تجربة شخصية: دراما التصالح والاشتباك والهروب من أبي

الصورة: Getty/Ozgur Donmaz

هبة عادل محمد
نشر في 2017/12/13

أبي دائم الخوف والقلق. في بادئ الأمر كنت أكره ذلك كثيرًا، كان رد فعلي مزيجًا من الانفعالات العصبية. بعد ذلك اعتدت تجاهل الأمر، أحيانًا أقابله بالمزاح وأخرى بالتجاهل، وغالبًا بتغيير مجرى الحديث، وإن بدت في صوتي حدة انفعال تحاول التخفي. فقد أبي والده حين كان عمره 11 عامًا، عرف الفقد مبكرًا. وأنا كذلك فقدتُ وجود شخص عزيز في الخامسة والعشرين، عرفت الخوف، ارتعش جسدي من ألم الفقد.

لكن كيف يمكن تفسير ذلك لطفل يتلمس أولى خطواته في الحياة، يرى عالم الكبار كأحجية، لا تطأ قدماه إلا بمقدار ما يسمح به الكبار، يلونون نظرته للأشياء؟ تراكُم القلق، أكثر ما تمنيت أن أتخلص منه كان ذلك العبء.

هكذا كان طريقي إلى «نفي الذات»

من المفترض أن يسمح استقلال الأبناء عن الأسرة في سن مبكرة بنوع من الاستقلال المادي والنفسي، لكن في بعض الأعمال الأدبية، كرواية «The Nightingale» (العندليب)، التي تحكي عن أشخاص استقلوا عن أُسَرِهم منذ الصغر، نجد صورة ملتبسة للآباء تتنازعها العاطفة من طرف والآثار النفسية من طرف آخر، في حالة من التجاذب والتنافر، أي أنهم لم ينجحوا في التحرر نفسيًّا من وطأة سيطرة الآباء.

أذكر صديقة تبلغ من العمر أكثر من 40 سنة، سلكت طريقها في الاستقلال عن الأسرة في سن مبكرة، ورغم ذلك احتفظت بنفس القدر، بل أكثر، من عدم تقدير النفس، وترسخ اعتقادها بأنها شخص لا يستحق الحب. في هذه الحالة، ما لم تحصل عليه مع أبويها عجزت عن الحصول عليه نهائيًّا.

يرتبط كثير من المشكلات النفسية بمشاكل التربية، لكن هل حقق الاستقلال عن الأسرة المنشود بكسر قيود التسلط المادي والمعنوي؟ أم أنه دفع إلى الخضوع لنوع آخر من التسلط المادي الرأسمالي وأغلق دائرة الفردية؟ هل كسر القيد النفسي، أم أن نفس الأعداد توجهت إلى عيادات الطب النفسي، أو ربما أكثر؟ لا أفترض قدسية الأسرة، أحمِل من الآثار ما يحمله غيري. فقط أعيد النظر في البدائل.

في تجربتي الخاصة، انتقلت للعيش في مدينة أخرى بعيدًا عن العائلة. أذكر ذلك القدر الهائل من الحرية والدوائر المتسعة من الصداقات الجديدة، احتفظت ببعضها على مقربة، لكن ظلت هناك مساحة من الفراغ تتسع. في البداية لم أشعر بها، في الحقيقة لم تؤلمني، وإن ظلت فارغة، بل حملت نوعًا من الاستقرار النفسي الذي طالما سعيت إليه. لكن بعد مرور نصف عام، أحسبها الفترة الأفضل في حياتي، ها هي تعلن عن نفسها بقوة، الحاجة إلى الانتماء لكيان عاطفي كالذي تمثله الأسرة.

أعلم أن المرء يتمنى هذا، حتى إذا ما تحقق هرع يبحث عن الحرية، أو إذا تحققت له الرابطة أساء إليها وإلى نفسه وكل ما ضمته داخلها، تحت وطأة وتيرة متسارعة لِما هو يومي ومتجدد.

تجربة الوجود هي مسار نفسي تقطعه غالبًا وحدك وتحمل جُلّ قلقه وحدك.

أذكر أن أبي وأمي كانا في حاجة إلى مزيد من الوقت حتى يطمئنّا إلى أن الأمور سارت على ما يرام في النهاية، بما يسمح بفرض هدنة مؤقتة تتلاشى بين حين وآخر.

في بداية حياتهما، كان الهاجس الأكبر تأمين الحد الكافي للعيش لخمسة أطفال، عن طريق دخل الأب وبعض المساعدات من الأم. الهاجس المادي، أي توفير أساسيات العيش، فرض نفسه بقوة وأخذ جُل اهتمامهما. اهتما ببناتهما كما اهتم آباؤهما بهما.

من وجهة نظرهما، قدّما ما في استطاعتهما. من وجهة نظري، كلما ازداد الضغط المعيشي ارتفع صوت أبي، وازداد خوفنا من غضبه. أرى ذلك في كثير من الظلال النفسية على المستوى الشخصي، كاتخاذي القرارات وفقًا لإرادة أبي ومراعاةً لهموم أمي وخوفًا من المواجهة، كلما تمردت، أو هكذا خُيِّل إليّ، أجد أن ما يقلقني هو قلقهم المتزايد، أحمله داخلي، أراوغه كثيرًا، لكن كثيرًا ما يشكل رد فعلي.

في سنواتي المبكرة، كنت أبحث عن إجابة لأسئلتي بطريقة شخصية تمامًا. أذكر أن أبي اشترى حذاء ذهبيًّا مكشوفًا لأختي التي تصغرني بثلاث سنوات. أذكر وقتها أني شعرت بالغيرة، كنت أبكي. أبي عنفني لذلك. كانت تلك من المرات الكثيرة التي نفيت فيها ذاتي.

على المستوى النفسي، كنت حينها قد تخطيت العاشرة ببضعة أعوام. عملت على تطوير أسلوب مختلف،استبدال شعور بالحب بالغيرة. حتى اليوم أفعل ذلك تجاه أي شعور بالغيرة، أدفعه باتجاه الحب. كثيرًا ما تمنيت لو أن أحدهم حمل عني، لكن ما لم أعرفه وقتها أن تجربة الوجود، أي الدفع بك في الحياة، هي مسار نفسي تقطعه غالبًا وحدك وتحمل جُلّ قلقه وحدك.

اقرأ أيضًا: كيف يستفيد الأطفال من تسامح آبائهم مع الفشل؟

النسور الصغيرة: في العلاقة بين الآباء والأبناء

إعلان فيلم «النسور الصغيرة»

في أعوامي الأولى، كنت دائمًا أحمل شعورًا بأن أحدهم تخلى عني. في النهاية، مرت الأعوام وصرت أنا الشخص المنوط به طمأنة الكبير ومد يد العون إلى الصغير، وإفساح المجال له حتى يجد موطِأً لقدمه. أذكر أني كنت كثيرًا ما أجد صعوبة في وضع قدمي بجوار الآخرين، كنت أتراجع إلى المؤخرة.

جزء من التشابك بين مشاعرنا وأحاسيسنا البدائية يرجع إلى أن نظرتنا لأنفسنا تتشكل بدايةً في عيون آبائنا.

في «النسور الصغيرة»، وهو فيلم وثائقي، يعرض الراوي والمخرج محمد رشاد جزءًا من علاقته بوالده، الذي أراد لابنه تعليمًا ووظيفة «حقيقية» لا أن يعمل في الإخراج السينمائي، الذي يبدو شيئًا غير مفهوم من وجهة نظره. في المقابل، حَملَ الابن تساؤلًا وجهه إلى الأب: «لماذا ارتضى بمهنة بسيطة ككي الثياب طيلة حياته؟»، «لماذا لم يفكر في الرحيل كغيره للعمل في إحدى الدول العربية؟».

كانت إجابة الأب بسيطة: لقد أحَبّ مهنته، وقنع بالعمل لساعات طويلة لكنها تسمح له بالعودة إلى أبنائه في نهاية اليوم. حمل كلٌّ منهما (الأب والابن) شعورًا بعدم الرضا تجاه الآخر. وللمفارقة، من أسباب ذلك أن كلًّا منهما اختار أن يفعل ما يحب.

اقرأ أيضًا: تحكم الوالدين يجعل الأطفال أكثر ميلًا للقلق وجلد الذات

لا أعلم إن كان رشاد قد شعر بما أحسست به، لكن الصورة نَقلت إليّ كثيرًا من التوتر والقلق بينهما، وبالتأكيد العاطفة. شعرت بعدم الراحة، ربما هي نظرة والد محمد، نظرة أبوية مُؤنبة، ربما هي نظرة أبي، تقول: «اذهب فأنت لا تفهم شيئًا»، نظرة تردُّك إلى أكثر أنواع الخوف بدائيةً: «أن تسقط من عين أبيك».

قد تكون تجربة الفيلم في أحد جوانبها محاولةً للتصالح، حتى لو كانت غير مقصودة من جانب المخرج، الذي أجاب، حين سُئل بعد الفيلم عن إمكانية التصالح من جهة الأب، بأن والده لن يرى الفيلم حتى.

يظل الوضع متشابكًا بين غابة من المشاعر والأحاسيس البدائية التي تربطنا بآبائنا، ومحاولاتٍ للتصالح وفض الاشتباك والهروب التام. جزء من هذا التشابك يرجع إلى أن قِسمًا كبيرًا من نظرتنا إلى أنفسنا يتشكل بدايةً في عيون آبائنا، نسعى إلى التحرر من القيد، وتظل محاولات التصالح دون نهاية.

مع مرور الأعوام، أجد أن كثيرًا مما ترسب داخلي هو ردود فعل لكثير مما تعرضت له، وهنا قد يكون محل التغيير.


هذا الموضوع نتاج فكرة اقترحها أحد قرّاء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويرها، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.

مواضيع مشابهة