هذا الموضوع ضمن هاجس «كيف تشكِّلنا الحرب؟». اقرأ موضوعات أخرى في الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي في قصيدته:
بِذا قضت الأيام ما بين أهلها، مصائبُ قومٍ عند قوم فوائدُ
بقدر ما كانت الحرب العالمية الأولى التي اندلعت بين عامي 1914 و1918 أحد أسباب تدمير العالم آنذاك، وقتل ملايين البشر في أغلب أنحائه، إلا أن المرأة في أوروبا كانت أكثر المستفيدين من اندلاع هذه الحرب، إذ كان للمعارك سببٌ بارزٌ في زيادة دور المرأة في المجتمع الأوروبي، ومهدت للحصول على حقوق سياسية ومدنية أكثر، وحولت كثيرًا من النساء من ربات منازل إلى الانخراط في سوق العمل، وإبراز قدراتهن في ميادين مختلفة، حتى إن بعضهن أدى دورًا فعالًا في القتال.
وبعد انتهاء المعركة، كانت المرأة قد اكتسبت مميزات اجتماعية واقتصادية وسياسية كثيرة. فرغم أن بعض الحكومات كانت لا تزال تنظر إليهن كربات بيوت، فإن هذا لم يُعِق اتساع المشاركة النسائية في التصويت في الانتخابات كنوع من الاعتراف بالدور البارز الذي لعبته في أثناء الحرب، إذ منحت بريطانيا المرأة التي تجاوزت الثلاثين ولديها ممتلكات حق التصويت، وكذلك في ألمانيا مُنحت هذا الحق بعد فترة وجيزة من انتهاء الحرب، لكن فرنسا لم تقر هذا قبل الحرب العالمية الثانية.
المرأة في الحرب
قدمت بعض الملصقات المرأة الجميلة والجذابة بوصفها مكافأة للجنود الذين يؤدون واجبهم.
يجب تناول دور النساء في التجهيز لاندلاع المعركة، ففي بداية الحرب عارضتها بعض جمعيات المرأة في أوروبا، مثل الاتحاد الوطني لجمعيات حقوق المرأة، والاتحاد النسائي الاجتماعي والسياسي. وفي 1915، اندلعت مظاهرة تطالب بإعطاء المرأة الحق في الخدمة العسكرية، وانتهى ذلك بتجنيدهن، لكن المعارضات للحرب اللائي رفضن المساعدة في المعركة تعرضن للسجن في بلاد يُفترض أنها تتسم بنوع من الحرية، وكان لأخريات دور كبير في تأييد الحرب وتشجيع الرجال على الانضمام إليها.
من طرق استغلال النساء في حث الرجال على الحرب وإلصاق العار بكل رجل ما زال في زيه المدني ويرفض الانضمام إلى الجيش، أن وَضعت النساء، بصفتهن موظفات في القوات المسلحة، ريشة بيضاء لكل رجل خارج الجيش، فصارت النساء تتجول في الشواطئ والشوارع والترام والمسارح والمنتجعات، ليعلقن ريشة بيضاء في ملابس الشباب والرجال الذين يجدونهن، ما جعلهم يشعرون بالخذلان والعار. هذا العار لم يَزُل بانتهاء المعركة، بل ظل ملازمًا لهم حتى بعد مرور الزمن ووصولهم إلى سن الشيخوخة.
وكذلك استُغِلّت المرأة بشكل موسع للتحريض على الاشتراك في الحرب، بدافع أن دور الرجال هو الدفاع عن النساء والأطفال. وكان مضمون بعض هذه الدعاية هو تخيير الرجل بين الذهاب إلى الحرب أو أن تفعل ذلك النساء. وبالطبع يحمل الخيار الثاني في طياته خزيًا وعارًا للرجل، بل إن بعض الملصقات قدمت المرأة الجميلة والجذابة بوصفها مكافآت للجنود الذين يؤدون واجبهم الوطني.
الحرب وحرية المرأة شبه الكاملة
شاركت المرأة في القتال ولو بأعداد قليلة، وتشكلت كتيبة قتالية كاملة من النساء الروسيات بعد الثورة البلشفية.
مع اندلاع نيران الحرب وتجنيد ملايين الرجال، أصبحت هناك حاجة مُلحة إلى أشخاص آخرين لشغل هذه الوظائف، فلم تجد الدول حينها سوى النساء، فشغلن أعمالًا كانت قليلة الانتشار قبل ذلك، مثل الصناعات الثقيلة وصناعة الذخائر، لكنهن أدّين أيضًا وظائف كانت تعرض حياتهن للخطر، فعملن طبيبات وممرضات وسائقات سيارات إسعاف على الجبهة.
ورغم أنهن أدين هذه الأدوار على أكمل وجه، فإن أجور النساء كانت دائمًا أقل من الرجال في الأعمال نفسها.
خلال الحرب، تعرض كثير من النساء لشبهات وُجهت إليهن من أشخاص محافظين في المجتمع والحكومة، بسبب أن المرأة حصلت على وظائف جديدة نتج عنها تمتعها بحريات أكثر، فاعتقد بعض الناس أن هذا سيؤدي بها إلى الانحلال الأخلاقي، خصوصًا في الوقت الذي تفقد فيه زوجها أو من يعولها بشكل عام.
اتُّهِمَت النساء بالاتجاه إلى التدخين، وتناول الخمور بشكل أكبر، وارتداء ملابس مثيرة، واستخدام مفردات الرجال في أثناء التحدث. ليس هذا فحسب، بل أُثير أن الزنا قد انتشر في المجتمع آنذاك، ما ترتب عليه انتشار الأمراض التناسلية، وأصاب ذلك الحكومات بالذعر خشية انتقال هذه الأمراض إلى جنود الجيش.
تحطمت مجموعة أخرى من القيود التي كانت مفروضة على المرأة، حتى أنها شاركت في القتال ولو بأعداد قليلة للغاية، إذ شُكِّلت كتيبة قتالية كاملة من النساء الروسيات بعد الثورة البلشفية عام 1917، هي كتيبة «The Russian Women’s Battalion of Death»، لكن على الجانب الآخر عدد كبير من النساء رفض التدريب على استخدام الأسلحة، فأدى ذلك إلى أدائهن الوظائف الإدارية في الجيوش، على أن ينتقل الرجال إلى ساحات القتال.
قد يعجبك أيضًا: قصة التحاق النساء بالجيوش
فلورا ساندس: المرأة المسترجلة
بعض النساء كان لهن دور بطولي في أثناء الحرب، مثل البريطانية «فلورا ساندس»، التي قاتلت مع القوات الصربية.
كانت فلورا ابنة رئيس جامعة سوفولك في المملكة المتحدة، تحلم منذ صغرها بأن تكون جندية في الجيش، حتى أنها في طفولتها كانت عندما تلعب تتخيل كأنها في معركة. وبعد مُضي 20 عامًا تحقق حلمها حين اندلعت الحرب في كل أرجاء أوروبا، لتصبح المرأة البريطانية الوحيدة التي تلتحق بالقوات الصربية، أحد جيوش الحلفاء.
بعد أن مُنحت ميدالية تكريمًا لشجاعتها، أُصيبت فلورا ساندس بشظية في ظهرها، لكنها تعافت وانضمت مرة أخرى إلى المقاتلين.
فلورا كانت دائمًا تسعى إلى المساواة بينها وبين الرجال، ولم تكتفِ بكونها أحد أفراد الجيش المقاتل على الجبهة، بل رأت أن من حقها في المساواة أن تتصرف كالرجال، من حيث التدخين وشرب الخمر ودخول السباقات والتدريب على الرماية. لم يكن يومًا حلمها مجرد حياة مستقرة مع زوج ورعاية أطفالها، مثل فتيات هذا العصر في أوروبا، بل كانت دائمة الشغف بالأعمال التي تحمل في طياتها عنصر المغامرة.
تقول «لويز ميلر»، كاتبة السيرة الذاتية لفلورا ساندس، إن النساء في ذلك الزمن كن يعشن حياة رزينة، ينظمن حفلات الشاي، ويلعبن التنس، لكن ذلك قد يكون أمرًا مملًّا للغاية، خصوصًا بالنسبة إلى فلورا التي كانت «مسترجلة».
أنفقت فلورا في استكشاف العالم ما ورثته من أحد أقاربها، بالإضافة إلى ما كانت تتلقاه لقاء تدريبها في وظيفة كتابية في لندن. كذلك عملت سكرتيرة في القاهرة، وذهبت في رحلات إلى كندا، وبينما هي في طريقها إلى أمريكا أطلقت النيران على أحد الرجال لتدافع عن نفسها.
ومع إعلان بريطانيا الحرب على ألمانيا، تطوعت فلورا في الإسعاف، وبعد ثمانية أيام انتقلت إلى صربيا مع أول وحدة تطوعية تغادر بريطانيا، وسرعان ما جُنِّدت في جيش الدولة الصربية، التي كانت من الدول القليلة التي تقبل تجنيد النساء. أظهرت فلورا أداءً جيدًا في الحرب، وترقت بين المناصب حتى وصلت لرتبة رقيب أول. وبينما تدافع عن موقعها، أُصيب المكان بقنبلة يدوية كادت تقضي على حياتها، قبل أن ينقذها ملازم زميل لها في المعركة.
لكن الحظ لا يبتسم دائمًا، فبعد أن مُنحت ميدالية تكريمًا لشجاعتها، وتَصدّر اسمها عناوين الصحف في دول العالم، اُصيبت بشظية في ظهرها وكسر في ذراعها اليمنى، لكنها بعد أن تعافت انضمت مرة أخرى إلى المقاتلين.
بعد تسريحها من الجيش عام 1922، وجدت فلورا صعوبة في التأقلم مع الوضع الجديد. وحين خرجت لأول مرة إلى الشارع بزي النساء، كانت تحاول التخفي عن أعين الناس لأنها شعرت بالخجل، لكنها بعد خمس سنوات قررت أن تعيش مثل سيدات عصرها، وتزوجت ضابطًا روسيًّا، وبعد عامين آخرين انتقلت معه إلى يوغوسلافيا.
العمر لم يمنع فلورا من تحقيق أحلامها
في إبريل 1941، غزت القوات الألمانية يوغوسلافيا، وبعد أربعة أيام، رغم أن فلورا وقتها كانت قد جاوزت 65 عامًا، فإنها لم تتردد في استدعاء شخصيتها العسكرية مجددًا للمشاركة في الحرب، لكن جرحها القديم منعها من أن تكمل ما نوته، واحتلت ألمانيا يوغوسلافيا بعد 11 يومًا فقط من اندلاع الحرب، وألقت القوات الألمانية القبض عليها، لكنها سرعان ما أفرجت عنها بعد أسبوع واحد، وبعد ذلك مات زوجها إثر أزمة قلبية.
انتقلت فلورا ساندس للحياة مع ابن أختها في القدس، ثم ذهبت إلى زيمبابوي، وعادت بعد ذلك إلى بلدها إنجلترا، وأكملت حياتها على كرسي متحرك. وعندما بلغت 80 عامًا، وقبل وفاتها بمدة قصيرة، جددت جواز سفرها لأنها كانت تنوي زيارة دول جديدة لتُرضي شغفها بالمغامرة، لكن القدر كان أسرع.
هذا الموضوع اقترحه أحد قُرّاء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.