المماطلة المستمرة: النسوية على أجندة اليسار

الصورة: Getty\Ed Giles

زياد فرج
نشر في 2018/03/26

رأى اليسار منذ نشأته أن قضايا النساء مكون أساسي من مشروعه الشامل، وأن النضال النسائي لا بد وأن ينطلق من قلب اليسار لأن انتصار مشروعه سيحقق بالضرورة المساواة الكاملة، ويلغي جميع أشكال التمييز التي يتسم بها المجتمع الأبوي ضد النساء، بداية من حقهن في العمل، والتساوي في الفرص والأجر مع الذكور، وكذلك فرص الترقي لمواقع المسؤولية كافة، واتخاذ القرار على قدم المساواة، وصولاً إلى إلغاء جميع أشكال التمييز.

لذلك احتلت القضايا النسائية بشكل شبه دائم القلب من خطاب اليسار المعلن منذ نشأته وحتى الآن، لتتأخر في نفس الوقت قائمة المهام الفعلية للأحزاب والتيارات اليسارية باعتبارها قضية جزئية أو ثانوية في ظل مشروع أكبر يسعى إلى تغيير العالم لتتحول على مدى عقود طويلة إلى ديباجة شكلية في كل أوراق اليسار باختلاف توجهاته.

مثال على ذلك: عملية الإقصاء المنهجية التي كانت تمارسها الأحزاب اليسارية التقليدية تحت مسمى «اتحاد النساء» التي ورثتها من الحزب الشيوعي الروسي في الاتحاد السوفييتي، إذ تنفصل العضوية النسائية في الحزب داخل هياكل ذلك الاتحاد النسائي الذي يملك هيكله القيادي المنفصل الذي يقود الحزب عن طريق قيادة ذلك الاتحاد لتمنع العضوية النسائية من الترشح والتصويت لبقية المناصب القيادية داخل الهيكل القيادي للحزب.

وكل ذلك تحت ادعاء إتاحة الفرصة للنساء بعيدًا عن المنافسة غير المتكافئة مع الرجال، ولكنه في حقيقته عزل وإبعاد منهجي للنساء عن مواقع اتخاذ القرار داخل تلك الأحزاب لينعكس الأمر بوضوح على موقع القضايا النسائية من البرامج الفعلية للأحزاب اليسارية التقليدية.

وبالطبع لا يمكن فصل وضع القضايا النسائية في برنامج عمل أي منظمة عن حجم النساء وتأثيرهن في عملية اتخاذ القرار داخل تلك المنظمة (ينطبق الأمر نفسه على أي فئة أخرى تقريبًا، سواء كانت اجتماعية أو عرقية أو طبقية)، فكل شخص يميل إلى دعم ما يراه مصالحه الخاصة دون غيرها، وتنعكس تركيبة عضوية أي منظمة باختلاف نوعيتها على طريقة قيادة تلك المنظمة، سواء كانت حزبًا سياسيًّا أو نقابة أو رابطة، ولانخفاض نسبة العضوية النسائية دور رئيسي في انخفاض نسبتها في القيادة، وبالتبعية على مساحة اهتمام تلك الكيانات بقضايا النساء المختلفة، وترتيبها على أولوية أي منظمة.

أثينا تولد من رأس زيوس

الصورة: Rob Kall

ارتبطت الحركة النسائية واليسار ببعضهما منذ نشأتهما بدرجة كبيرة، ولكن العلاقة بينهما تميزت بالشد والجذب منذ البداية، وتمحور الخلاف الأساسي حول طبيعة العلاقة بينهما، ودور كل طرف في مشروع الآخر. إذ رأى اليساريون منذ القرن التاسع عشر دور الحركة النسائية محددًا في دعم النضال الطبقي في صورته الشاملة بعيدًا عن التعاطي مع قضايا النساء كتفصيلة قائمة بذاتها. لقد رأوا النظام الطبقي السبب الرئيسي للظلم الواقع على النساء، وبالتالي انتصار اليسار في نضاله الطبقي هو الحل الحقيقي للقضية النسائية، وسيترتب عليه بالتبعية تحقق انتصار النساء وتحررهن من قيودهن.

بينما رأت الحركة النسائية (أو جزء منها على الأقل) أن قضايا النساء لا تحتمل التأجيل وانتظار انتصار مفترَض لليسار، وأكد ذلك ما حدث في الاتحاد السوفييتي والصين، أكبر نموذجين لما يُفترَض أنه انتصار اليسار، فقد استمر قمع النساء تحت نفس الشعارات القديمة بتنحية قضايا النساء لصالح الصراع «المصيري» بين الاشتراكية والرأسمالية.

موجة الحركة النسوية الجديدة أعادت طرح أسئلة قديمة حول أولوية الحركة السياسية بمختلف أطيافها، وطبيعة علاقة الحركة النسوية بالمنظمات السياسية.

على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، تعددت محاولات إنشاء تنظيمات نسائية ذات طابع سياسي تُعنَى بالدفاع عن قضايا النساء، بمعزل، وأحيانًا في مواجهة، الأحزاب اليسارية بعيدًا عن جدلية أولوية النضال التي تتبناها الأحزاب اليسارية التقليدية، مثل «الرابطة الدولية للنساء» التي تأسست في سويسرا عام 1868 واستمرت حتى 1872 كمنظمة نسوية رافضة للعنف تقتصر عضويتها على النساء فقط.

طالبت  المنظمات النسوية بالمساواة الكاملة بين الرجال والنساء، وركزت على إقرار حق تصويت النساء، وهو المطلب الذي حدد الموجة الأولى من الحركة النسوية، لتولد تلك الحركة من قلب اليسار، بل ومن وسط قياداته، مثل «كلارا زيتكن» التي لعبت دورًا مهمًّا في تنظيم الحركة النسائية الاشتراكية المناهضة للحرب العالمية الأولى، ودفعها إلى خلق درجة من التعاون مع الحركة النسائية اللبرالية المناهضة للحرب.،وعلى الرغم من ذلك، وربما بسببه، وجد اليسار والحركة النسوية أنفسهما في مواجهة، وأحيانًا في صدام وعداء، مع بعضهما البعض.

ومما لا شك فيه أن الموجة الجديدة من الحركة النسوية وارتباطها بحملة «#أنا_أيضًا» (#Me_Too)، وطريقة تعاطي جميع الأطراف معها، أعادت كثيرًا من الأسئلة القديمة إلى صدارة المشهد، سواء حول أولوية الحركة السياسية بمختلف أطيافها، وخصوصًا اليسار، أو طبيعة علاقة الحركة النسوية بالأحزاب والمنظمات السياسية على اختلاف أنواعها، وأسئلة أخرى كثيرة قديمة قِدَم تلك الحركات نفسها.

فعلى الرغم من تراجع اليسار التقليدي منذ نهاية الحرب الباردة، وتعدد التجارب اليسارية الجديدة التي تحاول الخروج من عباءة القديم، ومعها عادت محاولات إعادة دمج الحركة النسوية داخل اليسار، فإن اليسار الجديد يبدو أنه ما زال يكرر أخطاء الماضي التي لم يتعلم منها شيئًا.

اقرأ أيضًا: لماذا تزعج «MeToo#» الخطاب السائد في مجتمعاتنا العربية؟

هناك فرق كبير بين تبنِّي قضية ما في خطابك المعلن وتبنِّيها فعليًّا في عملك السياسي بشكل ملموس وحقيقي، ولا يمكن بأي حال عند الحديث عن العلاقة بين الأحزاب السياسية والحركة النسوية تجاهل التاريخ الطويل من انعدام ثقة الحركة النسوية في الأحزاب السياسية، والذي يجب علاجه أولًا حتى يمكن بناء تعاون وشراكة ناجحة بهدف توحيد الجهود لتحقيق الأهداف المشتركة.

الموجة الرابعة من الحركة النسوية والعنف الجنسي

الصورة: Gigi Ibrahim

العنف الجنسي ضد النساء ليس بمعزل عن ثقافة المجتمع الغارق في الذكورية، الذي يرى القمع أداة منهجية فعالة في تسيير شؤونه اليومية.

تُعرِّف الموجة الرابعة من الحركة النسوية في مصر التي انطلقت مع ثورة يناير 2011 نفسها عن طريق ارتباطها بشكل أساسي بقضية العنف الجنسي ضد النساء، وربما يفسر ذلك الزخم الذي أحدثته حملة «#أنا_أيضًا» في مصر، إذ يربط الإثنين تمحورهماحول مقاومة العنف الجنسي ضد المرأة.

في المقابل،  سبب تركيز الحركة النسوية على العنف الجنسي انتقادات من بعض الحركات السياسية المصرية وجزء من الحركة النسوية، إذ اعترضوا على حصر قضايا النساء في العنف الجنسي فقط، واختصار أزمة النساء في قضية التحرش والاغتصاب، فهي على أهميتها ليست بأي حال، في رأي هؤلاء المنتقدون، سوى مظهر من مظاهر التمييز ضد النساء داخل المجتمع الأبوي، والنضال من أجل حقوق النساء لا بد أن يكون أشمل بكثير من تلك الجزئية على الرغم من أهميتها الشديدة، بينما يرد آخرون على هذه الانتقادات، بأن تهميش قضية العنف الجنسي هو جزأ من العنف المعنوي الذي تتعرض له النساء بالفعل.

بداية لا بد أن نتذكر دائمًا تراث القهر المرتبط بالنساء في مصر بشكل خاص عند تعاطينا مع قضية العنف الجنسي ضد المرأة، فعلينا أن نتذكر كمثال أنه بحسب تقرير وزارة الصحة المصرية، فإن 92.3% من المصريات من سن 15 إلى 45 سنة قد خضعن لتشويه أعضائهن التناسلية (الختان)، وهي ممارسة في مضمونها عنف جنسي مبكر منهجي ضدها باعتبارها أنثى.

كذلك، فالعنف الجنسي ضد النساء ليس بمعزل عن ثقافة المجتمع الغارق في الذكورية، والذي يرى القمع أداة منهجية فعالة في تسيير شؤونه اليومية، بداية من قمع الأطفال بمختلف وسائل العنف في المنزل ثم المدرسة، إذ يشير نفس التقرير إلى تعرض 93% من الأطفال إلى وسائل عنيفة لضبط سلوكهم، ويرى العنف الجنسي أحد أدوات المجتمع الفعالة لقمع المتمردين من أفراده، وإرساء ثقافة الخوف والتهديد، وإثبات السيطرة والتفوق باعتبار الجنس وسيلة فرض السيطرة وإثبات النفوذ، سيطرة الذكر المهيمن، الأب، الأخ، الزوج، القائد، وبالتبعية ترى في العملية الجنسية الوسيلة المنطقية في إثبات هذا النفوذ، ليس على الأنثى فحسب، بل في مواجهة الذكور أيضًا.

وغني عن الذكر التقارير التي تشير إلى تعرض بعض المساجين الذكور إلى عمليات انتهاكات جسدية ذات طابع جنسي، مثال على ذلك جريمة هتك عرض عماد الكبير بأحد أقسام الشرطة في يناير 2006، والتي كان المتهم فيها ضابطًا بالداخلية أدانته المحكمة.

وتمثل أحداث الاعتداءات الجسدية والجنسية على عدد من الصحفيات والناشطات السياسيات يوم 25 مايو 2005 في أثناء التظاهرات المعارضة لتعديل دستور 1971 (التعديلات التي اقترحها مبارك في ذلك العام، وتضمنت تحويل اختيار الرئيس من أسلوب الاستفتاء إلى الانتخاب بين أكثر من مرشح) نموذجًا واضحًا لاستعمال العنف الجنسي كأحد أدوات القمع المنهجي ضد الأصوات المعارضة، فقد هاجمت مجموعات من البلطجية تحت سمع وبصر قوات الداخلية المتظاهرات ومزقوا ملابسهن وتحرشوا بهن جسديًّا بهدف إذلالهن وكسر مقاومتهن، وذلك في نفس الوقت الذي كان هؤلاء البلطجية يعتدون بالضرب علي المتظاهرين الرجال.

يتكرر ذلك النمط بشكل مستمر ليصل إلى أقصى درجاته في أثناء المظاهرات المختلفة إبان ثورة يناير، والذي بدأ بما يُعرَف بكشوف العذرية في مارس 2011 لعدد من الفتيات المتظاهرات في ميدان التحرير، ثم وقائع الاعتداءات والاغتصابات الجماعية ضد النساء، والتي قُدِّرَت طبقًا لتقرير صادر عن مؤسسة «نظرة» للدراسات النسوية بأكثر من 500 جريمة عنف جنسي جماعي ضد النساء في الفترة بين 2012 و2014، والتي لعبت دورًا كبيرًا في الدفع بالنساء لتقليل مشاركتهن في المجال العام بهدف حماية أنفسهن من التعرض للانتهاك الجسدي، وما يتبعه من انتهاك معنوي.

قد يعجبك أيضًا: كيف أصبحت نسوية نكدية؟

أولوية نضالية

الخوف يدفع كثيرًا من النساء إلى الابتعاد عن المساحات التي قد يتعرضن فيها للاستغلال الجنسي، ما يحد من تأثيرهن في عملية اتخاذ القرار بمختلف المجالات.

ربما تكون الميزة الوحيدة للهزيمة قدرتها على كشف مواطن الضعف والقوة في قلب صفوفنا، وفي الاستراتيجية والتكتيك، وتكمن فائدتها الأكبر في المعرفة التي تمنحها إيانا حتى نتعلم من أخطائنا. وإذا كانت فترات الانفتاح تمنحنا فرصة كبيرة للنمو والازدهار، فإن فترات الجذر مساحة للبناء على أسس أكثر ثباتًا.

وفي تقديري أن أهم ما تعلمناه من التاريخ أن القضايا الهامشية ليست كذلك، وأن الانتصارات مهما تكن صغيرة، فهي مؤثرة، والتغيير الحقيقي لا يأتي بانتصار واحد ضخم وحاسم، ولكن عن طريق تلك الانتصارات الصغيرة وتراكمها لتشكل مع الوقت التغيير الذي نسعى إليه، ولن يتحقق المجتمع الخالي من القمع والاستغلال من دون تلك النضالات الصغيرة والخاصة لتشكل في تناغمها فسيفساء التاريخ والمستقبل، وإذا كان الاشتراكيون يرون في الاشتراكية مشروعًا حقيقيًّا للقضاء على أشكال الاستغلال والقمع كافة، فعليهم أن يدعموا جميع أشكال النضال ضد القمع والاستغلال.

ولا يمكن الحديث عن مشروع اشتراكي حقيقي من دون دمج النساء في العمل السياسي وعملية اتخاذ القرار في الكيانات السياسية، وبالتأكيد لا يمكن فصل درجة مشاركة النساء في العمل العام عن قضية خلق مساحات عمل آمنة خالية من العنف الجنسي ضدهن. فالخوف من التعرض للاستغلال يدفع كثيرًا من النساء إلى الابتعاد عن المساحات التي قد يتعرضن فيها للتحرش أو الاغتصاب أو الاستغلال الجنسي، ما يحد من تأثيرهن في عملية اتخاذ القرار بمختلف المجالات، ويفتح المجال للممارسات ذات الطابع الأبوي في إطار توفير الحماية من احتمالية الانتهاك، لذا لا يمكن الحديث عن مشاركة أوسع للنساء دون معالجة قضية العنف الجنسي.


هذا الموضوع اقترحه أحد قُراء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.

مواضيع مشابهة