سجن العمل: كيف تحولت حياتنا إلى عبء لا يحتمل؟

الصورة: Phil Whitehouse

أحمد شهاب الدين
نشر في 2017/07/20

تستيقظ من نومك متأخرًا، تتناول إفطارك على مهل، ليس هناك ما يستدعي العجلة، تنزل إلى المقهى وتلعب الطاولة مع أصدقائك لساعات، ثم تقضي ليلك في أحد النوادي بين رقص وغناء وغزل، وربما تعود لمشاهدة مسلسلك المفضل أو متابعة مباراة كرة قدم.

ليس ذلك وصفًا ليوم إجازتك، بل نمطُ الحياة الطبيعي الذي كنا نفترض أننا سنحياه منذ سبعينيات القرن العشرين، بحسب بروفيسور الأنثربولوجيا وأحد مؤسسي حركة «Occupy Wall Street» الأمريكية، «ديفيد غرابر»، فنعيش الحياة متلذذين وكسولين، ونترك للروبوتات الدور الذي كنا نؤديه (العمل)، فلم يعد يليق بنا كبشر أن نترك متع الحياة من أجل مهن يمكن للذكاء الصناعي الذي ابتكرناه أن يقوم بها.

لكن الطبقات الحاكمة في ذلك الوقت انتابها الذعر بشأن استبدال الروبوتات بالعمال، خصوصًا بعد قمعها جماعات الهيبيز التي كانت تقضي وقتها في الاستمتاع بالحياة بعيدًا عن العمل والطموح المادي.

يضيف غرابر: «كان هناك شعور يقول: يا إلهي، إذا كان الأمر سيئًا الآن مع الهيبيين، تخيل ماذا ستصبح عليه الأمور إذا أصبحت الطبقة العاملة بالكامل غير موظفة، فلن تعرف كيف سيتشكل وعيهم».

في تلك المرحلة، وجهت الطبقات الحاكمة الأبحاث الطبية في اتجاه آخر هو مضادات الاكتئاب، لأن وظائفنا تقودنا إلى الجنون، ويُتعذر التكيف معها.

يقول غرابر: «ماذا كان أكثر شيء أهميةً في الطب والحياة العلمية خلال أواخر الستينيات؟ هل هو السرطان؟ بالطبع لا، ما حدث كان تقدم أبحاث العقاقير المضادة للاكتئاب بشكل كبير، مثل ريتالين وزولوفت وبروزاك»، وكل هذه الأنواع مصممة خصيصًا لهؤلاء الذين يعملون في وظائف لا معنى لها لساعات طوال، ثم يتساءل: «أليست متطلباتنا المهنية الجديدة تقودنا بشكل كامل إلى الجنون والاختلال العقلي؟».

صاغ الاقتصادي البارز «جون ماينارد كينز» في ثلاثينيات القرن الماضي «المستقبل المأمول» للتكنولوجيا، وخمن أنه سيكون هناك رأس مال يعمل بطريقة أفضل من أي وقت مضى، الروبوتات تؤدي كل الوظائف، والكتلة الأكبر من البشرية لا تفعل شيئًا سوى الاستمتاع، هذا إذا ما سارت الأمور في مسارها الطبيعي وفقًا لرؤية كينز، التي أكدها غرابر في مقاله، مشيرًا إلى أن الروبوتات يمكن أن تؤدي 702 وظيفة بشكل أفضل من الإنسان.

إذًا ماذا حدث؟ حدث انحراف عن المسار الطبيعي للتطور، بحسب رؤية غرابر، فاستُبدلت «التكنولوجيا القائمة على أساس إدراك المستقبل البديل» التي توقعها كينز بحيث تحل الروبوتات مكاننا، بـ«استثمار التكنولوجيا التي تفضل الانضباط في العمل والسيطرة الاجتماعية»، وهو ما تجسد في ابتكار «الإنترنت».

ما نراه منذ ظهور الإنترنت هو أن الناس باتت تعمل في وظائف تسبب لأصحابها الاكتئاب مقارنةً بالعاطلين، وزادت ساعات العمل في كثير من الدول مقارنةً بالماضي، إضافةً إلى أن تحكم الدول في المواطنين واختراق خصوصياتهم بات أكبر من أي وقت مضى بسبب التكنولوجيا.

العمل يؤدي إلى الاكتئاب

العمل يؤدي للاكتئاب
الصورة: energepic.com

ضُربت في مدح العمل أمثال كثيرة، من أبرزها «حياة بلا عمل، عبءٌ لا يُحتمل»، الذي قاله القائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت، لكن العكس تشير إليه إحصائيات استعرضها موقع «باز فييد نيوز»، بشأن أن يسبب العمل آلامًا نفسية لكثير من الناس، لدرجة دفعتهم إلى اختيار قضاء حياتهم في بطالة دائمة.

تمتدح الدراسات ألعاب الفيديو لأنها تحمل مقدارًا أكبر من السعادة وأقل حزنًا وإنهاكًا، مقارنةً بمشاهدة المسلسلات.

بحسب دراسة أجراها المستشار الاقتصادي السابق في البيت الأبيض خلال ولاية أوباما، «آلان كرويغر»، فإن نحو نصف الرجال الأمريكيين المعينين في وظائف يأخذون نوعًا من دواء الألم كل يوم، ونحو ثلث الرجال في سن التقاعد يقولون إنهم يعانون نوعًا من الإعاقة الوظيفية ولا يعيشون حياتهم بشكل جيد. وتُظهر استطلاعات مشابهة كيف أن العمل يُظهر مستويات منخفضة من مشاعر الطبيعة الصحية طَوَال أيام هؤلاء الرجال، ولا يستمدون معاني كثيرة في أنشطتهم اليومية.

يرسم البحث صورة بائسة للشخص العامل، فيها حزن وشعور بالوحدة والألم، ويشير الباحث إلى أن ارتباط هؤلاء بالحياة العملية كانت له عواقب وخيمة على إحساسهم بالصحة الجيدة.

اقرأ أيضًا: بعض الأعمال تضر صحتنا النفسية أكثر من البطالة

يقضي العاملون الأمريكيون الشباب 30% من وقتهم في عزلة، مقارنةً بـ18% من الموظفين في سن الشيخوخة، إضافةً إلى أن الشباب أيضًا أقل سعادةً وأكثر تعاسةً وأكثر شعورًا بالضغط من الرجال العاطلين، والسبب بحسب الدراسة أن من المرجح أن يكون المسنون خفضوا توقعاتهم حول ما يمكن أن يعيشوه كأفضل حياة ممكنة، أما الشباب الذين لا يعملون فيلاحظ كرويغر أن البيانات تُظهر أنهم منسجمون مع حياتهم بشكل ملحوظ، وهناك اختلافات مهمة حول كيفية الشعور بيومهم مقارنة بالذين يعملون.

يقضي معظم العاطلين في أمريكا من ثلاث إلى سبع ساعات في الأسبوع في ممارسة ألعاب الفيديو، ويعلق كرويغر: «من الواضح أن ألعاب الفيديو تجذب المزيد من الاهتمام لهذه الجماعة بمرور الزمن».

يمتدح الرجل تلك الألعاب قائلًا إنها تجربة تحمل مقدارًا أكبر من السعادة وأقل من الحزن والإنهاك مقارنةً بمشاهدة مسلسلات التليفزيون، وتجعل محبيها يمارسون نشاطات أكثر اجتماعية، تجعلهم يقضون ما يوازي 70% من وقتهم مع أشخاص آخرين يتفاعلون معهم، وتدفع الشباب بالتبعية إلى الاستمتاع بأوقات فراغهم.

أحفادنا يسخرون من حياتنا: 10 ساعات عمل يوميًّا

الإرهاق في العمل
الصورة: Tim Gouw

 لا يمكن أن يتصور العقل البشري حياة دون مسؤوليات وتحديات، ومعظم الثقافات في العالم تمتدح العمل وتنتقد الكسل والبطالة.

لمخرج الأفلام الوثائقية الأمريكي «مايكل مور» رأي فريد ينتقد فيه كيف أن الإنسان يقضي كل يوم من 8 إلى 10 ساعات في وضع لا يسمح له سوى بتنفيذ أوامر منظومة معينة دون أن يكون له رأي أو شعور بالذات، وسماه «وضعًا شموليًّا» تشبيهًا له بالأنظمة الشمولية التي تتضخم على حساب الفرد واستقلاليته.

يقول مور في حوار له إن الناس بعد أربعمئة عام سيهزؤون بطريقة حياتنا ويقولون: انظروا إلى الناس في ذلك العصر، كانوا يعتقدون أنهم أحرار، ويسمون نظامهم ديمقراطية، لكنهم كانوا يقضون 10 ساعات كل يوم في وضع شمولي، ويسمحون لأغنى 1% أن تكون لديهم ثروة مالية أكبر من 99% في القاع.

يحلل المخرج الأمريكي المنظومة الرأسمالية وكيفية تعاملها مع الوظائف وتقليلها من حجم العمل الحر، مشيرًا إلى أن النظام الاقتصادي ليس جوهر كل هذا، بل إن حقيقة الرأسمالية هي إضفاء الشرعية على الجشع، فالجشع جزء من طبيعتنا السيئة كبشر، وإذا لم نضع قيودًا على هذه الأجزاء في طبيعتنا سيخرج الأمر عن نطاق السيطرة، فالرأسمالية، كما يراها مور، لا تضع قيودًا على الجشع، لكنها تشجع عليه وتكافئه.

العمل ليس مجرد مجهود يُبذل من أجل المال، فالعقل البشري لا يمكن أن يتصور حياة دون مسؤوليات تُلقى على عاتقه، وتحديات يتوجب عليه أن يتحداها، ومعظم الثقافات في العالم تمتدح العمل وتنتقد الكسل والبطالة، بل والأبعد من ذلك أننا نسقط تصوراتنا عن أنفسنا على الطبيعة، ونتخيلها في حالة نشاط بهدف تحقيق نوع من المصالح الاقتصادية، بحسب تعبير غرابر.

قد يعجبك أيضًا: لماذا ينبغي أن نحصل على راحة دون شعور بالذنب؟

يختلف غرابر مع هذه النظرة للحياة، ويرى «اللعب» فكرة أساسية في الطبيعة، فبدلًا من تتبع طائرات الاقتصاد الرأسمالية نلعب بشكل أساسي، فأبسط مستوى من الكينونية هو اللعب بدلًا من الأنشطة الاقتصادية، المرح بدلا من القواعد، وهي فكرة ثورية أشار إليها «تشارلز دوكنز» في كتاب «الجين الأناني».

ليست الفكرة غريبة بشكل كامل عن تجارب البشر، وإن بدت مناقضة كثيرًا لروح العصر الذي يقدس الإنتاج المادي والعمل والاستهلاك، فهناك طوائف مثل بوذية الزن في الهند، والباول في البنجال، وطوائف من المتصوفة المسلمين، يجوب رجالها البلاد يغنون ويرقصون بشكل عفوي وروح مرحة، في نمط حياة بعيد عن أجواء العمل والطموح المادي.

مواضيع مشابهة