«السعي إلى تأميم المعرفة والكتب وتحريرها من ديكتاتورية الرأسماليين الذين يحتكرون كل شيء حتى نعمة الفكر». هذا ما يتردد كل عام على ألسنة مجموعة من الشباب التونسيين الذين اعتادوا سرقة الكتب من العارضين في كل دورة من معرض تونس الدولي للكتاب.
لا يجد هؤلاء الطلبة، الذين التقى بهم «منشور»، في كلمة «السرقة» لفظًا مناسبًا لوصف ما يفعلونه منذ سنوات، فهو في نظرهم «تأميم» لأنهم يؤدون دورًا اجتماعيًّا وثقافيًّا «محوريًّا ومهمًّا»، بتحرير العلم وتوزيعه على الطلبة، وبخاصة من لا يجد سبيلًا لاقتناء كتب مرتفعة الثمن.
طلاب تونس: نحن لا نسرق
«لم نختر لفظ التأميم جزافًا، فإذا كان للكلمة خلفيات أيديولوجية يسارية تتمحور حول توزيع الثروة بشكل عادل، فتأميم الكتب لا يتبعد عن ذلك كثيرًا، فنحن نؤمم ثروة لم نستطع إليها سبيلًا، فلِمَ يحتكر هؤلاء (العارضون في معرض الكتاب) كل هذه المعرفة والكتب لأنفسهم فقط؟». هكذا يتحدث الطالب جابر (24 عامًا) عن دوافع اختيار زملائه لهذا اللفظ عند سرقة الكتب.
الخطة التي اتفقت عليها مجموعة الأصدقاء تبدأ بجولة في أنحاء المعرض لمعرفة «الثغرات» التي يسهل سرقة الكتب منها.
افتُتِحت دورة معرض تونس الدولي للكتاب لعام 2018 في السادس من إبريل، وهو مناسبة مميزة ومنتظرة لعدد من الطلبة في تونس، منهم جابر (اسم مستعار)، الذي تجهَّز مع أصدقائه الثلاثة، مراد وفؤاد وهيثم (أسماء مستعارة كذلك) لانطلاق دورة جديدة من «تأميم الكتب» وحصد المؤلفات الجديدة، أو تلك التي لم يستطع شراءها في أيام السنة العادية.
مر أسبوع على افتتاح الدورة الثالثة والثلاثين من معرض الكتاب في تونس، وبقي جابر وأصدقاؤه، الذين يدرسون في اختصاصات تتنوع بين الفلسفة والهندسة واللغة العربية، يتابعون أخبار المعرض والمؤلفات الجديدة عن طريق «وسيط» هو محمد، أحد الموظفين في دار نشر تونسية.
بناء على المعلومات التي استقتها المجموعة من محمد، اختاروا يوم الجمعة لزيارة المعرض. كان الاتفاق بين الأصدقاء أن يلتقوا في أحد مقاهي العاصمة تونس، ثم يتجهوا إلى المعرض في ضاحية الكرم عبر حافلة نقل عمومي خُصِّصت لنقل الزوار إلى هناك.
وصل الأصدقاء الأربعة إلى المعرض، وعلى ظهر مراد حقائب ظهر فارغة، فقد كانت الخطة تنص على التجول في أنحاء المعرض لمعرفة «الثغرات» التي يسهل سرقة الكتب منها.
كان التنسيق المحكَم وحماس الأصدقاء الأربعة لافتًا وجذابًا لي كصحفي، وبِتُّ منذ لحظة الوصول إلى باب المعرض تواقًا لخوض التجربة معهم، وإكمالها حتى النهاية، رغم ما قد يحدث بحكم مشاركتي معهم بصفتي الصحفية، وكان تشجيعهم لي حافزًا إضافيًّا.
انطلق الأصدقاء في رحلة قصيرة في أروقة المعرض المتداخلة، وفي إحدى دور النشر التونسية التقى جابر بمحمد الذي سيتلقى «الغنائم» المسروقة، لأن موظفي دور النشر لهم الحق في التنقل داخل المعرض وخارجه مع أي كمية من الكتب.
اقرأ أيضًا: شباب الأدباء ومقص الرقيب البعثي: هكذا قُتل الوعي تحت حكم الأسد
أول الأهداف: دار نشر لبنانية
«في كل لحظة كنت أشعر أننا سننكشف، وأني سأصير رفقة الأصدقاء الأربعة في أيدي رجال الأمن».
وقف جابر أمام إحدى دور النشر اللبنانية، ثم التحق به أصدقاؤه، وبدا واضحًا لي أنها ستكون الهدف الأول من الرحلة. «التأميم يحتاج إلى ذكاء وصبر وحيل ذكية»، يهمس جابر في أذني، مضيفًا: «لا تخف، سيكون كل شيء على ما يرام».
بدا واضحًا أيضًا أن جابر رأى علامات الرهبة والخوف في عينيَّ مخافة انكشاف اللعبة، لكن شغفي كان أكبر، وكل تفاصيل العملية مهمة بالنسبة إليَّ، ويجب عليَّ أن أسهم بفعالية في نجاحها.
بدأ الأربعة تنفيذ الخطة بعد أن تأكدوا من أن دار النشر اللبنانية تشكو ضعفًا في الحراسة، فما كان من هيثم وفؤاد إلا أن حاولا إلهاء موظفي دار النشر، بينما ينفذ مراد وجابر الجزء الأهم من العملية: وضع الكتب في كيس بلاستيكي أسود.
ذهب هيثم وفؤاد لتنفيذ المهمة الموكولة إليهما، فأخذا يسألان الموظف عن أحد المؤلفات إن كان متوفرًا أم لا، بينما انغمس جابر ومراد في اختيار الكتب المستهدَفة، وهي روايات لغسان كنفاني وأخرى لدوستويفسكي.
أخذت أراقب جابر وفؤاد وقد بدت ملامح الثقة على وجهيهما، وبعد غمزة سريعة من جابر بدأت مهمة فؤاد، وهي تسريب الكتب التي اختاروها في الكيس دون إحداث أي ضجة أو صوت مريب.
كنت في كل لحظة أشعر أن العملية ستنكشف، وأني سأصير رفقة الأصدقاء الأربعة في أيدي رجال الأمن المرابطين في المعرض، لكن ما لمسته من ثقة مبالَغ فيها لدى بقية الأفراد كان يطمئنني إلى درجة لم أتخيلها منذ انطلاق العملية، وكانت كل حركة دافعًا حماسيًّا لمتابعة بقية أطوارها.
استقرت المؤلفات الخمسة في مكانها داخل الكيس الأسود، فانطلق جابر نحو موظف دار النشر للاستفسار حول إمكانية وجود كتاب ما لضمان تغطية بقية أصدقائه، بينما انصرف فؤاد وهيثم ومراد بكل ثقة يحملون أولى الغنائم للوسيط محمد، الذي سيحتفظ بالكتب لعدم انكشاف سرهم.
انصرف الأربعة إلى مدرج صغير للتدخين، بينما قال لي جابر وهو يُشعل سيجارة: «ألم أقل لك إن كل شيء سيكون على ما يرام؟ سترافقنا في عمليتنا الثانية لتعرف كم نحن محترفون».
سرقات محترفة: هدفنا الكتب
خلال تدخين السجائر اقترح فؤاد على أصدقائه مكتبة أخرى، واتفقوا على تنفيذ خطة جديدة أكثر احترافية لم يكشفوا عن تفاصيلها.
خلال الجلسة القصيرة زادت ثقتي في المجموعة، ولم أفكر في الموقف المخجِل الذي سأكون فيه لو انكشف أمرنا، وبخاصة أنني صحفي أشارك في العملية كعين مراقِبة.
بينما يسأل أحدهم موظف المكتبة عن فروعها الأخرى، كان الآخر يدفع مجموعة من الكتب من أسفل الستار الذي يفصل أماكن العرض.
في أثناء جولتهم في أروقة المعرض لوَّح هيثم إلى زملائه داعيًا إياهم إلى إحدى المكتبات التونسية المشهورة، وكان مكانها المخصَّص للعرض واسعًا مقارنة ببقية المكتبات، ومحاطًا بغطاء بلاستيكي سميك على الجهات الأربعة.
رافقتُ هيثم وجابر إلى داخل المكتبة، حيث أخذا يطالعان الكتب الموضوعة على حاشية الغطاء البلاستيكي، ويتابعان في الوقت نفسه تحركات موظفي المكتبة الذين انتبهوا إلى تصرفاتهما.
كنت أعتقد منذ دخولنا إلى المكتبة أن المجموعة تحافظ على نفس الخطة الناجحة التي طبقوها سابقًا، لكني لاحظت، بالرجوع إلى بعض التفاصيل والإيماءات التي تداولها الأصدقاء، أنهم يضعون خطة جديدة بدت لي أكثر نجاعة وحماية.
في لحظة مباغتة فطن هيثم إلى انشغال أحد الموظفين مع أحد الزوار، فألقى مجموعة من الكتب، دون ضوضاء، أسفل الغطاء البلاستيكي، ثم دفعها برجله إلى خارج المكتبة بهدوء، بينما بقي جابر يتحين فرصة النسج على منوال هيثم.
بسرعة خرج هيثم من المكتبة إلى حيث دفع الكتب، ولحقه مراد وفؤاد اللذان كانا ينتظران على مقربة من المكان والتقطوها بسرعة قياسية، ثم وضعوها داخل كيس أسود، وانطلق بها مراد إلى الوسيط للاحتفاظ بها.
عدتُ مع هيثم إلى المكتبة، بينما جابر ما زال يُقلِّب الكتب حينًا، ويراقب تحركات الموظفين حينًا آخر، وقد بدت على وجهه علامات الإصرار على تنفيذ العملية.
في ذلك الوقت همس لي هيثم: «عليَّ أن أتدخل لإنهاء العملية وضمان عدم انكشاف أمرنا». ذهب إلى الموظف وسأله عما إذا كان للمكتبة فروع أخرى، ففهم جابر الخطة، واقترب من مجموعة روايات ودسها تحت الغطاء البلاستيكي.
بعدها انطلق الأصدقاء يجمعون الكتب التي تناثرت خلف الغطاء، ووضعوها في الكيس، وأعطوها إلى محمد سيرًا على النهج نفسه.
قد يهمك أيضًا: أمازون: عملاق الكُتب الذي لا يتوقف عن التمدد
خارج معرض الكتاب: بر الأمان
«انتهى يومنا الأول»، هكذا تحدث إليَّ جابر وهو يشير إلى بقية أصدقائه لمغادرة المكان وانتظاره خارج المعرض إلى حين إحضاره كل الكتب التي بحوزة محمد.
التقى الأصدقاء الأربعة خارج معرض الكتاب ووضعوا الكتب في حقائب الظهر التي اصطحبوها معهم، وعادوا عبر نفس الحافلة التي استقلوها سابقًا.
خارج المعرض تقاسمتُ مع الأصدقاء الأربعة «فرحة الانتصار»، لكن كل طرف انتصر لما يخصه: هم للحصول على الكتب، وأنا لإنهاء تحقيقي بنجاح.
دور النشر: سارقو الكتب صنفان
دور النشر الأجنبية هي الأكثر استهدافًا في المعرض، بحكم عدم اعتيادها على هذه الظاهرة في المعارض الأخرى.
محمد سلايمية، صاحب دار «المسيرة» للنشر، يؤكد انتشار ظاهرة سرقة الكتب في كل دورات معرض تونس الدولي تقريبًا، وكل دار قد تخسر في الدورة نحو 30 كتابًا، مشيرًا إلى أن الظاهرة تفاقمت في السنوات الأخيرة بشكل مُلفت، إذ تأسست عصابات لسرقة الكتب داخل المعرض، تعمل بشكل محكَم، وتضم عددًا كبيرًا من الأفراد، أغلبهم من طلاب الجامعات.
يوضح سلايمية لـ«منشور» أن يمكن تقسيم سارقي الكتب من الطلبة إلى صنفين: الأول يسرق ليبيع، والثاني يسرق بهدف المطالعة والتثقيف فحسب، فغلاء الأسعار يجُبر بعض الطلبة الفقراء على سرقة عدد من الكتب التي لا يقدرون على اقتنائها.
يشدد الرجل على أن دور النشر الأجنبية هي الأكثر استهدافًا ضمن المعرض، بحكم عدم اعتيادها على هذه الظاهرة في المعارض الأخرى.
قد يهمك أيضًا: رغم العنف، رغم الحرب: المكتبات تعود في أفغانستان
ليسوا طلبة فقط: محامون وموظفون يسرقون الكتب
جمال، الذي يمثل مكتبة «الكتاب» في المعرض، يؤكد أن هذه الظاهرة تلازم المعرض في كل دوراته، وكل العارضين اعتادوا فقدان عدد كبير من المؤلفات كل عام.
يوضح جمال أن غالبية الذين يسرقون من فئة الطلبة، لكن غيرهم يفعل وفق تقديره، مثل المحامين وموظفي الدولة. إلا أن جُل العارضين يتسامحون مع الطلبة إذا أُلقي القبض عليهم، وبخاصة أولئك الذين يظهرون غير ميسوري الحال: «في العموم يسرق هؤلاء الطلبة الكتب إما لغلاء أسعارها، وإما لأنهم غير قادرين على شرائها».