قبل خمسة أعوامٍ، جلس دونالد ترامب في حفل عشاء مراسلي البيت الأبيض، يتلقّى سخرية الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، بوجهٍ جادٍ وممتقع لا يبدو عليه تقبّل النكات. سخر أوباما حينها من سعي ترامب لإثبات أنه لم يولد في الولايات المتحدة، ومن اهتمامه بالقضايا التافهة، وواصل مستضيف الحفل سيث مايرز ما بدأه الرئيس قائلًا: «يقول ترامب إنه ينوي الترشح للانتخابات الرئاسية ممثلًا للحزب الجمهوري، وهو أمر مفاجئ بالنسبة لي؛ كنت أظن أنه سيترشح كنكتة». لكن ترامب عاد بعدها ليصدم العالم ويفوز برئاسة الولايات المتحدة، لتنقلب النكتة واقعًا بالنسبة إلى الجميع.
اقرأ أيضًا: أنا عربي، والكثير مِنَّا سعداء بفوز ترامب
حكومة مستقبلية على قدر الجنون
حين يتولى ترامب الرئاسة، سيتخلص من هواجسه بخصوص محل ميلاد الرئيس السابق له، بعد أن اعترف بكونه أمريكي المولد، لكنه سيتفرغ للاهتمام بمحل ميلاد كلّ من تطأ قدمه أرض أمريكا، وبديانته أيضًا؛ فالرجل الذي نادى بمنع دخول المسلمين للولايات المتحدة جلب مستشارًا للأمن القومي، مايكل فلين (Michael Flynn)، الذي وصف الإسلام بـ«السرطان»، ونشر على حسابه في «تويتر» في فبراير الماضي فيديو بعنوان: «الخوف من الإسلام أمرٌ منطقي».
Fear of Muslims is RATIONAL: please forward this to others: the truth fears no questions... https://t.co/NLIfKFD9lU
— General Flynn (@GenFlynn) February 27, 2016
وصف ترامب اتفاقية الولايات المتحدة مع إيران بخصوص الملف النووي ورفع العقوبات الاقتصادية بأنها «أغبى اتفاقية على مر التاريخ»، بل وأشار إلى إمكانية الانسحاب من الاتفاقية. وعلى الدرب نفسه، عيّن الجنرال جيمس ماتيس (Jamis Mattis) وزيرًا للدفاع، وهو الرجل المعروف بانتقاداته الشديدة لإدارة أوباما فيما يتعلق بملف إيران النووي، ذلك بجانب تصريحاتٍ أخرى مثيرة للجدل؛ مثل وصفه إطلاق النار على مقاتلي طالبان بـ«الأمر الممتع». على الناحية الأخرى، خرج وزير الدفاع الإيراني ليعلن أن أي حربٍ على دولته ستشعل المنطقة، وستؤدي إلى تدمير إسرائيل ونشوب حربٍ عالمية جديدة.
التقارب الأمريكي الروسي، بجانب تصريحات ترامب السابقة بالتخلي عن الناتو، قد يدلُّ على أن خريطة العالم السياسية على وشك التغيّر بتولّيه الرئاسة.
خرج ترامب بتصريحاتٍ يعلن فيها احتمالية تنصُّله من الدفاع عن أعضاء حِلف الناتو؛ بسبب عدم التزامهم بالواجبات المالية فيما يخص الإنفاق العسكري، في الوقت الذي قد تكون فيه بعض هذه الدول في أشد الحاجة لقوات الناتو. في هذه الحالة، قد يكون ترامب وجّه دعوةً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمواصلة الزحف على أراضي الاتحاد السوفييتي السابقة بعد تدخله في أوكرانيا، ويبدو أن بوتين يحاول التأكد من مدى صدق الدعوة ببعض المناورات العسكرية التي يجريها في بحر البلطيق، بالقرب من ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، أعضاء الناتو؛ ليختبر إن كانت الولايات المتحدة ستتدخل للدفاع عنها.
ترامب لم يحاول على الإطلاق إخفاء إعجابه بالرئيس الروسي، مُثنيًا على قيادته أحيانًا، ومدافعًا عنه في أحيانٍ أخرى، ولم يُخفِ أنه قد تواصل مع بوتين شخصيًا، دون أن يوضّح ما دار في محادثتهما، لكنه عاد لينكر ذلك، الأمر الذي يبرز العلاقة المريبة بينه وروسيا، كما أعلن ترامب أنه سيسعى لتخفيف حدة التوتر في العلاقات الأمريكية الروسية، وهو ما قد بدأ فيه بالفعل قبل تسلّمه الرئاسة؛ باختياره ريكس تيلرسون (Rex Tillerson) ليكون وزير خارجيته، ويُعرف عن تيلرسون، المدير التنفيذي لشركة «إكسون موبيل» (Exxon Mobil)، بأنه على علاقةٍ طيبة بالرئيس الروسي بوتين، الذي قلّده «وسام الصداقة الوطني» عام 2013. هذا التقارب الأمريكي الروسي، بجانب تصريحات ترامب السابقة بالتخلي عن الناتو، قد يدلُّ على أن خريطة العالم السياسية على وشك التغيّر بتوليه الرئاسة.
ترامب، الذي اتُّهم بالعنصرية ضد النساء؛ بسخريته منهن، وبالتفاخر بقدرته على التحرش بهن بسبب ثرائه، جلب آندي بوزدر (Andy Puzder) وزيرًا للعمل، وهو المدير التنفيذي لسلسة مطاعم تعتمد في إعلاناتها على فتياتٍ يرتدين «البكيني» بينما يأكلن البرغر، وهو فخورٌ بهذه الإعلانات ويرى أنها أمريكية الطابع.
اقرأ أيضًا: 3 مشاهير احتقروا النساء وعظَّمتهم الجماهير
محاولات الهروب من المستقبل الترامبي
كل هذا الجنون جعل بعض الأمريكيين يرفض هذا الواقع، وبخاصةٍ أن فوز ترامب ليس نهائيًا؛ نظرًا للطريقة التي تُقام بها الانتخابات الأمريكية؛ فالأمريكيون ينتخبون 538 عضوًا يشكّلون مَجْمَعًا انتخابيًا ينتخب بدوره الرئيس. فاز ترامب بـ306 أصوات في هذا المجمع؛ ما يضمن له نظريًا حصوله على كرسي الرئاسة، لكن الأمر لن يُحسم قبل التاسع عشر من ديسمبر، موعد اجتماع أعضاء المجمع الانتخابي لاختيار الرئيس.
وعلى الرغم من أن دور هذا المجمع كان روتينيًا على مدار السنوات السابقة، لكنه اكتسب أهميةً بعد الانتخابات الحالية، فـما زال بعض الأمريكيين يأملون في حدوث ما يحوّل مسار الانتخابات إلى فوز مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، بل إن هناك عريضة على الإنترنت تطالب أعضاء المجمع الانتخابي بتحقيق ذلك، وقّع عليها أكثر من 4.8 مليون شخصٍ، وخرج المخرج الأمريكي مايكل مور، الذي توقع فوز ترامب بالانتخابات، ليعلن أنه يتوقع ألا يسمح المجمع الانتخابي لترامب أن يكون رئيسًا.
وفقًا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، فروسيا قد تدخلت في الانتخابات الأمريكية لمساعدة ترامب على الوصول للرئاسة.
ما يمنح هذه التوقعات والمطالبات بُعدًا قد يكون واقعيًا، ولا يجعلها مجرد حالة إنكارٍ للواقع، هي عدّة عراقيل ستواجه ترامب قبل وصوله للبيت الأبيض واستقراره في المكتب البيضاوي، بعضها قد تحوَّل بالفعل لمصدر قلقٍ بالنسبة لأعضاء المجمع الانتخابي، وهي:
1- الدَفعة الروسية نحو كرسي الرئاسة
وفقًا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، فروسيا قد تدخلت في الانتخابات الأمريكية لمساعدة ترامب على الوصول للرئاسة؛ فبعد تسريب آلاف الرسائل من البريد الإلكتروني الخاص باللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، وحساب رئيس الحملة الانتخابية لهيلاري كلينتون، رصدت الوكالة أن الأشخاص الذين نفذوا الهجوم على صلةٍ بالحكومة الروسية، وأنهم جزء من عمليةٍ هدفت إلى الإضرار بحملة كلينتون لصالح ترامب. على الناحية الأخرى، ترامب الذي يُنكر هذه الاتهامات بينما يهاجم الـCIA، هو نفسه الذي وقف بعد حدوث التسريبات في أثناء الحملة الانتخابية لـيناشد روسيا نشر الرسائل الإلكترونية الخاصة بكلينتون، إن كانت تمتلكها.
قد يهمك أيضًا: ربما يصبح العالم أكثر سلامًا تحت حكم المجانين
علاقة ترامب المريبة ببوتين، دفعت أعضاء المجمع الانتخابي من كلا الحزبين إلى المُطالبة بأن يحصلوا على نسخٍ من تقارير الـCIA التي تشير إلى مساعدة روسيا في ترجيح كفة ترامب، الأمر الذي يجب أن يجعله قلقًا تجاه يوم انعقاد المجمع الانتخابي.
2- شوشرة في المجمع الانتخابي الأمريكي
الأمر بدأ قبل مُستَهَلِّ الانتخابات نفسها؛ فحتى قبل إعلان نتائج التصويت في الولايات الأمريكية المختلفة، أعلن خمسة من أعضاء المجمع الانتخابي نيتهم ألا يلتزموا بالتصويت للمرشحين الفائزين في ولاياتهم؛ وانقسموا بين معارضي ترامب ومعارضي هيلاري، لكن الوضع أصبح أكثر تنظيمًا بعد فوز ترامب في الانتخابات الأولية، فسرعان ما تكونت مجموعة من أعضاء المجمع الانتخابي تُعرف بـ«مجموعة هاميلتون»، تسعى لتشكيل أغلبية من المصوتين تختار مُرشحا آخر توافقيًا، حتى لو كان من الحزب الجمهوري، لكن «مجموعة هاميلتون» لم تعلن ما إذا كانت قريبة من تحقيق هدفها أم لا، ولم تُكشَف سوى أسماء أربعة أشخاصٍ منها فقط.
بالإضافة إلى ذلك، زعم لاري ليسج (Larry Lessig)، الأستاذ بكلية الحقوق في جامعة هارفارد، أن هنالك بين عشرين إلى ثلاثين عضوًا جمهوريًا في المجمع الانتخابي يفكرون في عدم التصويت لترامب، لكنه لم يقدم أية أدلةٍ على صحة مزاعمه سوى أنه يدعم بعض هؤلاء المصوتين قانونيًا، فيما يتعلق بمخالفة التصويت للمشرح الفائز في ولاياتهم.
تختلف القوانين التي تتعامل مع أعضاء المجمع الذين لا يلتزمون بالتصويت للمرشحين الفائزين في ولاياتهم، وفقًا لهذه الولايات، فهنالك 29 ولاية فقط تلزم مندوبيها بأن يصوتوا للمرشح الفائز، لكن أغلبها يعاقب المصوتين الذين يخالفون رغبة ولاياتهم قانونيًا بعد إجراء التصويت، وهي التضحية التي يراها البعض هيّنة أمام تفادي تولي ترامب رئاسة أمريكا، وبخاصةٍ أن هذه العقوبة تقتصر على غرامةٍ مالية في أغلب الولايات.
3- رئيس الولايات المتحدة أم رجل الأعمال؟
مصالح الرئيس الاقتصادية بالخارج قد تؤدي إلى تقييد قراراته السياسية، وهو ما يثير مخاوف الأمريكيين من مدى استقلال قرار رئيسهم.
كان من المفترض أن يعقِد ترامب مؤتمرًا صحافيًا يُعلن فيه خططه لتسوية مشكلة تضارب المصالح بين رئاسته للولايات المتحدة وتملّكه مؤسسة ترامب، لكنه أجّل هذا المؤتمر إلى يناير المقبل، لذا سينعقد المجمع الانتخابي دون أية ضماناتٍ لتفادي استغلال المنصب الرئاسي لزيادة أرباح مؤسسة ترامب، لكنه بدلًا من ذلك أعلن على حسابه على «تويتر» أنه سينقل ملكية مؤسسته لأبنائه، مع الالتزام بعدم عقد صفقاتٍ جديدة في أثناء رئاسته، الأمر الذي يبدو كمزحةٍ سخيفة.
وتضارب مصالح إمبراطورية ترامب مع رئاسته يمتد من الداخل الأمريكي إلى نحو 18 دولة حول العالم تنتشر فيها أعماله، قد تستغلها هذه الدول بغرض الحصول على بعض الامتيازات من رئيس أقوى دولةٍ في العالم. من بين هذه الدول: الصين التي وعد ترامب الأمريكيين خلال حملته الانتخابية بأن يقسو عليها، لكن البنك التجاري والصناعي الصيني المملوك للدولة هو أكبر مستأجر في برج ترامب، ومن المفترض أن ينتهي العقد بينهما في أثناء فترة رئاسة ترامب، فهل سيستطيع أن يقسو على دولةٍ تمتلك شريكًا له بهذا الحجم؟
هذا بالإضافة إلى مشروعات ترامب في الهند التي يشاركه فيها أشخاصٌ مقرّبون لسياسيين هناك، وبرج آخر مملوك لترامب في تركيا، هدد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بإزالة اسم ترامب من واجهته؛ ردًا على دعاوى الأخير لمنع المسلمين من دخول أمريكا؛ فـمصالح الرئيس الأمريكي الاقتصادية بالخارج قد تؤدي أيضًا إلى تقييد قراراته السياسية، وهو الأمر الذي يثير مخاوف لدى المواطنين بشأن مدى استقلال قرار رئيسهم.
Even though I am not mandated by law to do so, I will be leaving my busineses before January 20th so that I can focus full time on the......
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) December 13, 2016
Presidency. Two of my children, Don and Eric, plus executives, will manage them. No new deals will be done during my term(s) in office.
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) December 13, 2016
هل يُمكن ألا يصل ترامب للبيت الأبيض؟
لا توجد سابقة في تاريخ الولايات المتحدة لمخالفة أعضاء المجمع الانتخابي نتيجة الانتخابات الأولية، على الرغم من استطاعتهم من الناحية القانونية، لكن ذلك يُقارب المستحيل عمليًا، على الأقل فيما يتعلق بالانتخابات الحالية؛ فـلكي لا يُعلَن ترامب رئيسًا، يجب أن يفقد أصوات 37 عضوًا في المجمع الانتخابي، أغلبهم من الجمهوريين الموالين للحزب، سيخونون رغبة المصوتين في ولاياتهم إذا قاموا بذلك، ويخونون رغبة أعضاء الحزب.
وإذا اقتصر الأمر على الامتناع عن التصويت، سيؤدي ذلك إلى عدم حصول أيٍّ من المُرشحين على أغلبية المصوتين، ما سيدفع بالانتخابات إلى ملعب مجلس النواب الأمريكي ذي الأغلبية الجمهورية، الذي سيختار ترامب؛ لذا يجب على هؤلاء المصوتين الجمهوريين أن يصوتوا لكلينتون، أو الحل الأصعب: أن يتفق 270 مصوّتًا على مرشحٍ توافقيٍ آخر، وهو ما يأمله أعضاء «مجموعة هاميلتون»، وما يكاد يكون مستحيلًا.
ثمة جدلٌ بشأن الدور الذي يمكن أن يلعبه المجمع الانتخابي بخصوص اختيار الرئيس بعد الانتخابات الأولية. يرى ليسج، أستاذ القانون في هارفارد، أن هذا المجمع لم يُؤسَّس ليكون مجرد ترسٍ في ماكينة اختيار الرئيس، وأنه على الرغم من الالتزام الأخلاقي لأعضاء هذا المجمع بأن يصوتوا للمرشح الفائز في ولاياتهم، فهو يرى أن بإمكانهم ألا يلتزموا بذلك في حالة وجود سببٍ حتميٍّ آخر، مثل أن يكون الشخص الفائز في الانتخابات الأولية غير صالح لرئاسة الولايات المتحدة.
على الأغلب سيبقى كل شيءٍ كما أُريد له أن يكون، فكل ما يدور بشأن احتمالية تعثر ترامب قبل وصوله إلى البيت الأبيض بإرادة المجمع الانتخابي يبدو وكأنه أمرٌ خيالي بعيدٌ عن الواقع، إلا إن الأسباب الجديدة للقلق، التي تدفع الأمريكيين وأعضاء المجمع الانتخابي لمحاولة إبعاد ترامب عن كرسي الرئاسة حتى النَفَس الأخير، قد تجعلنا نترقب نتيجة المجمع يوم التاسع عشر من ديسمبر، حتى مع ضآلة احتمال أن تحدث معجزةٍ ما.