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وتزامنت مع الحربين العالميتين، ثم واكبت النضال العربي من أجل الاستقلال.

في بدايات القرن العشرين وحتى ستينياته، كانت الحركة الفنية لا زالت وليدة، لكنها كانت تنمو بسرعة وبشكل صحي وملامح عربية خالصة. كانت الحركة التشكيلية وليدة الوعي بأن الفن ابن المجتمع، وإذا أردنا أن تكون لنا هويتنا المستقلة يجب أن يكون لنا فننا الخاص، النابع من وطننا الذي نسعى لاستقلاله.

في هذه الدراسة سنلقي الضوء على بعض اللمحات من بدايات الحركة التشكيلية في العالم العربي. نبدأ بالمشرق متمثلًا في العراق، ثم نتجه إلى فلسطين ولبنان، ومنها إلى مصر فتونس والجزائر، ونضيء بقعة تشرح تكوُّن الهوية الفنية العربية في بدايات القرن العشرين.

العراق: السجين السياسي المجهول

لوحة «River Scene on the Banks of the Tigris» للفنان العراقي عبد القادر الرسام - الصورة: Arab Museum of Modern Art

ربما يكون فائق حسن مؤسس فن الرسم في العراق، وقد اعتز بالبيئة العراقية وبرسم الواقع.

خلال الفترة بين الحربين العالمية الأولى والثانية، كانت العراق واقعة تحت الانتداب البريطاني، ثم بدأت الملكية في عام 1932. خلال هذه الفترة حتى ثورة إبريل، شهد العراق بداية الحركة التشكيلية نتيجةً للوعي الاجتماعي والسياسي في البلاد.

من أشهر الفنانين وأوائل التشكيليين عبد القادر الرسام (1882 - 1952). درس عبد القادر الرسم والعلوم الحربية في تركيا، وتأثر بالواقعية الأوروبية، ورسم أول جدارية في مكان عام على جدران سينما رويال في بغداد. وكان عضو شرف لجمعية أصدقاء الفن، وشارك في معارض هذه الجماعة منذ المعرض الأول عام 1941.

في عام 1930، أقيم أول معرض فني زراعي صناعي في العراق، وشارك فيه كثير من فناني الجيل الأول وبعضهم لم يزل مراهقًا، ومنهم جواد سليم الذي فاز بجائزة النحت وقتها. وفي 1941 اندلعت ثورة إبريل، وهو نفس العام الذي افتُتح فيه أول معرض لجمعية أصدقاء الفن، التي تأسست عام 1940 على يد أكرم شكري، أول مبعوث عراقي لدراسة الفن أكاديميًّا في لندن.

لوحة للفنان العراقي فائق حسن - الصورة: mutualart.com

أما فائق حسن فوُلد في بغداد عام 1914، ويعتبره كثيرون المؤسس الأول لفن الرسم في العراق.

كان حسن معتزًّا بالبيئة العراقية وبرسم الواقع، وهو الرسام الأول في العراق بمنحاه الأكاديمي. تخرج في فرنسا عام 1938، وبعد عودته إلى العراق أسهم مع زميليه النحات والرسام جواد سليم، والفنان المسرحي حقي الشبلي، في تأسيس معهد الفنون الجميلة، الذي بدأ كمعهد للموسيقى، وخرَّج أولى دفعاته في عام 1945. كانت لوحات فائق حسن تعبِّر عن العراق الأصيل بخيوله وحياته الريفية وشمسه القوية وأحيائه الشعبية.

أما جواد سليم، فنان الشعب الذي وُلد في 1921 وتوفي عام 1961، فقد درس في باريس وروما ولندن، وشارك في أول معرض للفنون في بغداد، وفاز بجائزة النحت. ويعتبر أحد مؤسسي جمعية التشكيليين العراقيين، وقسم الرسم والنحت في معهد الفنون الجميلة. وأسس مع شاكر حسن آل سعيد ومحمد غني حكمت جماعة بغداد للفن الحديث.

اندلعت ثورة 14 تموز في عام 1958، وبعدها بعام واحد تعاون جواد سليم مع المعماري رفعت الجادرجي والنحات محمد غني حكمت لإنشاء نصب الحرية في ساحة التحرير ببغداد. وفاز تمثاله «السجين السياسي المجهول» بالجائزة الثانية في إحدى مسابقات النحت العالمية، ولدى الأمم المتحدة نموذج مصغر من البرونز لهذا التمثال.

ربطت تماثيل جواد الفن العراقي القديم، من سومر وأشور وحضارات العراق القديم، بالأساليب الحديثة، وأعاد تلك الفنون إلى الحياة في تماثيل بروح عصرية وفنيات عالية، لتكون تماثيله رموزًا عراقية خالصة.

لبنان وفلسطين: ما دام الفن موجودًا، فنحن موجودون

لوحة للفنان اللبناني حبيب سرور

ازدهرت الرسوم الدينية في لبنان وفلسطين كوريث جغرافي لفن الأيقونات الدينية. ففي لبنان، يُعتبر داوود القرم، المولود عام 1852، أحد أقدم الفنانين التشكيلين ورائد الفن اللبناني الحديث. وتتلمذ على يديه عديد من الفنانين، من أمثال عمر أنس وصليبا الدويهي وحبيب سرور. وفي عام 1870، سافر القرم إلى روما من أجل دراسة الفن.

أما فليب موراني فقد سافر إلى باريس عام 1901، ودرس الفن هناك، ونال عدة جوائز فرنسية. أسهم في إنتاج وتصميم بعض الطوابع البريدية اللبنانية، وصمم أحرف عربية للطباعة في الغرب، وساعد في تصميم القاعة الفينيقية في معرض باريس عام 1901.

لعل أحد أهم الفنانين الفلسطينيين مبارك سعد (1880 - 1964)، الذي عمل على حفظ القطع الفنية الأثرية في متحف روكفيللر في القدس. كان مبارك سعد نحاتًا ورسامًا محترفًا ذا مقدرة أكاديمية عالية.

قد يعجبك أيضًا: ما الفن وقد استُهلكت كل الأفكار؟

لوحة «ابن الرسام» للفنان الفلسطيني داوود زلاطيمو - الصورة: jadaliyya.com

نمت الحركة التشكيلية الفلسطينية بعد عام 1948، واعتُبرت الفنون التشكيلية إحدى أنجع سبل المقاومة، فما دام هناك فن فلسطيني، ففلسطين موجودة.

درس داوود زلاطيمو، المولود في القدس عام 1906، في القدس وعاش فيها حتى توفي عام 2001. لكنه سافر إلى بريطانيا ودرس فيها، وحصل على عدة شهادات في الرسم.

بعد عودته إلى فلسطين، درَّس الرسم وعمل على وضع منهاج تعليمي في فترة عمله في وزارة التربية والتعليم، خلال فترة الحكم الأردني. بعدها أصبح مفتشًا على تعليم الحرف اليدوية. ضاعت بعض أعماله بعد معرض في مدينة اللد، التي احتلتها القوات الإسرائيلية.

من بين الرسامين والفنانين الفلسطينيين الأوائل زُلفَى السعدي، المولودة عام 1905، والتي تعلمت الرسم على يد نقولا الصايغ.

كانت السعدي من أوائل الفنانات التشكيليات العربيات، وشاركت بلوحاتها في معرض المعهد العربي عام 1932 في المجلس الإسلامي بالقدس. ونظمت معرضها الشخصي الأول عام 1933، كجزء من المعرض العربي القومي في القدس.

نتيجةً لتعرض الحي الذي تسكنه في القدس لهجمات إسرائيلية، هاجرت إلى دمشق وعملت في تدريس الفن للأطفال اللاجئين في مدارس وكالة «غوث» (الأنروا). تميزت لوحاتها برسم شخصيات عربية مشهورة، وكذلك رسمت الحياة الشعبية من أسواق وغيرها، ورسمت المسجد الأقصى.

لم يشتغل الفنانون في فلسطين على عمل جماعي، ولم يؤسسوا حركة تشكيلية. كانوا مجرد هواة ومهنيين تشكيليين أو رسامي أيقونات في الكنائس. لم تُقم فلسطين معرضًا للفن التشكيلي حتى عام 1948. وقد يكون إسماعيل شموط أول فنان فلسطيني ينظم معرضًا شخصيًّا لأعماله، وكان ذلك في مصر. ازدهرت الحركة التشكيلية الفلسطينية بعد 1948، وكان الفلسطينيون يظنون أن الفنون التشكيلية من أنجع سبل المقاومة، لأنه ما دام هناك فن فلسطيني، ففلسطين موجودة.

مصر: الشعب صاحب التمثال

تمثال «نهضة مصر» للفنان المصري محمود مختار - الصورة: Fortepan

في عام 1882، احتلت بريطانيا مصر. وفي 1891، افتتح الخديوي أول معرض فني، وكان الفنانون المشاركون فيه من الأجانب.وبعد بداية القرن العشرين بثمانية أعوام، أنشأ الأمير يوسف كمال مدرسة الفنون الجميلة في القاهرة، وكان طاقم التدريس كله من الأجانب. وفي عام 1911، تخرجت أول دفعة وكان فيها محمود مختار ويوسف كامل.

مع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914، فُرضت الحماية على مصر. ثم قامت ثورة 1919 وتحولت مصر عام 1922 إلى الملكية. أصبح فؤاد ملك مصر والسودان، وأنشأ أول متحف في مصر عام 1931، وكان للفنانيين المصريين غرفة واحدة فقط فيه.

استمرت الملكية حتى عام 1952، حين انقلب الضباط الأحرار وأعلنوا الجمهورية في 1953، ثم استقل السودان في 1956.

عُرض نموذج تمثال «نهضة مصر» لأول مرة في باريس، ونُحت التمثال ليعبِّر عن ثورة 1919، وقال النحات محمود مختار إن الشعب هو صاحب التمثال.

النحات محمود مختار (1891 - 1934)، صاحب تمثال «نهضة مصر»، هو أول مصري يُبعث لدراسة الفن في الخارج. تلقى أول دروسه في الفن في مدرسة قصر الأمير يوسف كمال بالقاهرة، ثم سافر إلى باريس ودرس فيها، وعاد إلى القاهرة عام 1921، وتردد على باريس إلى أن تُوفي في 1934.

عرض مختار تمثاله «عايدة» في صالون باريس عام 1913. ونلاحظ أنه رغم إقامته في باريس ودراسته فيها، ورغم أنها مركز الحركات الفنية الحديثة، فإنه لم يتأثر بها لأنه لم يرَ نفسه متلقيًا وناسخًا، بل كانت جذور انتمائه وهويته المصرية راسخة فيه. وبسبب أصالة أعماله وحداثتها، فاز بجائزة من معرض صالون باريس عن تمثاله لأم كلثوم عام 1925، ونال الميدالية الذهبية عن تمثال «عروس النيل».

قد يهمك أيضًا: كيف تؤثر فينا الصورة؟

في 1920، عُرض نموذج تمثال «نهضة مصر» لأول مرة في باريس، وفي عام 1928 نُحت التمثال ليأتي معبرًا عن ثورة 1919 وعن آمال الشعب وتطلعاته. ورُوي أن مختار كان يقول: «لست صاحب التمثال، بل الشعب هو صاحبه».

أسهم محمود مختار في إنشاء مدرسة الفنون الجميلة العليا، وجماعة الخيال عام 1929، وفي فترة بين عامي 1930 و1932 نحت تمثال «سعد زغلول»، وتكريمًا له، افتُتح متحف باسمه عام 1952. وهو أول فنان عربي تسنح له فرصة تنظيم معرض شخصي لتماثيله في باريس.

أما يوسف كامل فأحد رواد الفن في مصر، وتخرج في مدرسة الفنون الجميلة ثم سافر للدراسة في روما على نفقته عام 1922، وأوفدته الحكومة المصرية بعدها إلى إيطاليا.

كامل أحد المُسهمين في إنشاء المدرسة الإعدادية بحي الظاهر، وأصبح مدرسًا في القسم الثانوي فيها، زميلًا لعباس العقاد وإبراهيم المازني وأحمد حسن الزيات وفريد أبو حديد ومحمد بدران. وفي عام 1929 صار أحد أساتذة فن التصوير في كلية الفنون الجميلة العليا، ثم أصبح رئيسًا للقسم عام 1937، وهو أول عميد يسمح للبنات بالالتحاق بالكلية.

كان مديرًا لمتحف الفن الحديث بين عامي 1948 و1949، ثم تولى منصب عميد الكلية الملكية للفنون الجميلة عام 1950، حتى تقاعد في 1953. وفي عام 1959، وخلال عضويته بالمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، أسس جائزة لأوائل الطلاب في كلية الفنون الجميلة تحمل اسمه.

كان يوسف كامل فنانًا تأثيريًّا، لكنه كان مصريًّا خالصًا، ونجد ذلك في تجلي شمس وادي النيل في أعماله، إضافةً إلى أن استخدامه اللونين الأسود والبني مخالف للمدرسة التأثيرية. ونجد في أعماله البيئة المصرية الأصلية بأحيائها وأسواقها ومنازلها.

لوحة الفنان المصري محمود سعيد «بنات بحري»

تعتبر لوحتاه «الشادوف» و«الدراويش» أغلى لوحتين لرسام من الشرق الأوسط في العالم.

أما محمود سعيد (1891 - 1934) فيعتبر من أوائل مؤسسي المدرسة المصرية التشكيلية الحديثة، وهو أول فنان تشكيلي يحصل على جائزة الدولة التقديرية للفنون. وكان قد درس القانون في فرنسا، وعندما رجع إلى مصر عمل مستشارًا، لكنه ترك عمله وتفرغ للفن في 1947.

تعلم سعيد الأساليب والمدارس الغربية وتأثر بها، لكنه وظفها بشكل يخدم قوميته ووطنيته، ونلاحظ أنه تأثر بفن التصوير الفرعوني، فجاءت لوحاته ممثلة للشعب المصري بكل طوائفه وأشكاله. أيضًا، اهتم بالمرأة في لوحاته واعتز بملامحها الأصيلة، واعتبرها رمزًا للهوية والوطنية، خصوصًا بعد ثورة 1919، ونرى ذلك بشكل واضح في لوحاته «نبوية» و«بنات بحري» و«بنت البلد». وتعتبر لوحتاه «الشادوف» و«الدراويش» أغلى عملين لرسام من الشرق الأوسط في العالم.

اقرأ أيضًا: كيف تشارك الثوريون والفنانون في إطلاق «السريالية»؟

الجزائر: المنمنمات كشكلٍ للمقاومة

لوحة للفنان الجزائري مصطفى بن دباغ

كانت الجزائر واقعة تحت الاحتلال الفرنسي منذ عام 1830، لكن حركة المقاومة فيها أثرت بشكل كبير في الحركة الفنية، فالفنان الجزائري آمن أن الفن شكل من أشكال المقاومة. وفي السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، تأسس صالون الفنانين المستشرقين الجزائريين.

سعى فنانو الجزائر إلى إبراز الهوية العربية في لوحاتهم، لتكون في مواجهة اللوحات الاستشراقية. ويعتبر محمد راسم (1896 - 1975) مؤسس مدرسة المنمنمات الجزائرية، وقد جعل لها هويتها الجزائرية المختلفة عن المنمنمات التركية والفارسية.

اعتنى راسم بالمنمنمة وقدمها كلوحة تشكيلية بكل صفات اللوحة الحديثة، ووفق القواعد الفنية والتقنيات والنظريات اللونية الحديثة، فأضاف إلى هذا الفن وطوره وحدثه دون أن يستغني عن أصالته.

رسم محمد راسم أول منمنمة عام 1917 تحت عنوان «حياة شاعر». وفي عام 1933، حصل على وسام المستشرقين والجائزة الفنية الكبرى للجزائر. وأنشأ مع وشقيقه عمر مدرسة الفنون الزخرفية والمنمنمات الإسلامية، ويرجع إليهما فضل تخريج عدد كبير من الفنانين الذين أضافوا إلى هذا الفن وحافظوا عليه.

كان الفنان الجزائري محمد تمام يُمعن في الارتباط بالتراث العربي الإسلامي، وفي ذات الوقت كان متابعًا ومستفيدًا من تطور الفن الغربي وتقنياته ومفاهيمه.

أما مصطفى بن دباغ، مواليد 1906، فهو أول مدرس جزائري في مدرسة الفنون الجميلة، وقبله كان المدرسون جميعًا فنانين أجانب، لأنه نبغ وتقدم في الإبداعات الزخرفية، مما جعل السلطات تسعى للاستفادة منه.

استخدم بن دباغ فنه للوقوف في وجه محاولات إلغاء واستبدال وإعادة كتابة التاريخ الجزائري، التي نفذتها فرنسا من أجل ضم الجزائر إليها. وهو مؤسس جمعية شمال إفريقيا للفنون الزخرفية، التي أبدل الاستعمار اسمها إلى «إيتيان دينيه»، ثم تحولت إلى جمعية الحرفيين المسلمين الجزائريين.

اهتم محمد تمام، الذي وُلد في 1915، بالزخرفة الإسلامية، ودرس على يد الأخوين راسم وفي المدرسة العليا للفنون الزخرفية في باريس عام 1936، وقضى في فرنسا 27 عامًا. عمل أستاذًا للزخرفة والمنمنمات في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة عام 1967، وأسهم في تأسيس الاتحاد الوطني للفنون التشكيلية في الجزائر. وكان يُمعن في الارتباط بالتراث العربي الإسلامي، وفي ذات الوقت يتابع ويستفيد من تطور الفن الغربي وتقنياته ومفاهيمه.

تونس: تأميم «الصالون التونسي»

لوحة «قصر باب سويقة» للفنان التونسي يحيى تركي - الصورة: artnet.com

دخلت تونس تحت الحماية الفرنسية عام 1881، ويقال إن اللوحة المِسنَدية عُرفت في تونس مع أحمد عصمان في ستينيات القرن التاسع عشر، فهو أول تونسي يرسم بالألوان الزيتية حسب القواعد والتقنيات الغربية.

نُظِّم أول معرض فني في تونس عام 1894، وكان للأجانب، وهم فقط من عرضوا لوحاتهم، ثم تحول إلى معرض سنوي تحت اسم «الصالون التونسي»، وهو أول صالون رسمي في شمال إفريقيا. أُسِّس هذا الصالون ضمن خطة فرنسية تستهدف إلى استقطاب الفنانين الفرنسين لتونس من أجل تعميرها. وفي عام 1897، عُرضت في الصالون لوحات لفنانين مستشرقين وآخرين فرنسيين مستوطنين في الجزائر. وكان عبد الوهاب الجيلاني، الملقب بعبدول، أول تونسي مسلم يشارك فيه عام 1912.

اقرأ أيضًا: غرافيتي الشارع التونسي: المقاومة على طريقة «مررنا من هنا»

أما يحيى التركي، أبو الرسم التونسي، فقد وُلد عام 1903. وكان اسمه يحيى بن محمود الحجام. قُبلت أعماله في الصالون التونسي عام 1923، ثم سافر في منحة دراسية إلى باريس، وشارك في المعرض الاستعماري للفنانين الفرنسين وفي صالون المستقلين. بعد عودته إلى تونس، أسهم في تأسيس مدرسة تونس عام 1949. وبعد الاستقلال تولى رئاسة المدرسة منذ عام 1956 حتى وفاته في 1969، وكان قد صار نائبًا لرئيس الصالون التونسي.

...

لم ينفصل الاستقلال السياسي عن الاستقلال الثقافي والفني، بل انطبع في أعمال الجيل الأول للفنانين العرب، وانعكس على لوحاتهم وحركاتهم الفنية وفلسفاتها.

معظم فناني الجيل الأول من العرب سافر إلى الخارج ودرس في المعاهد الأوروبية في فترة نشأة الاتجاهات الفنية الحديثة والحركات الفنية المبتدَعة، مثل «الدادائية» وغيرها. كانت فترة ظهور حركات فنية مناهضة للفن الأكاديمي والفن القائم على أصول وقواعد، كرفضٍ لكل أشكال الأنظمة، سواء كانت سياسية أو أكاديمية. كانت فترة رفض «الفن الأصيل» واستبداله بفن الكولاج والمواد المصنعة والجاهزة وفنون «البوب آرت» (فنون الثقافات الشائعة Pop Culture).

قد يهمك أيضًا: «الدادائية»: الحركة الفنية التي تمردت على المنطق والمعنى

لم يكن الجيل الأول من فناني العرب مقلدًا أو تبعيًّا، ولم يأخد تلك الحركات الفنية كقانون أو دستور يجب اتباعه، بل كانوا متلقِّين ومبدعين وغير مقلدين. كان الجيل الأول يعي ظروفه الاجتماعية والسياسية، ويعي أن الحفاظ على الهوية الخاصة في جميع المناحي الثقافية من رسم وأدب، من مسؤولياته الأساسية.

وعى الجيل الأول للفنانين العرب مسؤولياته، وعَلِم أن عليه الارتقاء بالمجمتع والتقدم به مدنيًّا وثقافيًّا، والاستقلال والتخلي عن الاتباع، وتكوين هوية معبرة عن الإنسان العربي وهمومه وأحلامه وتصوراته عن الكون. الاستقلال السياسي لم يكن منفصلًا عن الاستقلال الثقافي، وبالتالي الفني. انطبع كل ذلك في أعمالهم، وانعكس على أفكارهم التي عبَّروا عنها في لوحاتهم وحركاتهم الفنية وفلسفاتها ورؤيتها. من المدهش فعلًا أن نرى وعي الجيل الأول من الفنانين التشكيلين، وكيف صنعوا لأنفسهم هوية تشكيلية عربية سارت وتشكلت ونمت وأنجزت أعمالًا عظيمة.


هذا الموضوع نتاج فكرة اقترحها أحد قرَّاء «منشور»، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.

زينب أبو حسين