شاهِد أي حلقة من مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» على يوتيوب، وحاول قراءة التعليقات المصاحبة، ستجد بعضها يترحم على الفنان نور الشريف، لكن غالبيتها تتحدث عن إعادة مشاهدة المسلسل أكثر من مرة.
بالنسبة إلى مواليد الثمانينيات، وتحديدًا نصفها الثاني، يمثل هذا المسلسل نوعًا من الإدمان «الفني». لا أحب اقتران كلمة «تعاطي» بكلمة «الفن» لأنها تجعل منه نظيرًا للمخدرات، أي تحصر نشوته في مجاز ضيق، لكني أُقر بوجود نوع من الإدمان الفني، إدمان حميد يتمثل في معاودة تلقي عمل فني مرة تلو المرة.
هناك إدمان على نطاق عالمي، مثل إدمان الاستماع إلى سيمفونية بيتهوفن التاسعة، أو مشاهدة المسلسل الأمريكي «Breaking Bad». أما على النطاق العربي أو المحلي، فسنجد، بعد تنحية أم كلثوم وأغانيها جانبًا، إدمان مشاهدة «لن أعيش في جلباب أبي». أن تعاود مشاهدة الحلقة الأولى فور نهاية حلقته الأخيرة، كمُدخن شَرِه يشعل سيجارته القادمة من سابقتها.
لا نريد لهذا المقال أن يكون اعترافات مدمن للمسلسل، بل سنحاول البحث عن آثار هذه الدراما، ومعرفة ما تبقى من إرث عبد الغفور البرعي. إنه محاولة لمعرفة الكيفية التي يصبح بها العمل الفني جماهيريًّا.
هل هناك ما يعتمل تحت السطح الظاهري لأفكار مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي»؟ وكيف تمثِّلتها الدراما؟
راهنية «لن أعيش في جلباب أبي» ليست محل خلاف، لكننا سنحاول أن نتقصى ثيمات العمل، وما آلت إليه، وأسباب تشظي المسلسل نفسه إلى شعارات وصور كوميدية (وما يُعرف بالميمز) واﻟـGIF على مواقع التواصل الاجتماعي.
إنه تمثيل علاقة فريدة بين الفن والواقع، أو بالأحرى الواقع في صورتيه: «الفعلي» الذي أنتجه، و«الافتراضي» الذي يعيد إنتاجه.
لكن التساؤل الأهم: كيف يمكن أن تحب عملًا فنيًّا رغم اختلافك الكامل مع خطابه، أو رفضك مقولاته، أو لإعادته إنتاج مجموعة من المفاهيم القيمية السائدة؟ وما يزيد من تعقيد الإشكالية أن الحديث عن جماليات أسلوبية بصرية داخل مسلسل درامي، رمضاني، أُنتج منتصف تسعينيات القرن الماضي، أمر شديد الصعوبة.
في البداية يتوجب علينا أن نتناول خطاب المسلسل ومقولاته الرئيسية، ومجموعة الأفكار التي نهض عليها، والقيم التي دعا إليها كذلك، وهل هناك ما يعتمل تحت السطح الظاهري لتلك الأفكار؟ وكيف تمثّلتها الدراما؟
لن أعيش في جلباب أبي: النظام الأبوي والأسرة والتمرد
يوحي عنوان المسلسل، المأخوذ عن قصة الكاتب إحسان عبد القدوس مع كثير من المعالجة، بأنه صيحة رفض، إعلان تمرد ضد السلطة الأبوية، لكننا نعلم حقيقة هذا التمرد ونهايته.
يؤكد العمل شرعية السلطة الأبوية. تمتاز سلطة الأب البطريركي، في المسلسل، بالمرونة. تُقيِّم الدراما ذلك التناظر الذكي بين سمات شخصية الأب والسمات الاقتصادية التي تميز الرأسمالية «التنافسية». الحيلة والفراسة والنظرة التنبؤية. نرى كيف ظهرت هذه السمات في تفاصيل حياته اليومية ومعاملاته الإنسانية.
عبد الغفور البرعي رجل عصامي، يصف الآخرون ما حققه بأنه معجزة: كيف بدأ مُعدَمًا، يعمل حمّالًا في وكالة الحاج سردينة، إلى أن أصبح مؤسسة قائمة بذاتها، بتعبير جاره الوزير السابق.
عبد الغفور البرعي أكبر تاجر خردة في وكالة البلح، ولديه عقارات وأعمال مقاولات، لكن الأهم أنه رجل صناعة، إذ يملك مصنعًا للحديد والصلب، وقرب نهاية المسلسل نعلم أنه بصدد بناء مصنع آخر أكبر.
تبدو هذه النقطة عرضية في المسلسل، أو قد يراها بعض الناس نتيجة طبيعية لتراكم ثروته، أو نوعًا من الاستثمار. غير أن سمة «رجل الصناعة» من شأنها أن تمحو النفور النخبوي من محدثي الثراء، وكذلك تُبعد البرعي عن الرأسمالية الطفيلية التي تقتات على أعمال السمسرة والمضاربة.
برع السيناريست مصطفى محرم في رسم كل تفاصيل شخصية البرعي، التي لم تكن الشخصية الرئيسية في القصة الأصلية لإحسان عبد القدوس. فهو عصامي، ورجل بر وإحسان، تزوج عن حب من فاطمة كشري، لا يعرف القراءة أو الكتابة، لكنه مؤمن بأهمية التعليم، لذلك حرص على تعليم أولاده. رجل يعيش من أجل زوجته وأبنائه.
شخصية الأب تَبرز ككيان مستقل قوي ومبدع، لبنيته النفسية تأثيراتها العميقة على الآخرين في العائلة.
سلطة الأب «مرنة» لأنها سلطة من خاض التجربة ولا يطمح إلى مصادرتها عن الآخرين، أو العمل على تجنيب أبنائه مخاطرها. إنها سلطة الأب الذي يعرف ما لا يعرفونه، ويرى ما لا يرونه، لكنه لا يرفض أو يصادر الاختيار الحر للأبناء. نتبين هذه المرونة في أكثر من موقف، يثبت فيه الأب أنه لا يجبر أبناءه على فعل أي شيء، وخصوصًا في مسألتي التعليم والزواج، فلديهم مطلق الحرية في ما يفعلونه حيالهما.
يُخطئ من يظن أن المسلسل يحكي قصة التحول للعصامي المعدم فقط، وإنما قصة الصعود الاجتماعي في نصفه الأول، وقصة الأب والأسرة في النصف الثاني للمسلسل.
الابن غير قادر على التمرد لأنه لا يعلم شروط استقلاله. فمصدر التمرد هو نمو الفردانية، وعبد الوهاب لم يعمل على إنماء فردانيته، فمعارضته للأب صبيانية ولا تدرك أهدافها.
إذا كانت البروتستانتية لا ترى قوة الأب العليا واقعةً طبيعيةً وحسب، بل واقعة أخلاقية أيضًا، كما يوضح «ماكس فيبر» في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، فإن المجتمعات العربية تُماثلها في تقدير الأمهات والأطفال العالي لتفوق الأب، وهو ما يعبِّر عنه «ماكس هوركهايمر» في مقاله «السلطة والعائلة» بعبارات دالة:
«تحكُّم الفرد بنفسه، والاستعداد للعمل والانضباط، والقدرة على التشبث بأفكار معينة، والاتساق في الحياة العملية والمثابرة، والاستمتاع بالنشاط البنّاء، ما كان لها أن تتطور إلا في ظل إملاء وإرشاد الأب الذي تلقّى تعليمه في مدرسة الحياة».
حينما لم يكن ضغط الأب عبد الغفور البرعي شديدًا (إضافة إلى أن حنان الأم ساعد في تخفيفه وسلاسته، كما فعلت فاطمة كشري)، كانت هناك إمكانية لإنتاج أفراد يميزون أخطاءهم، ويسيرون على خطى الأب في إبداء موقف «مستقل».
يبني العمل الدرامي مراوحة مستمرة بين نجاحات الأب في العمل، وإخفاقات الأبناء داخل الأسرة. فهو دائمًا في حالة بينية، مجد ونجاح وخذلان وقلق. ويبني كذلك مقارنة ذكية بين «عبد الوهاب» (محمد رياض) الابن الأكبر، و«نظيرة» (حنان ترك) الابنة الصغرى.
فرغم التبعية الاقتصادية للنساء التي صيغت وفقها حياتهن داخل المجتمع، أي أن الفردانية قسمة ليست بالعادلة بين الذكور والإناث، فإن نظيرة هي التمثيل الحقيقي للحرية الفردية. وهي الأقرب إلى إعلان التمرد الذي يُعَنون المسلسل.
تقدم نظيرة معارضة معينة ضد الأب، معارضة ضرورية لتطور الفردية، وهي معارضة كفلها لها الأب الذي لا يفرق بين الذكور والإناث.
تتراكم فضائل الأب مقارنةً بمثالب الابن: الابن غير قادر على التمرد لأنه لا يعلم شروط استقلاله. مصدر التمرد هو نمو الفردانية، وعبد الوهاب لم يعمل على إنماء فردانيته. لهذا فإن معارضته للأب صبيانية، وغير مدركة لأهدافها، ويتخبط في قراراته، فهو لا يعلم ماذا يدرس ولا من يتزوج. هنا ينبغي أن نسأل: هل المسلسل عمل في مديح النظام الأبوي، أم في إيضاح شروط التمرد والمقاومة؟
تبدو نهاية المسلسل إيذانًا بفشل التمرد، فالابن يعود إلى كنف الأب، يقرر العمل معه، والتعلم من خبرته، يتزوج من ابنة خاله. الخروج من ربقة التقليد خروج ظاهري. معارضة عبد الوهاب في شكلها النهائي، عندما يقرر أن يستقل بنشاطه عن الأب في الحلقة الأخيرة، معارضة من داخل النظام ووفق أُطُره.
أما نظيرة فتُبدي طوال الدراما موقفًا مستقلًّا، تبتهج بمزاجها الحر وانضباطها الداخلي، الذي يظهر في تفوقها الدراسي، تستطيع تمثيل السلطة والحرية وممارستهما معًا.
عقدة الابن تتمثل في إدراكه أن فرادة الأب أصيلة غير قابلة للتكرار لأنها استثناء من المجتمع وتراتبيته، علاوة على بعض الملامح الأوديبية لتلك العقدة.
إحلال الرئيس/النظام محل الأب/الأسرة في المسلسل ينطوي على قدر من المغالطة.
أسوأ قراءة ممكنة لمسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» هي القراءة السياسية المباشرة. حدث لي هذا في الشهور التالية لقيام ثورة الخامس والعشرين من يناير.
فكرت في المقولات التي تُشبِّه حسني مبارك بالأب، أو تطلب منا اعتباره كذلك، وإنزاله تلك المنزلة.
ألم تفكر غالبيتنا، ممن شاركوا في الثورة، في أن السلطة الأبوية أصل كل الشرور؟
الرئيس الأب الذي يعلم ما لا يعلمه الشعب الأبناء، ولا خير في الشعب الذي يُبدي عقوقًا للأب الذي دأب على «تربيته» 30 عامًا.
أقول إن إحلال مجاز الرئيس/النظام محل الأب/الأسرة في المسلسل ينطوي على قدر من المغالطة. قدّم المسلسل شخصيته الرئيسية كحالة فريدة. هنا، الأب لديه ما يعلِّمه لأبنائه. ولأنه حالة فريدة في مجتمعه الذي لم يتطور إلى نمط متأخر من رأسمالية الشركات التجارية الكونية (إذ تتقوض العائلة ويغدو النظام هو ما ينبغي أن يطاع، وليس شخصية الأب، كما يبين «هوركهايمر»)، فالجميع في هذا النمط من الرأسمالية المتأخرة موظفون لدى شركات متكتلة محتكرة.
الأب في مجتمع المسلسل يحوز قيمة «معرفية»، فضلًا عن «الاقتصادية».
ولكي تكون المقاومة ممكنة ينبغي استبطان سلطة الأب والتمرد عليها، وهو ما أدركته نظيرة قارئة الأدب والفلسفة وعلم النفس، ولم يدركه عبد الوهاب في نكوصه الأوديبي وانغلاقه، أو محاولة بناء ذاته الفردية عبر التدين، وإغراق نفسه في ممارسة العبادات.
العمل: منظومة عقاب بني آدم الأبدية
تُقدس شخصية عبد الغفور البرعي العمل، وترى القدسية كصفة قارة في العمل نفسه. في بداياته المعدمة، كان الكدح ضرورة لأنه إذا لم يعمل سيموت من الجوع، وكذلك في بدايات تكوين الثروة من أجل تأمين مستقبل الأبناء.
لكن لماذا يستمر عبد الغفور البرعي في العمل اليومي بعدما ترسخت أركان إمبراطوريته؟ لديه من المال ما يكفيه هو وأحفاده، فلماذا لا يستمتع بحياته ويزيد من أوقات فراغه؟
قد يكون السبب بسيطًا، فهو، مثل معظم من لهم أصول شعبية، لا يستمرئ الجلوس في المنزل دون عمل لأن ذلك من شِيَم «الحريم». نراه يذهب إلى العمل كل صباح، حتى في الصباح التالي ليوم زفافه. يزيده تقديسه لقيمة العمل حسرةً على ابنه المتبطل، فهو ينتقد الكسل والبطالة. العمل قيمة في ذاته، وهو ما يضفي معنًى على حياة الرجل.
أما الابن، فإنه لا يحتاج إلى أن يعمل من أجل أن يأكل. العمل يجب أن يمثل له تحقيقًا للذات لا روتينًا يوميًّا. يمنحه فائض ثروة الأب «ترف» الاختيار. لكن الذات الحرة للعقل «يمكنها فقط أن تبزغ خلال انضباط شخصي لا يرحم»، بتعبير «سلافوي جيجيك». الحرية الحقيقية ليست حرية الاختيار من مسافة آمنة كما يفعل عبد الوهاب، إنها مفعمة بالضرورة. عبد الوهاب لا يدرك ذلك، إنه يبدد فرص حريته، ويهدر إمكانية استغلالها، ولهذا يثير غيظنا.
لم يتجه المسلسل إلى تصوير صراع بين أب رأسمالي وابن مؤمن بالعدالة الاجتماعية، أو يجادل الأب دومًا في حقوق العمال. كان هذا ممكنًا لو أن كاتب المسلسل هو أسامة أنور عكاشة. من شأن «كليشيه» مثل هذا أن يفسد العمل برُمته. واقعية المسلسل تتمثل في إيمانها بحقيقة «الطبقة»، واستحالة الانسلاخ الرومانسي المثالي عنها.
بين الرؤية القَبَلية للعمل بوصفه مقدسًا، والنظرة المترفة إليه، يمكننا أن نطرح رؤية أخرى، وإن كانت مسبقة كذلك، مفادها أن نظام الكدح والعمل هو الشكل الجديد للعبودية.
قد يتشارك كثير من الشباب معي تلك الرؤية. وحتى الأشد إيمانًا بيننا بجدوى العمل يدركون أنه لا سبيل إلى الترقي الاجتماعي، وأن المبادرات والمشاريع الطامحة إلى تحسين الوضع المادي الاجتماعي محكوم عليها مسبقًا بالفشل، في ظل الظروف السياسية الراهنة.
تصيبنا محاولات التكيف المستمرة مع أجواء العمل بالاكتئاب. نرجع إلى منازلنا منهكين وبؤساء، يعتصرنا الضيق. وحين نفتح التلفزيون ونقلب قنواته الكثيرة في لامبالاة، نجد أمامنا حلقة من حلقات «لن أعيش في جلباب أبي»، كأنه يذاع على مدار العام. فنشاهدها ونحن نتمنى لو كنا متبطلين مثل عبد الوهاب، أو مقدسين للعمل مثل أبيه.
بعد أن دأبت الدراما المصرية على تقديم نموذج الموظف المثالي المرموق في الثمانينيات والتسعينيات كممثل شرعي لمنظومة العمل، كما في مسلسلات مثل «عائلة الأستاذ شلش» و«البخيل وأنا»، بجانب السخرية والتحقير من المهن الحرفية والتصوير الكاريكاتيري لأصحابها، جاء «جلباب أبي» كي يقر حقيقة بسيطة: المال ليس شرًّا. وإن لم يكن من العمل بُد، فمن العجز أن تكون فقيرًا. وفي مقابل الاعتزاز المستفز والرومانسي بالفقر في مسلسلات أسامة أنور عكاشة ومحمد جلال عبد القوي، قدم المسلسل صورة أكثر واقعية للفقر والغنى، للعداوة التي لا أسباب لها تجاه الفقير، وللتبجيل الذي يحظى به الغني.
كذلك، استبعدت الدراما الدمار «الجانبي» الناتج عن ثراء هذه الفئة وصعودها. عبد الغفور البرعي لا يشبه «فضة المعداوي» (سناء جميل في مسلسل «الراية البيضا»). إنه جاهل مثلها، لكنه يعلم ذلك ومتصالح مع هذه الحقيقة. لم نضبطه طوال حلقات المسلسل متلبسًا بسوء استغلال ثروته من أجل إخضاع الفئات المثقفة أو النخبة، وإثبات تفوقه عليها، من أجل محو إحساس متأصل داخله بالدونية.
الأسرار العلوية في السيرة البُرعية
ما أسباب نجاح أي عمل درامي جماهيريًّا؟ أو بالأدق، اجتماع الطبقات الشعبية أو المُشاهد «العادي» حول عمل بعينه، بعيدًا عن التفضيلات النقدية أو النخبوية، إن جاز التعبير؟
ثَمّة نظرة غالبة إلى العمل الدرامي (الرمضاني تحديدًا) مفادها أن الشرط «الجمالي» ترف لا ينبغي تحقيقه. لذلك يعمد أغلب صناع الدراما إلى «وصفة» مضمونة النجاح: حكاية بسيطة في إطار سرد خطي، لا تنقلات زمنية، التزام بالأنساق الأخلاقية المحافظة، والأهم الكوميديا، لا بالمعنى الفني، وإنما حشر مجموعة من النكات والإفيهات.
إذا نظرنا إلى الأعمال الدرامية المعروضة في تلك السنوات، سنجدها ذات منحى أخلاقي وتربوي، تنضح غالبيتها بالخطابة والوعظ، أما «جلباب أبي» فلا يسعى إلى تربية المُشاهد.
استطاع المسلسل أن يقدم، وبذكاء، عناصر مهمة وأولية في الدراما، تأتي في مقدمتها شخصية البطل. لم يقع المسلسل أسيرًا للتنميط الدرامي المصاحب لشخصية ثري الانفتاح: السوقي الجاهل، عدو الثقافة. المسلسل محاولة تصوير موضوعي لبطله الرئيسي، ويعمل على إنصافه. وفي الوقت نفسه، لا تكرس الدراما نفسها كبروباغندا في خدمة الانفتاح.
من الواضح أن المسلسل لم يقدم نقدًا اجتماعيًّا للشرائح الطبقية المهيمنة على المجتمع المصري منذ أوائل السبعينيات، لكنه لا يضفي شرعية على الجشع، وإنما يتعامل واعيًا مع فكرة الطموح المادي.
ربما يحمل العمل الدرامي بين طياته الفكرة الرأسمالية القائلة بأن الفرد مسؤول عن فقره، وأن الأمر منوط بالاجتهاد والكدح، في تعمية أيديولوجية على الأسباب السياسية والاقتصادية للفقر. الانحياز داخل المسلسل ليس انحيازًا إلى تلك الشريحة الطبقية في عمومها، وإنما هو انحياز إلى عائلة البرعي في المقام الأول.
إذا نظرنا إلى الأعمال الدرامية المعروضة في تلك السنوات، سنجدها ذات منحى أخلاقي وتربوي، تنضح غالبيتها بالخطابة والوعظ. أما «لن أعيش في جلباب أبي» فلا يسعى إلى تربية المُشاهد، بل يوظف الحِكَم التربوية والحياتية في إطار العلاقة الأبوية بين الحاج سردينة وعبد الغفور البرعي. وهي ما صارت الآن مادة للكوميديا والإفيهات على مواقع السوشيال ميديا، وسنأتي على ذكر هذه النقطة لاحقًا.
في عالم المسلسل، نستطيع أن نشهد نهاية الصراع الطبقي بشكله الكلاسيكي، إذ حلت العلاقات البراغماتية محل الصراع المباشر.
إنه مسلسل الطبقة الوسطى عبر غيابها. أقصد أن الطبقة الوسطى ترى صورتها في تلك الدراما رغم أنها ممثلة بنسبة ضئيلة داخل العمل. فباستثناء عائلة حسين صديق عبد الوهاب، والدكتور مؤنس، والدكتورة خيرية، تنحصر شخصيات المسلسل بين الأغنياء والفقراء. كأن الطبقة الوسطى تبني تصورها عن نفسها من خلال رؤية الأدنى منها والأعلى. صوّرها العمل كطبقة مثقفة متعلمة عقلانية دون تكبر أو استعلاء، مثل عائلة الوزير، أو صخب وفوضى أثرياء الانفتاح. وهو بذلك يقدم نوعًا من التعزية لهذه الطبقة الآخذة في الانقراض البطيء.
ثَمّة أسباب أخرى لنجاح العمل بالطبع، أهمها: التجسيد، أو عنصر التمثيل.
كان المسلسل نافذة عبور عبلة كامل إلى قلوب المشاهدين: أداء عفوي وفكاهي جديد استنسخته بعد ذلك كثيرًا، الأم التي لا تعدَم الأمثال ولا تخذلها القافية، البكّاءة في الأفراح والأحزان. حولت عبلة كامل بأدائها صورة الأمومة من كونها النشاط الاختصاصي اليومي في تربية الأبناء إلى علاقة متفجرة محمومة، بعيدة عن النسب المتوازنة من التأنيب القاسي والمودة الدافئة، كما تنصح الأدبيات النفسية الرائجة.
وعبد الغفور البرعي خلاصة خبرة نور الشريف في فن الأداء التمثيلي، استثمار لنجوميته ونجاحه في أعمال سينمائية مهمة، مثل «سواق الأوتوبيس» و«العار» و«حدوتة مصرية». قدم شخصية مغايرة لما قدمه من قبل في أعمال تناولت الانفتاح الاقتصادي، مثل فيلم «أهل القمة».
خلق المخرج أحمد توفيق الفكاهة من رحم المواقف والعلاقات الإنسانية. كوميديا نتجت عن سوء التفاهم واختلاف وجهات النظر. والأهم هو الكوميديا كمَلهاة أيضًا، كوميديا مواقف وأفكار تُجاورها شخصيات كاريكاتيرية فرعية، مثل حمامة صبي القهوة (سيد حاتم)، وفتحية (سهير الباروني).
وللنهايات السعيدة سحر خاص، فالنهايات المأساوية يمكن إسقاطها بشكل قبلي على المشاهدة التالية، فتُعطلها. أما النهايات السعيدة، حتى وإن كانت غير منطقية، فإنها تمنح متعة للمُشاهد رغم المعرفة المسبقة بالحبكة.
راهنية جلباب أبي: البرعي وبلزاك وما بعد الحداثة
«إننا بحاجة إلى مثل بِلزاك، لأن ما تراه هنا هو إحياء لمجتمع رأسمالي بكل ما ينطوي عليه من قسوة وغباء، مع سوقية النصابين وحديثي النعمة. لقد حلت الحماقة التجارية محل الحماقة الأيديولوجية».
المقطع السابق من ثلاثية «ميلان كونديرا» حول الرواية، يتحدث فيه أحد أصدقائه ممن عاشوا طوال عمرهم في مدينة براغ التشيكية.
يتحدث كونديرا عن عام 1989 خلال إقامته هناك بعد انهيار النظام الشيوعي، إذ يصف صديقه تاريخ براغ وقتها بأنه كما هو في حقبة بلزاك (أحد رواد الأدب الفرنسي).
يقص عليه الصديق قصة رجل عجوز كان موظفًا كبيرًا سابقًا في الحزب، وافق قبل 25 سنة على زواج ابنته من ابن عائلة برجوازية كبيرة صودرت أملاكها، وهيأ له وضعًا مهنيًّا رفيعًا كهدية زواج، واليوم يُنهي الموظف الحزبي حياته في عزلة، فقد استعادت أسرة صهره أمواله المؤممة قديمًا، وشعرت الابنة بالعار من أبيها الشيوعي الذي لا تجرؤ على رؤيته إلا سرًّا.
يقول كونديرا: «يضحك صديقي قائلًا: هل تصدق أنها قصة الأب جوريو بالحرف! الرجل القوي في عهد الإرهاب ينجح في تزويج ابنتيه من عدويّن طبقيين لا يريدان في ما بعد، في عهد الإصلاح، الاعتراف به، ولا يستطيع الأب أبدًا لقاءهما جهرًا».
أعمال الروائي الفرنسي الكبير بلزاك تنتسب إلى الواقعية. قدم فيها صورة اجتماعية بانورامية للشعب الفرنسي بطبقاته، ورؤية ثاقبة لتراتبيته الاجتماعية الجديدة، حيث ميلاد الرأسمالية وصعود البرجوازية. فهو من أوائل من امتلكوا إدراكًا مفارقًا للتناقض الموجود في الطابع التقدمي للرأسمالية.
الرغبة في فهم واقع براغ الجديد أعادت خلق راهنية بلزاك، بينما لم يكن مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» أكثر راهنيةً مما هو عليه اليوم. التعطش الكبير إلى رؤية أعمال درامية تعبِّر عن الوضع القائم هو ما خلق الاحتفاء النقدي والجماهيري بأعمال درامية مثل «سجن النسا» و«هذا المساء» و«سابع جار»، من منطلق الرغبة في قراءة واقعنا الحالي وفهمه.
إن «جوع الواقع»، بتعبير الكاتب النرويجي «ديفيد شيلدس»، هو ما يحركنا تجاه الأعمال التي تَخلق على الشاشة واقعًا «غير سنتمنتالي يضاهي ما في الحياة من تعقيد».
«لن أعيش في جلباب أبي» ليس عملًا بلزاكيًّا بالطبع، لكن عبد الغفور البرعي شخصية بلزاكية بامتياز. لو كنتَ في حديث مع صديق وأردت أن تأتي على ذكر شخص ثري عصامي بدأ من الصفر، فسيكفيه كي يفهم قولك «عبد الغفور البرعي مثلًا».
هناك سيميائية خاصة تخلّقت بفعل المسلسل، في الواقع وفي صورته الافتراضية على السواء.
انتشرت الصور الساخرة والكوميكس واﻟـGIF بين الحاج سردينة وعبد الغفور البرعي، كأنها تقدم قطوفًا من الحكمة تتعلق بتفاصيل الحياة اليومية التافهة والجادة.
يرى المفكر الفرنسي «جي ديبور» أن المجتمع الحديث «مشهدي»، أي أن مفهوم المجتمع «مشهد» أو «فرجة». يقول ديبور في كتابه «مجتمع الاستعراض»، عن شخصية الممثل النجم كسلعة وكمادة درامية: «النجم موضوع التماهي مع الحياة الظاهرية التي يجب أن تُعوِّض تفتت التخصصات الإنتاجية المعيشة فعلًا. ويوجد النجوم كي يجسدوا أنماطًا مختلفة من أساليب الحياة وفهم المجتمع».
يؤكد الفيلسوف الفرنسي «جان بودريار» أننا غارقون في عالم ما بعد حديث لم يعد فيه «المشهد» وهمًا، بل غدا «الشيء الواقعي». يرى بودريار أن النمو المتسارع في الاتصالات الجماهيرية وتكنولوجيا المعلومات والإنترنت وغيرها ولّدت حِملًا زائدًا من المعلومات، وهناك كثير من صور الحقيقة المتاحة، حتى باتت فكرة وجود عالم واقعي يمكننا أن نعلم حقيقته فكرة إشكالية.
قد يفسر هذا ندرة الأعمال الدرامية في الفترة الأخيرة، التي استطاعت النفاذ إلى قلب واقعنا الآني.
هكذا تملأ الصور الفنية من «لن أعيش في جلباب أبي» فضاء السوشيال ميديا: صورة عبلة كامل وهي تجلس القرفصاء، مكروبةً متحسرةً حزينة، فتوضع مرة على الجنيه بعد تعويمه، أو تعليقًا ساخرًا على الأنباء السيئة، أو تعبيرًا عن حالة مزاجية عامة. وتنتشر الصور الساخرة والكوميكس واﻟGIF بين الحاج سردينة وعبد الغفور البرعي، كأنها تقدم قطوفًا من الحكمة تتعلق بتفاصيل الحياة اليومية التافهة والجادة.
الصورة الفنية لم تعد مقيدة بشيء ثابت في العالم الواقعي، بل تتحرك بكل طريقة يمكن لنا أن نتصورها. أو كما يبين بودريار، فإن ما حُكي، أي النموذج الدرامي، يحل محل الواقعي، و«يغدو هو الواقعي بدلًا منه».
في كتابه «النظرية الثقافية والثقافة الشعبية»، يحكي الكاتب البريطاني «جون ستوري» عن ذهابه إلى مطعم إيطالي في جنوب إنجلترا، ورؤيته صورة كبيرة للممثل الأمريكي «مارلون براندو» معلقة على الجدار. ولقد أدرك مباشرة مدلول الصورة، ألا وهو «الطليانية»، من خلال الدور الرئيس الذي لعبه براندو في فيلم «The Godfather»، لكنه تحيّر من «تلك السهولة التي يمكن بها التقاط الصلة المُخَلّعة بين أيقونة سينمائية أمريكية والطليانية».
الواقع الافتراضي جائع هو الآخر مثلنا. السوشيال ميديا في حالة شَرَهٍ دائم إلى المواد الخام الأولية للفُرجة والسخرية، وتجد ضالتها في خطب الديكتاتورية والمواد الإعلامية والدراما الشعبية.
الصور الأيقونية المخلوعة من سياقها في حالة «لن أعيش في جلباب أبي» تمثل الثقافة الشعبية في تجليها البصري، واستمدت أيقونيتها من اقترابها قدر الاستطاعة من الواقع. واستمرارنا في إعادة إنتاجها ومحاكاتها داخل واقعنا الافتراضي قد يكون حنينًا إلى الماضي، إلى ذكرى المُشاهدة الأولى أواخر يناير من عام 1996، أن تجلس وسط دفء الأسرة، تداعبك أحلام طفولية عن سلسلة من النجاحات في العمل والحياة. ربما خلعُ تلك الصور وإعادة إنتاجها، هو سخرية من عالم اليوم، ومن وهم الطمأنينة القديم.