أرنب أم بطة؟ ماذا ترى؟ وماذا يعني أن ترى أرنبًا أو بطة؟ أو حتى الاثنين؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تطرح بدورها تساؤلين آخرين مهمين: أحدهما فلسفي والآخر علمي.
صورة الأرنب والبطة واحدة من أكثر الصور شهرةً في الفلسفة، إلى الحد الذي جعل زميلًا جامعيًّا سابقًا لـ«ستيفان لو»، أن يضعها وشمًا على ساقه، كنوع من الرغبة في تثبيت هذه الفكرة والإيماء بها. لكن ما الأمر الذي يجعل صورة عادية بهذه الأهمية الفلسفية؟ في هذا المقال، يحاول «ستيفان لو» الإجابة عن هذا السؤال.
من سيرة «فيتغنشتاين»
استخدم الفيلسوف النمساوي «لودفيغ فيتغنشتاين» صورة الأرنب والبطة في كتابه الذي نُشِرَ بعد وفاته، «تحقيقات فلسفية» (1953)، لتوضيح ما يسميه الفلاسفة «الإدراك الظاهري».
يمكننا رؤية الصورة بطريقتين: أرنب أو بطة. ونستطيع تحديد ما نود أن نراه. إذ يمكننا أن نقول: «لو نظرنا إليها من هذه الزاوية، فهي بطة، ولو قررنا النظر من الزاوية المعاكسة، فسنرى الأرنب».
الصورة على الورقة تبقى كما هي، ولكن الصورة التي تظهر أمام عقلك هي التي تتغير.
يقدم فيتغنشتاين أمثلةً أخرى لهذا النوع من تغيُّر الإدراك. على سبيل المثال، يمكنك أن ترى الخطوط المرتبة أدناه على أنها مكعب في اتجاه ما، ويمكنك رؤية مكعب في اتجاه آخر.
ما هي الأهمية الفلسفية لهذا النوع من التجارب؟ أحد الأسئلة التي تثيرها هذه الصور هو: ما الذي يحدث عندما يتغير إدراكنا الظاهري؟ ماذا يحدث عندما نرى مكعبًا في اتجاه ما، ثم نرى الخطوط ذاتها تكوِّن مكعبًا في اتجاه آخر؟ بالتأكيد لا يحدث التغير في الصورة على الورقة أو في الصورة بشبكية عينيك، وإنما هذا التغيير في داخلك، في طريقتنا للنظر إلى الأشياء، وكذلك الطريقة التي تستقبل بها أدمغتنا البيانات المختلفة. فما هو هذا النوع من التغيير؟
أحد التفسيرات التي قد تجيب على هذا التساؤل هي أن هذا التغيير يرجع إلى تغير في صورة خاصة داخلية. نعم، الصورة على الورقة تبقى كما هي، لكننا نتحدث عن صورتك الداخلية، الصورة التي تظهر أمام عقلك هي التي تتغير. غير أن فيتغنشتاين يرفض هذا التفسير.
يمكن استخدام صورة «مكعب نيكر» أعلاه لتوضيح كيف يبدو المكعب الذي نراه في اتجاه ما، وكذلك لتوضيح المكعب حينما نراه في اتجاه آخر. في هذه الحالة، يبدو أن الانطباع البصري، وبالتالي الصورة الداخلية، لا بد من أن تكون هي نفسها في كل حالة. ولذلك لا يمكن أن يكون حدوث تغيير في الصورة الواقعية أو الداخلية، هو الذي يفسر تغيُّر الإدراك الظاهري.
الإدراك يختلف
يوجد سبب آخر وراء الأهمية الفلسفية لتغير الإدراك الظاهري، وهي أنه يلفت انتباهنا إلى حقيقة أننا نرى جوانب مختلفة للشيء ذاته طوال الوقت، رغم أننا عادة لا نلاحظ ذلك.
كتب الفيلسوف الإنجليزي «بي إف ستراوسون»، في مقال بعنوان «الإدراك والخيال»، المنشور عام 1971: «إن الحالة اللافتة لتغير إدراكنا الظاهري، والتي نراها أمرًا بديعًا ومميزًا، إنما هي صفة دائمة في إدراكنا بشكل عام».
على سبيل المثال، عندما يرى الواحد منا مِقصًّا، فإننا لا نراه باعتباره شيئًا ماديًّا وحسب، وإنما ندرك للحظة أنه هو الأداة التي يمكن استخدامها في تنفيذ أشياء مختلفة. رؤيتنا للمقص وإدراكنا اللحظي لماهيته واستخدامه أمر نفعله دون جهد أو تفكير. أمر تفعله أدمغتنا بتعبير أدق، دون أن نسيطر على مجرى أفكارنا.
لكن من ناحية أخرى، لو نظر شخص غير معتاد على مفهوم المقص واستخدامه، فإنه سيرى المقص باعتباره مجرد شيء مادي فقط. سيراه فقط، لكنه لن يدرك ما هو أبعد من ذلك. سيرى شفرتين ومقبضًا دون أن يتعرَّف إلى الوظيفة التي ينفذها، ولا كيفية أداء هذا الشيء المادي لهذه الوظيفة.
أنت، يا من تقرأ هذا الكلام، في هذه اللحظة تمامًا، تنظر إلى هذه الصفحة وما فوقها من أشكال، وتدرك أنها حروف، وأن تلك الحروف تكوِّن كلمات، ثم جُملًا، لتفهم المعنى من ذلك.
هذه هي الاستجابة التلقائية التي تنتج عن أنك تفهم اللغة العربية. لا تشعر بالحاجة إلى استنتاج ما تعنيه هذه السطور (أي لو كنت غير عربي، وتستخدم قاموسًا لفهم تلك اللغة). إن ما تعنيه هذه الكتابة يصل إليك فورًا دون جهد.
اقرأ أيضًا: نظرية جديدة: كيف تطور الوعي البشري عبر التاريخ؟
إننا لا ندرك «بأعيننا فقط»، لكن بآذاننا أيضًا. ما ينطبق على اللغة العربية المكتوبة ينطبق على العربية المنطوقة أيضًا. عندما نسمع شخصًا آخر يتحدث العربية، فإننا لا نسمع أصواتًا غريبة أو ضوضاء نبحث داخلها عن كلمات نفهمها، وإنما ندرك ما يقال فورًا. نسمع المعنى.
وحتى الأصوات..
عملية الإدراك موضوع شديد الثراء فلسفيًّا، ويمكننا ربطه بعدد من الأسئلة الفلسفية المهمة، مثل طبيعة عملية الفهم.
أحد الأمثلة اللطيفة لتغيُّر الإدراك يتمثل عندما نسمع لحنًا. نميزه، ثم نعرفه ونستكمله وحدنا بثقة. تخيل مثلًا أنك سمعت بداية لحن أغنية «ألف ليلة وليلة» لأم كلثوم يأتي من بعيد، ستشعر فجأة بلحظة تنويرية، وتعرف بقية اللحن. إن هذا هو ما يعنيه تغير الإدراك، هذه اللحظة التي تتحول فيها نوتات موسيقية ما إلى نوتات تعرفها وتميِّزها، ويمكنك أن تواصل دندنتها وحدك. يعمل أكثر من نظام عصبي في هذه الحالة: الذاكرة والإدراك والتذوّق الموسيقي. كلها في نفس الوقت، وبطريقة معقدة، تتسبب في النهاية أن يكون هذا اللحن مألوفًا.
أو مثلًا، عندما تكتشف حيلة حسابية. فلنفترض أن أحدهم بدأ بكتابة متسلسلة من الأرقام، بداية برقم 4، ثم 6، ثم 8، فإنك غالبًا ستدرك فجأة ما الذي يحدث تمامًا في تلك المتسلسلة. وهي إضافة 2، وستكون بعدها قادرًا على المواصلة وحدك بثقة: 10، ثم 12، ثم 14. ما الذي يحدث داخلك عندما تشعر بلحظة التبصر والإدراك تلك؟
لم تتغير الأرقام بالطبع، لكنك أنت، بطريقة ما، مَن تغيَّر، فجأة سترى هذه الأرقام بشكل مختلف. كقطعة من متسلسلة لا حصر لها، متسلسلة يمكن أن تستمر فيها دون مساعدة من أحد. فجأة تتحوَّل هذه الأرقام من مجموعة متجاورة لا معنى لها إلى نمط. وهذا التحول واحد من أهم قدراتنا كبشر.
كان فيتغنشتاين مهتمًّا بمعرفة ما الذي يحدث في تلك اللحظة، التحول الذي حدث بين رؤيتنا الأولى للأرقام دون أي استنتاجٍ، ثم بعد ذلك أتتنا الإجابة، واستطعنا إدراك ما يحدث.
باختصار، عملية الإدراك موضوع شديد الثراء فلسفيًّا، ويمكننا ربطه بعدد من الأسئلة الفلسفية المهمة، مثل طبيعة عملية الفهم.
قد يهمك أيضًا: اختلال الحواس: مرض يجعلنا نشم الموسيقى، ونرى ألوان الحروف
إدراكنا يتغير، ويتساءل، ويجيب
مفهوم الإدراك الظاهري وتغيره يساعدنا كأداة تفكير عامة، ويمكن استخدامها في موضوعات مختلفة كثيرة. مثلًا، في السؤال حول ما الذي يجعل شيئًا مثل «مَبولة» دوشام عملًا فنيًّا؟ هل ما يجعل شيئًا ما عملًا فنيًّا هو حقيقة أننا نراه على هذا النحو؟
تلك الفكرة يمكن تطبيقها كذلك على التفكير الديني. يقترح بعض الأشخاص المتدينين أن الإيمان بالله لا ينطوي على الاقتناع بفرضية معينة، وإنما على الطريقة التي نرى الأشياء من خلالها. إن ما يميز بين النظرة الإلحادية والإيمانية، عادةً، ليس بالضرورة القدرة على فهم الدلائل التي تشير إلى وجود الإله. ما يغيب عن الملحد هو القدرة على رؤية العالم باعتباره عمل الله، ورؤية الكتب المقدسة باعتبارها كلمة الله، وهكذا.
تمامًا كما يعاني بعضهم من نوعٍ من العمى الجمالي، حينما لا يستطيعون رؤية لوحة ما لـ«بيكاسو» كتعبير قوي على المعاناة، فإن هناك من يقترح أن الملحدين يعانون نوعًا من العمى العقائدي، ما يعني أنهم لا يستطيعون رؤية العالم باعتباره إشارة إلى الإله. والعكس بالعكس.
هذا المثال الأخير يقود الكاتب إلى قول كلمة تحذيرية. ففي مقاله يحذر من أن رؤية شيء ما على هيئة معينة لا تعني دائمًا أنه على تلك الهيئة فعلًا. قد يرى الواحد كومةً من الملابس في نهاية سريره كوحشٍ مخيف. لكن بالطبع، إن اعتقد أنها وحش فعلًا، فهو مخطئ. ويمكن اقناعه بالعكس، بمجرد كشف أنها مجرد كومة من الملابس.
عودة إلى البطة والأرنب
استُخدمت صورة الأرنب-البطة، أول مرة، على يد عالم النفس الأمريكي «جوزيف جاسترو»، عام 1899، عندما أراد أن يوضح أن الإدراك لا يقتصر فقط على الرؤية، لكنه في الواقع نشاط عقلي مهم.
استند بحث جاسترو إلى سرعة الأشخاص المشاركين في رؤية الحيوان الآخر، ومدى سرعتهم في التبديل بين رؤيتهم للحيوانين.
أوضحت الدراسة أنه كلما كان بإمكانك القيام بهذا بصورةٍ أسرع، كان أداؤك العقلي أسرع وأكثر إبداعًا.
عالم مجازي
ترى «ليزا فيلدمان»، عالمة الأعصاب المعرفية والباحثة في علم النفس، أن بنية الدماغ تحتوي على عدد من الروابط الداخلية بين الخلايا العصبية أكثر من الروابط التي تنقل معلومات حسية من العالم الخارجي إلى الدماغ. وبوجود هذا النقص في الروابط، فإن الدماغ يكمل ما ينقصه عبر حشو تفاصيل لجعل الأمور أكثر منطقية بعد أن كانت مجرد مدخلات حسية غامضة.
أي شيء ننظر إليه يمكن أن نفسره بطرائق مختلفة. لذلك، فإننا، في واقع الأمر، أمام خيارين طوال الوقت: أن نرى البطة أو الأرنب.
الدماغ، ببساطة، جهاز توليد الاستنتاجات. سيكون الأمر بسيطًا جدًّا لو كان هناك قدر كبير من المدخلات الحسية، لكنه ليس كذلك. ولذلك يشعر الدماغ بأن عليه أن يجد طرقًا أخرى للتعويض. لهذا السبب هو دائم التنبُّؤ. وعندما لا تتطابق المعلومات الحسية مع تنبؤاتك، فإنك تقرر ماذا تود أن تغير: تنبؤاتك أم المعلومات الحسية التي تتلقاها.
لوحظت هذه العلاقة بين التنبؤات والمدخلات الحسية في تجارب بحثية. ففي دراسة نُشِرَت في جريدة «نيوروسايكولوجيا» (Neuropsychologia)، طُلب من المشاركين التفكير في ما إذا كان أيٌّ منهم رأى ما يربط بين شيء ما ولون ما، مثل الموز واللون الأصفر مثلًا، وتحديد ما إذا كانوا يظنونه رأيًا سليمًا أم لا.
لوحظ أنه قد نشطت أجزاء مماثلة في الدماغ عند تفكيرهم في الألوان، كما لو كان التفكير في الموز (الذي عادةً ما يكون أصفر اللون) يماثل رؤيةً للون نفسه. ويعد هذا نوعًا من إعادة الإدراك، والذي يحدث حينما نسترجع أحداثًا من الذاكرة.
إننا نشكل معتقداتنا بناءً على ما نستقبله في العالم من خلال نافذة إدراكنا. لكن هذه المعتقدات تعمل كعدساتٍ، إذ تركز فقط على ما تريد رؤيته.
كذلك، فإننا ننظر إلى عملية اتخاذ القرارات باعتبارها موضع التحيز الرئيسي، لأننا إذا فكرنا في جوانب الإدراك التي تسبق قراراتنا، سنجد أننا أولًا ننتبه، وعملية الإنتباه هي التفكير في ما تسمح لعينيك بالنظر إليه.
نعيش في عالمٍ ملئ بالاحتمالات، وأي شيء ننظر إليه يمكن أن نفسره بطرائق مختلفة. لذلك، في واقع الأمر، نكون بين خيارين طوال الوقت: أن نرى البطة أو الأرنب.
يقترح «يورغن كورمنير»، من معهد فرونتير إيريز لعلم النفس والصحة العقلية في ألمانيا، أننا حتى لو لم نلاحظ البطة والأرنب، فإن أدمغتنا سجلت وجود حيلة بصرية في الصورة دون وعي، وقررت عدم إخبارك بذلك. وبحسب هذه الفكرة، فإن عقولنا مشاركة في الخدعة هي الأخرى، بينما تظل أنت وحدك مخدوعًا.