ارتبط العلم الحديث، خلال نشأته وتطوره في الحضارة الغربية، بطريقة جديدة في التفكير تمايزت واختلفت عن ما كان سائدًا طوال العصور القديمة والوسيطة. هذا الطريقة يُطلَق عليها «المنهج التجريبي» الذي يمثل جوهر المنهج العلمي.
وبمرور الوقت أصبح هذا المنهج شرطًا ضروريًّا للتمييز بين العلم وغيره من الأنساق المعرفية الأخرى، كالميتافيزيقا والفلسفة والآداب. ونلاحظ أن هذا المنهج لم ينشأ مكتمل المعالم في لحظة تاريخية بعينها، بل كان الأمر أشبه بفضاء معرفي جديد يتشكل ويتكون على مهل، عبر لحظات تاريخية كثيرة، ورجال كُثر من العلماء الذين لم يكونوا جميعًا على نفس القدر من القطيعة مع العالم القديم.
المسرح العلمي للحداثة الأوروبية
احتل «القياس» مركز الصدارة في المنطق الأرسطي، الذي كان منهجًا متبَّعًا قبل الحداثة الأوروبية، والمنهج العلمي الجديد.
كان المشهد الأوروبي، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، مزدحمًا بالأحداث والصراعات العلمية التي تؤسس بدورها لطريقة جديدة في التفكير أو رؤية كلية للعالم (Worldview) تقطع مع الرؤية القديمة التي هيمن عليها المنظور الأرسطي. فهذا «كوبرنيكوس» (1473-1543) يقلب الرؤية الفلكية السائدة في النظام البطلمي، إذ الأرض مركز الكون، بينما يبرهن هو على مركزية الشمس ودوران الكواكب حولها. يتبعه «كبلر» (1571-1630) في صياغة قوانين حركة الأفلاك والأجرام السماوية.
وهذا «فرانسيس بيكون» (1561-1626) يقدم رؤية جديدة للمنطق في كتابه «الأورغانون الجديد»، ليعارض بها منطق أرسطو. وينطلق بعد ذلك «غاليليو» (1564-1642) في تأسيس الفيزياء وتدشين الميكانيكا النظرية، ليكون رائدًا في تقديم نظرة جديدة للظواهر الطبيعية تقوم عليها أسس المنهج التجريبي.
ويتوِّج «نيوتن» (1643-1727) أعمال كل هؤلاء العلماء وغيرهم طوال عصر النهضة الأوروبية، بتوحيد الفيزياء وصياغتها في رؤية كلية وشاملة للعالم، لتحتل تلك الرؤية المشهد العلمي طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وأصبح هذا الفضاء المعرفي والعلمي الذي تشكَّل طوال قرون الحداثة الغربية، معروفًا باسم الرؤية أو «العالَم النيوتوني»، وذلك حتى مطلع القرن العشرين الذي سادت فيه رؤية ثورية جديدة متمثلة في فيزياء الكوانتم والنسبية. فما الذي فعله كل هؤلاء العلماء لكي يصبح لدينا طريقة جديدة في التفكير تمثلت في المنهج التجريبي الذي قطع مع المنهج الأرسطي السائد في الحقبة الإغريقية والعصور الوسطى الأوروبية؟
القطيعة المعرفية مع المنهج الأرسطي
هناك عدد من الرؤى التي قدمها فلاسفة العلم المعاصرون، من أجل فهم حركة النمو والتقدم العلمي، وفهم منطقه الذي يسير وفقًا له. ولعل المفهوم الذي قدمه الفيلسوف الفرنسي المعاصر «غاستون باشلار» (1884-1962)، وأعني مفهوم «القطيعة المعرفية» (La Rupture Epistemologique)، يعد واحدًا من تلك المفاهيم التي ذاع صيتها في الفكر المعاصر. إذ يقدم من خلاله تفسيرًا يتسم بالطابع الثوري لحركة العلم التجريبي، وتقدمه ونجاحه في مرحلة ما من المراحل، وهنا يصبح نمو العلم وتقدمه قائمًا على فكرة القطع مع القديم والانطلاق نحو طريقة جديدة أو فضاء معرفي جديد غاب عن أنظار القدماء.
وقد نجد مفاهيم أخرى مساوية للقطيعة المعرفية، مثل «النموذج الإرشادي» (البرادايم) لدى «توماس كون» الذي قدمه في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية»، سنة 1962. ويعنى هذا المفهوم، في أبسط معانيه المستخدمة في فلسفة العلم، النظرية العلمية العامة أو الرؤية الشاملة للعالم (Worldview) التي تُعتَمَد في عصر ما من العصور، مثل «النظام البطلمي» في مركزية الأرض قديمًا، مقابل «النظام الكوبرنيكي» في مركزية الشمس حديثًا.
ويلتزم المجتمع العلمي بتلك الرؤية أو النظرية مع التسليم بها كأساس أو نموذج قياسي أو إرشادي. وهناك أيضًا، على سبيل المثال، مفهوم مكافئ آخر نجده لدى «ميشيل فوكو»، أي فكرة «الإبستيمية»، والتي تعني الفضاء المعرفي والثقافي لعصر ما من العصور. كل تلك المفاهيم النظرية متكافئة في ما نريد إيضاحه في هذا الصدد على أي حال، ويمكن الاعتماد عليها في فهم حركة العلم التجريبي في العصر الحديث، وكيف قطع مع الماضي وتجاوزه؟
حينما ننظر إلى الميراث المعرفي القديم للحضارة الأوروبية، متمثلًا في الفكر اليوناني القديم، وكيف سيطر منهج أرسطو على طريقة التفكير في الحقبة القديمة، وطوال العصور الوسطى الأوروبية أيضًا؛ سنجد فكرة «القياس» هي التي تحتل مركز الصدارة في المنطق الأرسطي الذي كان بمثابة الطريقة أو المنهج المتَّبَع في ما قبل الحداثة الأوروبية أو المنهج العلمي الجديد. يقوم هذا القياس على البدء من مقدمات كلية، لاستنباط نتائج جزئية من خلالها، وذلك وفقًا لقواعد المنطق الصوري أو الشكلي البحت وقوانينه، دون الحاجة للرجوع إلى عالم التجربة الحسية أو الواقع المرئي، للتأكد من صحة تلك النتائج.
قد يهمك أيضًا: كيف حفظ العرب فلسفة الإغريق من الضياع؟
بالوصول إلى العصور الوسطى المسيحية واحتلال الكتاب المقدس لعرش السلطة الدينية والدنيوية، سنجد الكنيسة تعتمد على منطق أرسطو بوصفه الأداة أو الآلة (الأورغانون) المستخدَم في التفكير كمنهج للبحث. فكان القياس الأرسطي، كما قدمناه، ملائمًا بشكل تام للتعامل مع الكتب المقدسة بوصفها تحتوي على حقائق كلية، أجمع عدد كبير من البشر على الإقرار بصحتها وصدقها بشكل مسبق، ولا ينقصنا سوى استنباط نتائج جزئية عن تلك المقدمات بشكل حتمي، وذلك من خلال عملية القياس المنطقية.
هكذا لم يكن لدراسة الطبيعة، بشكل مستقل، مكانًا في الفضاء المعرفي للعصور الوسطى، وكانت القراءة والبحث مهتمَّيْن فقط بالكتاب المقدس، وليس كتاب الطبيعة والتجربة.
استنطاق الطبيعة في الحداثة الأوروبية: التفاعل بين الفرض والتجربة
بالعودة إلى سؤالنا الرئيسي: ما الذي فعله هؤلاء العلماء، خلال قرون الحداثة الأوروبية، لكي يقطعوا مع الفضاء المعرفي القديم؟ ما هي أهم معالم هذا المنهج التجريبي، أو الطريقة العلمية الجديدة التي تخلقت من أعمالهم؟ لقد كانت نقطة البدء الحقيقية هي التحول من قراءة الكتاب المقدس إلى قراءة الطبيعة ذاتها، فأتى العصر الحديث لكي يستنطق الظواهر الطبيعية، ويجعلها تكشف عن نفسها لتقول كلمتها بعيدًا عن النصوص المقدسة. فكان المنهج التجريبي الذي تشكَّل في تلك القرون من أجل قراءة الطبيعة، عبارة عن سلسلة من الإجراءات والخطوات الفكرية التي تعمل من خلال التفاعل والتداخل بين الفروض والتجارب.
يحتل مفهوم «الفرَضية» مركزية كبيرة في هذا المنهج، إذ إنه يبدأ بالافتراضات، ثم ينتهي بإجراء التجارب والملاحظات التي تؤكد الافتراض أو تنفيه، ليصبح بعدها قانونًا نعبِّر عنه ونصوغه بشكل رياضي محكم. لذلك، فإن هذا المنهج التجريبي يوصف في أدبيات فلسفة العلم المعاصرة بأنه «منهج فرَضي استنباطي». ومن هذا المنطلق يمكن القول إن المنهج التجريبي يقوم على الاستقراء والاستنباط معًا. والاستقراء في هذا المنهج الجديد يختلف عن استقراء أرسطو الذي يمثل الانتقال من الوقائع الجزئية إلى المبدأ الكلي، فهو لا يقتصر على تعداد الظواهر، وعرض صفاتها بشكل كيفي، وإنما يقوم الاستقراء في المنهج الجديد بدراسة ظاهرة واحدة، ثم استقراء الملامح التي تنكشف فيها، ثم تحليلها.
يعتمد المنهج التجريبي على الاستنباط أيضًا، والذي يتوفر من خلال الانتقال من المقدمات الكلية إلى النتائج الجزئية. لكنه يختلف عن الاستنباط المنطقي الذي يهتم فقط بصورة الفكر والانتقال السليم من المقدمات إلى النتائج، دون أخطاء منطقية في تلك الحركة. أما الاستنباط في المنهج العلمي الجديد، فيعطي دورًا أساسيًّا لمطابقة النتائج التي يصل إليها مع الواقع الحسي والتجربة، ثم مراجعتها.
نلاحظ أن التجربة مصنوعة، العالم يخلقها ويصنعها. فالطبيعة تحتاج إلى تدخل من المُجرِّب لكي يتمكن من عزل الظواهر التي يريد دراستها والتركيز عليها، ثم قياسها وتحديدها بشكل كمِّي ورياضي. وبذلك فإنه، أي العالم، يستنطق الطبيعة، ويجعلها تتحدث إليه، وهذا هو درس القراءة الجديد الذي قدمته الحداثة الأوروبية.
اقرأ أيضًا: كيف أصبحت الدول الأوروبية بهذا الثراء؟
تحويل الظاهرة الطبيعية إلى صياغة رياضية وكمية
نأتي الآن إلى الدرس الأهم الذي قدَّمه المنهج التجريبي الحديث، منذ أن خطَّه غاليليو في دراسته للميكانيكا، وهو الانتقال من وصف الظاهرة الطبيعية بشكل كيفي إلى وصفها بشكل كمي من خلال العلاقات الرياضية والجبرية. لقد حدث ترييض للطبيعة منذ غاليليو، وتلك سمة محورية يتسم بها المنهج التجريبي، ما جعله يدفع بالعلم الحديث نحو تقدم ونمو هائليْن.
أصبحت الفيزياء معتمدة بشكل أساسي على الرياضيات، إذ تصاغ التجارب والظواهر المدروسة في علاقات رياضية محددة. وبالرغم من أن القدماء كانوا يطبقون الحساب على العلوم الطبيعية كالفلك مثلًا، فإن هذه الخاصية الجديدة متعلقة بتحويل الوقائع التجريبية، في عالم الشهادة، إلى رموز جبرية وتوصيفات كمية وتجريدية يمكن قياسها بدقة. وكل ذلك يساعد على ضبط الظواهر المدروسة والتحكم بها والتنبؤ بنتائجها.
قد يعجبك أيضًا: العلم يهزمنا: قراءة في قصة «الآلة تتوقف»
لعل الدرس المحوري الذي قدمته المناهج العلمية الجديدة التي تمثلت في المنهج التجريبي، هو إطلاق سراح القوى المعرفية لدى الإنسان، والتي تمثلت في التداخل والتفاعل بين العقل والواقع (الفرض والتجربة)، بين الوصف الكيفي والتجريبي والوصف الكمي الرياضي دون حاجة إلى نص مسبَق يفرض نفسه على العقل أو الواقع.
هكذا كانت القطيعة مع الماضي، حتى وإن كنا أهملنا الحديث عن العلم العربي في العصور الوسطى، لأنه يحتاج إلى وقفة خاصة، فقد بدا وكأنه قطع مع المنهج الأرسطي السائد ليخطو خطوات متقاربة مع المنهج التجريبي في الحداثة الأوروبية، ولذلك لا يمكننا الإقرار بأن الحداثة الأوروبية كانت قد قطعت مع العلم العربي، إذا أردنا أن نتحدث من منظور تاريخي شامل لا يستبعد حلقة من حلقات تطور حركة العلم. لكن التركيز، في هذا الموضوع، انصبَّ على قطيعة الحداثة الأوروبية، بمنهجها التجريبي، مع المنهج الأرسطي على وجه التحديد.