لديك أفكار ومشاعر ورغبات. تتذكر ماضيك، وتتخيل مستقبلك. تبذل أحيانًا جهدًا مميزًا، وفي أحيان أخرى ترغب في الراحة فقط. كل هذه الأمور حقيقية، وكلها تحدث في الوقت نفسه. لكن هل أنت موجود؟ هل شعورك بنفسك وهمي؟ هل هناك شيء في العالم يمكن أن تشير إيه وتقول: هذا أنا؟
تقول الباحثة «كارولين ديسي جينينغز»، في بحثها الذي نشرته صحيفة «Synthese» المعنية بالفلسفة، إنك قوي بقدر ما تتحكم في انتباهك. هذا يعني أنك، بشكل ما، حصيلة كل ما تنتبه إليه. لكن ما الانتباه؟ تبحث جينينغز عن الإجابة وتشير إلى حقائق أخرى غير مريحة عن النفس.
ما الانتباه أصلًا؟
الانتباه، كتعريف علمي، هو ما تستخدمه كإنسان لإبعاد أصوات ومَشاهد التشتيت، بهدف التركيز على أمر بعينه. تستخدم انتباهك لتقرأ هذا الموضوع الآن.
يمكن السيطرة على الانتباه، والاحتفاظ به، لكنه كذلك يتأثر بدرجة كبيرة بما يحدث من حولك، مما يدعوك إلى التركيز على محفزات جديدة ومختلفة. أحيانًا ما يكون الالتفات إلى أمور أخرى شيئًا جيدًا، يستخدمه دماغك للحفاظ عليك. مثلًا، أن ترفع نظرك عن هاتفك حين تكون هناك دراجة على وشك الاصطدام بك. لكن هذا التشتت قد يمنعك أيضًا من إكمال المهام، تمامًا كما تغرق في دوامة لا نهائية حين تضغط على رابط إلكتروني يخص موضوعًا ما.
قوة الانتباه، التي تستخدمها يوميًّا للتركيز على مهمة واحدة، هي ما يساعدك عمومًا في لحظات الصراع، في الوقت الذي تحتار فيه بين خيارين أو أكثر، كلاهما متاح.
الذات: صلصال قابل للتشكيل
تصور أنك في فترة البحث عن وظيفة، تستقبل عرضين، واحد منهم فقط في مجالك الحالي، ويقدم لك الأمان والظروف الجيدة، لكنك تجد نفسك مهتمًّا أكثر بالمجال الجديد. بالطبع تكون الوظيفة في المجال الجديد أكثر خطورةً وأقل أمانًا بالنسبة إليك، وربما تفكر أنها بالتأكيد ستحمل لك كثيرًا من التحديات، لكنك تطمح إلى ما ستفتحه لك من فرص جيدة في المستقبل. ما الذي ستفعله؟
للفيلسوف «روبرت كين» طريقة في التعامل مع هذه اللحظات المحددة للحياة، باعتبارها أفعالًا «تشكِّل الذات».
فكرة كين هي أن أصدق تعبيراتنا عن ذواتنا تجيء في اللحظات التي تنقسم فيها إرادتنا. ففي لحظات مماثلة، يمكننا الذهاب في أيٍّ من الطريقين، لكننا نختار طريقًا واحدًا ونستبعد الآخر، وبهذا نساعد في ترسيخ بعض الصفات في ذواتنا، الصفات التي تلائم الطريق الذي اخترناه، ونمحو احتمالية صفات أخرى.
أبسّطهالك: فارس نموذجًا
هل تذكر «فارس» بطل فيلم «الحريف»؟
سيرسخ اختيار فارس أمورًا جديدة في حياته، قد يغلبه الحنين إلى معابثة الأطفال الذين يلعبون الكرة في الشارع، لكن هذا كل ما في الأمر. هذا كان اختياره، وهذا ما قرر الانتباه إليه.
في الفيلم، كان فارس لاعب كرة في الدورات الرمضانية، يعمل أصلًا ماسح أحذية، لكنه يتحول إلى شخصية أخرى تختلف عن حياته التقليدية بمجرد أن تلمس قدمه كرة القدم «الشراب»، فيصير بطل كرة شعبيًّا، يعرفه الكبار والصغار، في الساحات الشعبية ومباريات الكرة التي تُلعب في الشوارع.
في نهاية «الحريف»، يُخَيّر فارس بين أمرين كلاهما عزيز على قلبه، بين الكرة والنجومية المؤقتة ونشوة اللعب، أو الوظيفة والحياة المستقرة، التي تعني قدرته على الاعتناء بابنه وزوجته التي يحبها.
يحسم فارس المسألة بشجاعة، حتى لو كانت هذه الشجاعة في الانحياز إلى حياة تخلو من الدراما والإثارة، يلعب مباراة أخيرة يثبت فيها لنفسه، وللجميع، أنه قادر على تحويل الفريق الخاسر إلى رابح في دقائق معدودة، لكنه رغم ذلك، قرر أن «زمن اللعب راح»، ترك حرفنة الشوارع خلفه واختار المال والبيت والحب والاستقرار.
سيرسخ اختياره دون شك أمورًا جديدة في حياته، سيصير غنيًّا مثلًا، لن يعاود اللعب مرةً أخرى بالطبع، إلا في المناسبات، سيمتلك سيارة ربما، ومنزلًا لطيفًا، ستتوقف أزماته المالية، لأنه سيتوقف عن تضييع وقته في السفر من مدينة إلى أخرى للعب في ساحاتها الشعبية، وسيُمنح لقب «معلم» أو «باشا»، ومهنة جديدة بدلًا من العمل في مصنع الأحذية.
ربما سيغلبه الحنين مرةً إلى معابثة بعض الأطفال الذين يصادفهم يلعبون الكرة في الشارع، لكن هذا كل ما في الأمر. هذا كان اختياره، وهذا ما قرر الانتباه إليه.
الانتباه يقودنا مباشرةً إلى النتيجة
لم يُشِر كين صراحةً إلى الانتباه، لكن من الجليّ أن الانتباه جزء من فكرته. حين نواجه خيارات متضاربة، ننتبه لها تباعًا. ستنقل انتباهك من الأمان الذي توفره الوظيفة الأولى، إلى الإثارة والتجربة الجديدة التي توفرها الثانية.
يلعب الانتباه دورًا محوريًّا في حياتنا، لكنه بالتحديد وقطعًا يساعدنا على تحديد الناتج الذي نريده.
يسترشد الانتباه بأمرين: المهمة الحالية التي عليك إنجازها، والمشتتات التي قد تظهر. وله مصطلحان أساسيان: الانتباه من أعلى إلى أسفل، والانتباه من أسفل إلى أعلى.
يشير مصطلح «الانتباه من أعلى إلى أسفل» إلى قدرتك على توجيه ومتابعة تركيزك وفقًا لأهدافك واهتماماتك الحالية، بينما يشير مصطلح «الانتباه من أسفل إلى أعلى» إلى توجيه تركيزك إلى المثيرات المختلفة والجديدة. فمثلًا، قد يساعدك «الانتباه من أعلى إلى أسفل» على التركيز في هذا الموضوع، في حين يدفعك «الانتباه من أسفل إلى أعلى» إلى التركيز على محادثة قريبة.
بالنسبة إلى كين، المجهود الذي تبذله في الاختيار بين نصفي ذاتك، النصف الذي يهتم بالأمان والنصف الذي يرغب في التغيير، يخلق صراعًا في العقل، والنتيجة أن أفعال تشكيل الذات لها دائمًا جانبان. نحن مسئولون عن تشكيل الفعل مهما كان الناتج، وذلك عن طريق بذل جهد تجاه أحد الخيارين المتعارضين، ومن ثَمّ الوصول إلى نتيجة، وهذه النتيجة هي ما تساعدنا بالتحديد على تشكيل ذاتنا المستقبلية.
هل يمكن أن تحدث كل الأفعال التي تشكِّل الذات دون كل جهود الانتباه إلى الخيارات هذه؟ ماذا لو تصارع الخياران دون تدخل؟ هل سيكون فعلًا مشكلًا للذات، بغض النظر عن الطريقة التي حُلّ بها النزاع؟
دعونا نسمي هذا نظرية «الفروستية»، بعد أن نطّلع على قصيدة «روبرت فروست»: «الطريق الذي لم يُسلك» (1916). في القصيدة، واجه فروست طريقان في الغابة «يتشابهان إلى حد كبير»، واختار أن يسير في واحد، متوقعًا أنه سيقول في المستقبل:
«تشعّب طريقان في الغابة، وأنا..
اخترت الطريق الذي لم يُسلك كثيرًا
وهذا ما أحدَثَ الفارق كله»
نظرية فروست هي أن الطريق الآخر قد يصنع كل الاختلافات، وهذ يعني أن شخصية فروست المستقبلية ستتذكر بعض الاختلافات بين الطريقين لتبرر اختياره، وسينسج هذا في حياته.
اقرأ أيضًا: معضلات قد تدفعك إلى إعادة التفكير في أخلاقك
لا يوجد «ذات» من الأساس
إليك معارضة جيدة، وتتناسب مع المنطق الرائج حاليًّا في العلوم الإدراكية: ليس فقط أن الانتباه غير مطلوب لتشكيل الذات، في الحقيقة لا يوجد «ذات» على الإطلاق. إنها ببساطة مجرد جزء من قصة نرويها لأنفسنا وللآخرين.
يضع «أنيل سيث»، أستاذ علم الأعصاب الإدراكي، هذه النظرية في جملة يقول فيها : «أتنبأ بنفسي، وبالتالي أنا موجود».
نحن نبني نظرية الذات لأنها الطريقة المثلى لنفسر لأنفسنا وللآخرين سلوكياتنا. حين تدق بالخطأ على شيء، قد تقول: «لم أفعل هذا، لم أقصد». في حالات كهذه، يكون وجود مفهوم «الأنا» مفيدًا لتمييز الحركات المقصودة من الحركات غير المقصودة. فعلتُ هذا، جسدي فعلَ هذا. الذات الحقيقية هي تصوراتنا عن أنفسنا في المستقبل. ببساطة: لا يوجد «أنا» في الحاضر.
من الذي يقرر؟
ليس حبك للنودلز والشِّعر ما يجعلك ذاتًا، ما يجعلك كذلك مجموعة من الاهتمامات تتعلق بما ترى نفسك عليه في المستقبل، وما ترغب في فعله، وما ترغب في تجنبه.
يعامَل الانتباه في مجال العلوم الإدراكية كعملية قابلة للفصل. ما الشيء المسؤول عن قدراتك في الموازنة بين هذه القوى؟ كيف تكون قادرًا على التركيز على المهمة، وتقاوم المشتتات المثيرة للاهتمام مثل المحادثات القريبة منك؟
تقول كارولين إن أفضل تفسير للشيء الذي يجعلنا نقرر متى نركز على المهمة الحالية ومتى نتحول إلى محفز جديد، هو «الذات الموضوعية»، لأن الذات الموضوعية تنظر إلى ما هو أوسع من اللحظة الآنية، وتجسد اهتمامات الكائن الحي كلها. لذا، فالذات الموضوعية قادرة على الموازنة بين المهمة الحالية وأي اهتمامات أخرى محتملة.
لهذا السبب، بدلًا من رؤية أن تصرفاتنا تقودها اهتماماتنا، وأن اهتماماتنا تحدث بسبب خليط من جيناتنا والبيئة من حولنا، ترى كارولين أن سلوكياتنا تحددها الذات، أو مجموع اهتمامتنا بالكامل، فهي لا تُحدد عن طريق اهتمامات فردية أو حتى مجموعة منها.
بمعنى آخر، ليس حبك للنودلز والشِّعر ما يجعلك ذاتًا، ما يجعلك كذلك هو مجموعة من هذا واهتمامات أخرى، تتعلق بما ترى نفسك عليه في المستقبل، وما ترغب في فعله، وما ترغب في تجنبه، كل هذا يعمل معًا لإنتاج سلوكياتك.
قد يعجبك أيضًا: كيف تطور الوعي البشري عبر التاريخ؟
كيف يحدث الانتباه؟
الانتباه هو نتيجة التفاعل بين اهتماماتنا وبين الموارد التي تتشارك فيها هذه الاهتمامات ككل، فاهتماماتنا وأهدافنا ورغباتنا تحتاج إلى التوجيه معًا كالطيور في السرب الواحد. ومع ذلك، فإن الطيور تتفاعل مع البيئة التي تتشاركها مع السرب، مثل هبوب الرياح، وهو ما يتسبب في قيود تؤثر على السرب ككل.
تفاعل السرب مع بيئته يمكن أن يخلق أنماطًا جميلة يَعرفها مراقبو الطيور باسم «الهمهمة»، وهي الأشكال التي تتخذها أسراب الطيور في أثناء تحليقها. وبالمثل، فإن التفاعل بين اهتماماتنا والمصادر التي تتشاركها هذه الاهتمامات يمكن أن ينتج أنماطًا حقيقية قابلة للملاحظة. وتعكس هذه الأنماط حقيقة وجود بعض الاهتمامات والأولويات على حساب اهتمامات وأولويات أخرى. أي أن اهتماماتنا كمجموعة، تُحدث تغييرات في اهتماماتنا المنفردة التي تتكون منها هذه المجموعة.
كيف يحدث هذا في عقولنا؟
أحد الاحتمالات أن هذا يعتمد على ظاهرة مثل ظاهرة تزامن البندول. إذا وضعت عدة بندولات على طاولة، وحرّكت كل منها في وقت مختلف، ستتزامن في النهاية، لأن البندولات تتشارك الطاولة وتتراكم الذبذبات المتخلفة خلالها، مما يقود في النهاية إلى دفعة عامة في اتجاه ووقت محددين.
لكن يبدو أننا كبشر، نحتاج إلى بعض المجهود كي نصل إلى هذا التناغم، ففي رحلة تطورنا الطويلة، تخلينا عن كثير من الأساسيات التي تحكم عالمًا أصبح بعيدًا عنا. والسبيل الوحيد الذي نملكه بين يدينا الآن هو أن ننتبه أكثر، ننصت أكثر، نمعن النظر، سواء في ما يحدث حولنا أو في دواخلنا، بحثًا عن اختيارات أفضل تشكِّل ذواتنا.