إذا كنت من المتأملين والباحثين في الأمور السياسية والاجتماعية والدينية في هذا العالم المضطرب، فربما تكون قد واجهت عديدًا من الظرفاء بين الزملاء والأصدقاء والأهل، يقلبون الأمور في النهاية إلى مزحة ونكتة، ويهُولك حجم التعليقات التي تجمع بين الاستخفاف والسخرية عندما تُثار قضية في بلدك، ولعلك تجد ناشطًا يقدِّر هذه السخرية باعتبارها نوعًا من المقاومة السياسية، وتجد نفسك في النهاية تعيش منفصلًا عن الواقع.
رصد بعض العلماء هذه النزعة المعادية للثقافة المتفشية في الدول الغربية، وسموها «معاداة الفكر»، ويرون أنها سبب بروز القادة المحتالين مثل دونالد ترامب رئيس أمريكا، ومارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف في فرنسا، وبعض قادة المنطقة العربية، وكذلك وراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفشلنا في دعم قضية التغير المناخي.
يعرِّف قاموس أكسفورد نزعة العداء للفكر بأنها «العداء أو اللامبالاة حيال الثقافة والتفكير المثقف» في المجتمع الحديث، وهي نزعة يدعم وجودها مقالات الرأي للمثقفين والأكاديميين الحاليين، والحركات السياسة، وتتفشى بين طبقات كثيرة من العوام إلى الفنانين والنجوم، نهايةً بالسياسيين الذين كثيرًا ما يرون أنهم غير عمليين أو حالمين منفصلين عن الواقع، رغم أن الأمر لم يكن كذلك منذ عقود.
الساسة براجماتيون، والمثقفون يعادون الذوق العام
يرى «داريل ديلامايد»، المحرر في جريدة «واشنطن إندبندنت ريفيو»، أن مهنة السياسيين كان يقوم بها مثقفون، أو ساسة يقدِّرون الثقافة، لكنها باتت الآن معادية للثقافة، فالأشخاص الذين يديرون الحكومات ويضعون القوانين يقضون أوقاتًا طويلة يتصافحون، ويعقدون محادثات قصيرة، ويغرقون في قراءة مقالات عن أنفسهم.
على النقيض من رؤساء أمريكا السابقين، كان جون كينيدي خريج جامعة هارفارد وحاصل على جائزة بوليتزر عن كتابه «ملامح الشجاعة»، وحين شعر بالحاجة إلى تعيين شخص يتمتع بالثقافة العامة في البيت الأبيض، اختار «آرثر شليسينجر الابن»، المؤرخ والمؤلف.
كتب «بِن ألبرس»، وهو مؤرخ للثقافة في جامعة أوكلاهوما، تدوينة يؤرخ فيها لجماعة المثقفين الأمريكيين. كان شليسنيجر مَن اقترح على كينيدي تعيين شخص في البيت الأبيض يهتم بالمشروعات طويلة الأجل، ويعرف البرامج السياسية ويقدمها، ويراجع البرامج المستقلة وما شابه.
حقق كيندي نجاحًا جزئيًّا في هذا المجال، وجاء من بعده «ليندون جوسنون» و«جيرالد فورد» و«ريتشارد نيكسون» ليستخدموا المثقفين المقيمين في البيت الأبيض بشكل محدود، وتباينت علاقاتهم معهم من الغضب العارم إلى اللامبالاة.
دفع موقف السُّلطة من بعض المثقفين في مصر المعارضين الإسلاميين إلى تبني موقف معادٍ للثقافة.
يقول ألبرس، متمثلًا نزعة معاداة الثقافة، إن هناك شيئًا مريبًا حول كلمة «ثقافي»، فالمثقفون كأفراد لديهم نفور حقيقي، وفي بعض الأحيان ازدراء، للطريقة التي تُفهم بها الأمور لدى الذوق العام، على عكس السياسيين، الذين يتسمون بالبراجماتية ويتبنون تلك الطريقة في معالجة القضايا.
لم يشغل أحد منصب «مثقف مقيم» في البيت الأبيض منذ جيمي كارتر حتى أوباما، ويفسر ألبرس ذلك بأن المنصب قصير الأجل لم يكن معنيًّا باحترام المثقفين، لكنه أيضًا لم يكن سوى جزءًا من الاحتفال بالخبراء في الثقافة السياسية الأمريكية خلال فترة ما بعد الحرب.
كان وضع الثقافة والمثقف مختلفًا عند العرب، إذ ارتبط المثقفون بالسُّلطة ارتباطًا عضويًّا في معظم دول المنطقة، فبعد الانقلابات العسكرية التي بدأها جمال عبد الناصر في مصر عام 1952، جذب عددًا هائلًا من المثقفين باسم القومية العربية، لكنه في الوقت ذاته عزلهم عن التفاعل مع القضايا التي تجور فيها السُّلطة على المجتمع، وهو النموذج الذي تبنته الملكية في المغرب، والنُّظم السلطوية في عراق صدام حسين، وحزب البعث في سوريا، ومعمر القذافي في ليبيا.
مثقفون مثل محمد حسنين هيكل وصلاح جاهين وغيرهم كانوا مؤيدين للزعيم، بينما أقصت السُّلطة معارضين مثل نجيب سرور تمامًا، ممَّا دفع المعارضين الإسلاميين الذين لم ينالوا حظًّا في تلك النُّظم إلى تبني موقف معادٍ للثقافة، مازجين الموقف المحافظ اجتماعيًّا ضد قضايا مثل خلع الحجاب والرقص والسينما، بالموقف السياسي ضد الاستبداد العلماني.
قد يعجبك أيضًا: 7 أسئلة تشرح أثر التحولات الثقافية في المجتمع
يخطئ من يعتقد أن النزعة المعادية للثقافة حديثة النشأة، بل إنها ضاربة بجذورها في التاريخ، ومقترنة بظهور التنوير الغربي في أوروبا، وبقدوم المستعمِر إلى الشرق الأوسط، ليس فقط بدباباته، بل بطابعاته وأفكاره العلمية والتنويرية.
التنوير والعداء للثقافة مرتبطان في المدنية الغربية
ارتبطت النزعة المعادية للثقافة في الغرب بالشعبوية، وهي ظاهرة لم تولد مؤخرًا مع اليمين الشعبوي في أوروبا والولايات المتحدة كما يُشاع، لكنها قديمة في مشهد التنوير الحديث، ويعتبرها العالم الإسرائيلي «زيف ستيرنهيل» الوجه الآخر للمدنية الحديثة منذ فجرها.
تتبع ستيرنهيل، في مقال منشور على مجلة «ذي سليت» الأمريكية، الحالة المعادية للثقافة في أوروبا تاريخيًّا، ورأى أن القرن الثامن عشر يُنظر إليه باعتباره جوهريًّا للحداثة العقلانية، لكن ما غفل عنه كثيرون أن هذا العصر شهد أيضًا ثورة شاملة ضد الآراء التنويرية الأساسية في الحياة الفكرية الأوروبية، وجسد بزوغ الحركات المعادية للثقافة، وسماها المعادية للتنوير.
اقرأ أيضًا: متلازمة «أعلى من المتوسط»: مدَّعي الذكاء عنصري بالضرورة
استمرت المعركة بين الاتجاهين، التنويري والمعادي للتنوير، منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر مرورًا بعصر الحرب الباردة وانتهاءً باللحظة التي نحياها الآن، وشكلت تلك المواجهة بين التنوير والعداء للثقافة أبرز معالم العصر الحديث، بحسب المقال.
لم توجد لدى المجتمعات العربية نزعة معادية للتنوير بالمعنى الغربي الذي شرحناه سابقًا، لكن تولَّدت في بدايات القرن العشرين اتجاهات رافضة للمدنية الغربية باعتبارها شكلًا من أشكال الاستعمار الفكري.
عندما يحول الناس المثقف إلى وحش
يرى بعض الناس أن ظهور مسلسل «Friends» الشهير أسهَم في زوال الظاهرة الثقافية في المجتمع الأمريكي.
كتب «ديفيد هوبكينز»، مؤلف الكوميكس الأمريكي، يقول عن «روس» أحد أبطال المسلسل: «إنها قصة رجل أُسَري، رجل علم، عبقري وقع ضمن حشد خاطئ، وانحدر ببطء إلى الجنون واليأس، ومع تكرار الحظ السيئ أصبح وحشًا (...) إنه بطل تراجيدي روس غيلر هذا».
يرى هوبكينز أن المسلسل تبنى بشكل قاسٍ النزعة المعادية للفكر في أمريكا، رجل موهوب ومثقف يعاني اضطهاد أصدقائه الأغبياء.
يسخر فيلم «السفارة في العمارة» من المثقفين اليساريين المعادين للتطبيع مع إسرائيل، بل يسخر من أحد أهم شعراء مصر، أمل دنقل.
في مصر نجد مثالًا على ذلك، إذ بدأت مسرحيات وأفلام ذائعة الصيت في سبعينيات القرن المنصرم في تصوير الشخص المثقف باعتباره منفصلًا عن الواقع ومثيرًا للسخرية، على عكس الأغبياء عديمي الثقافة والموهبة أصحاب الظل الخفيف والنزعة العملية.
مسرحية «مدرسة المشاغبين» جسَّد فيها أحمد زكي دور شخصية الشاعر، التلميذ المثقف المجتهد الذي لا يكف إخوته عن السخرية منه، وكذلك في مسرحية «العيال كبرت» لعب دور الطالب المستنير، وانتشرت كلمة الممثل سعيد صالح عندما يستمع إلى أحمد زكي: «إنت بتقول كلام كبير قوي يصعب على أمثالي فهمه».
وفي فيلم «فوزية البرجوازية»، يُظهر السيناريست والكاتب الساخر أحمد رجب صراعًا افتراضيًّا لا علاقة له بالواقع بين مثقفين ليبراليين واشتراكيين، تسبب في انتشار النزاعات والخصومات في الحي الذي كان ينعم بالسلام والتناغم.
يسخر عادل إمام في الفيلم الكوميدي الشهير «السفارة في العمارة» من أحد المثقفين اليساريين المعادين للتطبيع، ثم يزيد السخرية ليصل إلى واحد من أهم شعراء مصر، أمل دنقل، في قصيدة «لا تصالح»: «أترى حين أفقأ عينيك وأثبت جوهرتين مكانهما، هل ترى؟ هي أشياء لا تُشتَرى».
قد يهمك أيضًا: الشيخوخة تنخر عرش الزعيم عادل إمام
كراهية الثقافة وبروز الزعماء المحتالين
إذا كانت هناك نزعة عدائية للممارسة الثقافية والقراءة والاطلاع والتفكير الجاد في شؤون الحياة، فإن تلك النزعة تلقي بظلالها على اتخاذ القرارات السياسية وانتخاب القادة، ففي النهاية يميل الناس إلى انتخاب من يشبهونهم، أو على أقل تقدير لا يخولهم جهلهم حسن الاختيار لِما هو في صالح بلادهم.
شيوع أفكار مثل نسبية الحقيقة أفقد الأمور جديتها وحقيقتها، ورفع القيمة عن المتخصصين والمثقفين.
يحمِّل «أليكس بيريزو» النزعة المعادية للثقافة مسؤولية اختيار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي، الذي يراه سلبيًّا على لندن، ويشير في مقال له على موقع «المجمع الأمريكي للعلوم والصحة» إلى هؤلاء الذين يجلسون إلى أجهزة الكمبيوتر، ويبحثون عن أشياء في غوغل، ثم يعتقدون أنهم خبراء، ولا يكتفون بذلك، بل يشنون هجومًا على المتخصصين باعتبارهم لا يفقهون في تخصصهم، ويسميها حالة «دمقرطة المعلومات».
وفي استنتاج لا يبتعد كثيرًا عن بيريزو، يرصد الفيلسوف الأخلاقي «هاري فرانكفورت» ظاهرة الرئيس المحتال، ويعرِّفه بأنه لا يكذب فقط بل لا يعير الحقيقة انتباهًا من الأصل، ورغم تفاهته وسطحيته وكذبه المفضوح يحظى بالقبول وينجح في الانتخابات، لماذا؟
يرى فرانكفورت أنه من الطبيعي أن ينجح هؤلاء، لأن الناس باتوا يقتنعون أنه يجب أن تكون لديهم آراء في كل شيء دون اطلاع كافٍ على الأمور التي يُدلون فيها بآرائهم، إضافةً إلى شيوع أفكار مثل أن الحقيقة ذاتية ونسبية تختلف من شخص إلى آخر، ولا توجد حقيقة موضوعية، ممَّا أفقد الأمور جديتها وحقيقتها، وحينها لا يكون للمتخصصين والمثقفين قيمة، وآراؤهم التي غالبًا ما تأتي بعد بحث مُضنٍ تصبح في نهاية المطاف ذاتية وتعبِّر عنهم فقط، وربما تستدعي المرح والسخرية.
إن عدم تقديرنا للممارسات الثقافية من قراءة واطلاع وبحث، أو في حالات أخرى للأفراد الباحثين والمطلعين بين الأصدقاء والزملاء والأقارب، يجعلنا عُرضةً لكل ألوان الاستغلال والتضليل، والسخرية من الثقافة تؤدي بالضرورة إلى بروز زعماء ونخب محتالة تدير شؤون دنيانا.