«تشارلز كوشنر»، الذي هرب أبواه من الهولوكوست، وأنجب ابنه الأكبر «جاريد كوشنر»، صهر ترامب، لم يكن معروفًا في الأوساط المترفة قبل عام 2000، حين بزغ نجم إمبراطوريته العقارية التي شيدها في مسقط رأسه في ولاية نيوجرسي، وكانت تبلغ أصولها حينئذٍ ما يقرب من مليار دولار.
بعد ذلك العام، لم تكن الأموال تشكل عقبة أمام طريق كوشنر الأب لتحقيق أهدافه، سواء في توسيع مملكته أو السعي نحو حياة أفضل لأبنائه أو حتى ولوج دهاليز عالم السياسة. كان يؤمن بأن السياسة أهم من الأموال في حد ذاتها، بل إن الأموال مجرد تذكرة لدخول عالم السياسة.
توسعت الإمبراطورية العقارية التي أسسها كوشنر لتشمل ولايات أخرى، وتعهَّد بدفع تبرعات لجامعة هارفارد بقيمة 2.5 مليون دولار كي يُقبل ابنه الأكبر جاريد دون عقبات، ومدَّ له يد العون ليبدأ إمبراطوريته الخاصه به، وهو لا يزال طالبًا جامعيًّا، وموَّل حملة مرشح الحزب الديموقراطي «جيم مكغريفي» لحكم ولاية نيوجرسي، والذي فاز به عام 2001.
خطوات حثيثة وسريعة كفلت لجاريد حياة مثالية ومستقبلًا مليئًا بالرفاهية والامتيازات، لكنه مليء أيضًا بالفضائح. فقد نشب خلاف بين كوشنر الأب وشريكيه: شقيقه «موراي» وشقيقته «إستير»، حول الأموال. في ذلك التوقيت تحديدًا، استطاع محاسب شركات كوشنر الحصول على أوراق تدينه، وأقام ضده دعوى قضائية بتمويل حملات سياسية غير قانونية.
لم يصدق كوشنر أن التوقيت بعينه مجرد مصادفة، بل كان يؤمن بأن شقيقيه يُكنَّان له العداء، وأنهما وراء تلك الحادثة. وكان رده على ذلك أن اتفق مع عاهرة لإغواء زوج اخته إستير، وتسجيل ما دار بينهما بالصوت والصورة، وإرسال الشريط إلى الشقيقة المغدورة. حاول أن يعيد نفس السيناريو مع المحاسب الذي أوقعه في شباك الدعوى القضائية، إلا أنه كشف أمر العاهرة
لم ينجح كوشنر الأب في استكمال خطته للإيقاع بالأخوة الأعداء، وألقي القبض عليه عام 2005، بتهمة التهرب الضريبي والتمويل غير القانوني لحملات سياسية، والتلاعب بالشهود إثر اتفاقه مع العاهرات. لم يشأ ابنه الأكبر جاريد، من بين أبنائه الأربعة، أن تسقط إمبراطورية أبيه، فأصبح مدافعًا عن نجاحه وحاملًا رايته.
الابن البار يحمل راية أبيه
لم يكن زواج جاريد من إيفانكا في الحسبان، حيث افترقا عندما عارض والده العلاقة بسبب ديانتها.
لم ير جاريد محاولات أبيه تلفيق تهمة لصهره ومحاسب مؤسسته، إلا رد فعل طبيعيًّا لأشخاص أرادوا تحويل حياة عائلته إلى جحيم. وبعد عامين من الحبس، عاد الأب إلى حضن عائلته، لكن جاريد تحول إلى الوجه الرسمي لشركات كوشنر. فعندما كان أبوه في السجن، استمع جاريد باهتمام إلى نصائح رجل الأعمال الأمريكي اليهودي وخبير العلاقات العامة، «هوارد روبنشتاين»، لإعادة ترميم سمعة شركات كوشنر.
لتحقيق ذلك الهدف، وجَّه صديق عائلة كوشنر، روبنشتاين، ثلاث نصائح إلى جاريد. أولًا: أن يشتري صحيفة. ثانيًا: أن يمتلك ناطحة سحاب في مانهاتن. ثالثًا: أن يتزوج ابنة عائلة غنية من نيويورك. نفذ كوشنر نصائح روبنشتاين بحذافيرها. في عام 2006، اشترى صحيفة «نيويورك أوبزرفر» بقيمة 10 ملايين دولار، وفي 2007، امتلك مبني «فيفث إيف 666» بقيمة 1.8 مليار دولار، وفي نفس العام، تعرَّف إلى إيفانكا، ابنة رجل الأعمال الأمريكي دونالد ترامب، في أثناء عشاء عمل رتبه أحد الأصدقاء المشتركين، وفي 2009 تزوجها. خطوات تبدو «قائمة أمنيات» سعى جاريد إلى تحقيقها واحدة تلو الأخرى.
لم تكن الخطة تسير بسلاسة. فقد كان شراؤه لصحيفة نيويورك أوبزرفر بمثابة «هدية تخرجه»، ولذلك لم يكن لديه الخبرة الكافية لإدارتها. كان أيضًا يفتقر إلى القواعد التي تحكم صناعة الصحافة، فتركها للمحامين والمستشارين لتصويب أخطائه.
كذلك، لم يكن موفَّقًا شراؤه ناطحة السحاب «فيفث إيف 666»، في ذلك التوقيت الحرِج الذي كانت تمر به الولايات المتحدة. ففي الوقت الذي كان يخيم عليها كارثة الإسكان، ابتاع المبني بأعلى سعر في تاريخ أمريكا، وكان تمويله بالكامل تقريبًا من خلال ديون بنكية.
أيضًا، زواجه من إيفانكا لم يكن في الحسبان. إذ إن جاريد كان يطمح في شغل منصب مهم في شركة أبيها فقط، وتواعدا لفترة وجيزة، ثم افترقا عندما عارض والدا جاريد ولم يباركا تلك العلاقة، لأن إيفانكا لم تكن تدين باليهودية. لكن بعدها، اقتنعت إيفانكا بالتحول إلى الدين اليهودي، وأقيمت الأفراح.
بالرغم من خطوات جاريد التي تعثرت بعض الشيء نحو أهدافه، فإن زواجه من إيفانكا ربما يمثل الخطوة التي اختصرت طريقه بشكل كامل. فقط في اللحظة التي ارتقى فيها والد زوجته، دونالد ترامب، رأس الإدارة الأمريكية.
قد يعجبك أيضًا: حرب تكسير العظام بين ترامب والإعلام
إيفانكا: الطريق المفتوح نحو أبواب السياسة الأمريكية
في يونيه 2015، حينما أعلن رجل الأعمال دونالد ترامب نيته الترشح لرئاسة الإدارة الأمريكية، كان جاريد ضمن الصفوف الأولي لدعمه، وكان خير مُعين لوالد زوجته، فأُعجِبَ به ترامب.
في أثناء الحملة الانتخابية كان نشاطه كثيفًا، فقد التقى بأربعة مسؤولين روس، ورتَّب لقاءً مع السفير الروسي لدى الولايات المتحدة «سيرغي كيسلياك» في ديسمبر عام 2016 في برج ترامب، وقابل جاريد المصرفي الروسي «سيرغي غوركوف».
وفي الطريق، كان قد أقنع ترامب بتعيين «مايك بنس» نائبًا له بدلًا من «كريس كريستي»، حاكم ولاية نيوجيرسي، والذي كان في منصب المدعي العام لنفس الولاية، والذي زج تشارلز كوشنر في السجن عام 2005. يبدو الأمر انتقامًا، إلا أن الطرفين لم يُظهرا ذلك على الإطلاق.
رسخ جاريد وجوده في البيت الأبيض، وأصبح بالنسبة إلى ترامب «الصوت الهادئ الرزين الذي يحب أن يُستمَع له دائمًا».
بعد صعود ترامب، حامت الشكوك حول جاريد بشأن اتصاله بمسؤولين روس، لتمويل الحملة الانتخابية في يونيه 2016، إلا أنه أنكر كل تلك الادعاءات، مؤكدًا أن اللقاءات الأربع التي جرت مع المسؤولين الروس ليست لها أي علاقة بالانتخابات الأمريكية، بل دارت حول البحث عن سبل لتحسين العلاقات الأمريكية - الروسية. واعترف بحديثه الذي دار مع السفير الروسي لدى الولايات المتحدة، سيرغي كيسلياك، في ديسمبر 2016، في برج ترامب، لكن كان بشأن السياسات في سوريا، ولم يطلب أي صيغة سرية للاتصال بينهما، ولم يتطرق الحديث عن الانتخابات الأمريكية. وبطلب من السفير الروسي نفسه، قابل جاريد المصرفي الروسي، سيرغي غوركوف، لكنه أنكر أن الحديث دار حول سياسات أو انتخابات.
لم يشأ جاريد أن يقف موقف الدفاع كأبيه، حينما ساقته الأقدار إلى السجن، فبدأ الهجوم على من أثار تلك الشكوك، وإعداد قائمة الانتقام. كان مستشار الأمن القومي لإدارة ترامب، «مايكل فلين»، على رأس القائمة، عندما علم بأنه «ضلل» نائب الرئيس الأمريكي، مايك بنس، بشأن اللقاءات التي جمعت الأول مع المسؤولين الروس. وأزاح مدير حملة ترامب الانتخابية، «بول مانافورت»، بسبب اتهامات الاستخبارات الأمريكية له بالاتصال بالحكومة الروسية، في أثناء السباق الرئاسي الأمريكي عام 2016.
بهذه الخطوات، رسخ جاريد وجوده في البيت الأبيض، وأصبح بالنسبة إلى ترامب «الصوت الهادئ الرزين الذي يحب أن يُستمَع له دائمًا»، من أول يوم له في حملته الانتخابية حتى تقلد منصب كبير مستشاريه.
قد يهمك أيضًا: ربما يصبح العالم أكثر سلامًا تحت حكم المجانين
مفاتيح «قضية السلام» في جعبة جاريد
زواج جاريد من ابنة ترامب كانت المصادفة التي حققت كل قائمة أهدافه، والمصادفة التي تجعل شبح السجن يلاحقه كما لاحق أبيه يومًا ما.
زادت ثقة ترامب في صهره جاريد، وذلك حين اختاره للتحدي الأكبر لجميع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، أي قضية السلام في الشرق الأوسط. كان التحدي يظهر جليًّا عندما كانت الإدارات الأمريكية السابقة تتظاهر بالنزاهة والشفافية كشريك محايد في محادثات السلام بين الطرفين، دون أي علامة قد تبدو انحيازًا للإسرائيليين.
يبدو أن تفاؤل جاريد الجامح، والاعتداد اللا محدود بنفسه، دفعاه إلى الإعلان سريعًا عن أن الخطة التي طال انتظارها من أجل إحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، جاهزة للتنفيذ. وأكد على أن خطته للسلام تختلف عن باقي الجهود السابقة، وتكمن في أنه بعد أن «استمع كثيرًا» قويت قناعاته بأن الشعب الفلسطيني لم يستثمر في ساسته.
إثر ذلك، رفض الرئيس الفلسطيني محمود عباس، مقابلته في آخر رحلة له في الشرق الأوسط. وبسبب طموحه اللامحدود، خُيِّل له أن الرئيس الفلسطيني سيعرض بنفسه خطة ترامب على شعبه، وأكد جاريد أن عباس يتجنب مقابلته، لأنه «خائف من أن الشعب الفلسطيني سيُعجَب بخطة السلام بمجرد صدورها».
بصوت جاريد الهادئ، تخلت الإدارة الأمريكية عن الحيادية التي كانت تتظاهر بها، لتنقلب إلى طرف منحاز إلى الجانب الإسرائيلي، ملقيًا باللوم على الطرف الفلسطيني. فأقام علاقات وثيقة مع دول الخليج العربي ومصر والأردن، من أجل مواجهة التحديات التي قد يتعرض لها خلال تطبيقه خطة السلام عديمة الملامح. وضيَّق الخناق الاقتصادي على الفلسطينيين من أجل التخلي عن طموحهم السياسي، ورغبتهم الأصيلة في حق العودة.
ففي الوقت الذي يعرض فيه جاريد مساعدات الإدارة الأمريكية، لجذب استثمارات أجنبية للبنية التحتية على الأراضي الفلسطينية، يقطع ترامب المعونة الأمريكية للشعب الفلسطيني، لتكون نتيجته الطبيعية التجويع ونشر الفوضى.
قد يعجبك أيضًا: قطع المعونة عن فلسطين ربما يؤذي أمريكا
سواء نجح هذه المرة في تنفيذ تطلعاته، أو لم ينجح لتنضم إلى خطواته المتعثرة، فمن الواضح أن زواجه من ابنة ترامب كانت المصادفة التي حققت كل قائمة أهدافه، لكنها أيضًا المصادفة التي تجعل شبح السجن يلاحقه كما لاحق أبيه يومًا ما، في حال ثبوت تواصله مع الحكومة الروسية للتنسيق مع الحملة الانتخابية لترامب عام 2016.