كانت هي الجنة كما وصفها النبي محمد لأصحابه، بأشجارها وأنهارها وفتياتها الجميلات، يُحمل إليها من أراد له الصبّاح الدخول ضمن الجماعة بعد أن يُخدّر بالحشيش، فيظن عندما يستيقظ أنه دخل الجنة، ثم بعد أن يذوق مفاتنها، يُخدّر ثانيةً ويُحمل إلى الشيخ، فيعده بالرجوع إلى هناك فقط إذا اغتال أحد الأعداء.
يروي «ماركو بولو»، الرحّالة والمستكشف الإيطالي، تلك القصة عن جماعة الحشاشين الشهيرة، الجماعة الثورية التي أسسها حسن الصبّاح واختارت الاغتيال السياسي آليةً لثورتها، في محاولة لنشر أفكار المذهب الإسماعيلي. صنع الصباح تلك الجنة في قلعته لتكون طريقة لإغواء أتباعه.
ورغم أن المصادر الأخرى التي تناولت تاريخ جماعة الحشاشين لم تؤكد القصة، فإنها تظل رواية تستحق التأمل. فحتى وإن كانت مختلقة بالكامل، إلا أنها صالحة تمامًا لتكون أفضل أسطورة رمزية يمكن استخدام رموزها للتفكير في سؤال: كيف يُصنع مفهوم الانتماء؟
يشرح أفلاطون نظريته عن عالم المُثُل باعتباره عالَمًا متجاوزًا للمحسوسات، ويفترض أنه خلف عالمنا المادي الناقص يوجد عالم آخر أكثر أصالةً وكمالًا هو عالم الأفكار والمُثُل. ورغم أنه غير مرئي ولا يمكن قياسه حسب أفلاطون، فإنه حقيقة وجوهر العالم المادي الذي نراه. هذا العالم المتعالي مدلول هلامي لا يمكن العثور عليه إلا داخل عقولنا، محددًا بتصوراتنا عنه، دون أن نستطيع فهمه أو تحليله، ودون أن نستطيع أيضًا تجاهل التفكير فيه والهوس بشأنه.
ربما ما يحدث في عملية إنتاج الانتماء ليس بعيدًا عن ذلك، إذ تحاول السلطة أو الدولة أو المؤسسة الفكرية أو المنهج أو أيًّا كانت الجهة التي تحاول جذب أفراد ينتمون إليها، أن تغرس في أذهانهم فكرة يلتفون حولها، تمكث فيهم كشيء متعالٍ على التحليل والقياس والنقد، شيء كالجنة، أو الوطن، أو المهدي المنتظر، أو ما شابه، يستطيع أن يوحد الجميع في جسد واحد.
لكن هذه الفكرة، رغم أنها تلعب دورًا محوريًّا في تسهيل الدمج والانتماء، فإن طبيعتها غير القابلة للقياس تجعل لها وجهًا آخر تظهر فيه كفكرة شديدة الهشاشة.
تكمن عبقرية رواية ماركو بولو عن الحشاشين إذًا في تجسيدها «الجنة»، هذا المدلول المتعالي، ليخرج من مخبئه السري غير المُدرَك، وينزل من السماء إلى الأرض، ليجربه الأتباع بحواسهم المادية متجليًا وواضحًا لهم كما تصوروه.
لكن هل يكون ذلك متاحًا دائمًا؟
الانتماء أم الممارسة؟
بخلاف أتباع الصباح، الذين رأوا الجنة بأعينهم فانتموا إلى الجماعة وقَتلوا باسمها الأعداء، كانت هناك جنة موعودة من نوع آخر هي جنة الحكم الإسلامي، التي ستستدعي الكثير من الأتباع لتحقيقها بعد سقوط الخلافة الإسلامية في عشرينيات القرن الماضي. لكن سيتحتم على التابع هذه المرة أن ينتمي أولًا ثم يرى.
مثّل ذلك أزمة للجماعات الإسلامية الناشئة في النصف الأول من القرن العشرين، أزمة بين النظرية وآلية التطبيق.
في كتابه «نظرية الإسلام السياسية»، يقول أبو الأعلى المودودي، الأمير الأول والمؤسس للجماعة الإسلامية في الهند، متحدثًا عن أنظمة الحكم العلمانية بعد أن عدّدها بالاسم (شيوعية وقومية وديمقراطية، إلخ): «وإذا نظرت إلى المجتمع الإنساني من هذه الوجهة، استيقنت أن منبع الشرور والفساد الحقيقي إنما هو ألوهية الناس على الناس، إما مباشرةً وإما بواسطة».
بينما يقول في موضع آخر متحدثًا عن الرؤية الإسلامية للحكم: «كل من نظر إلى هذه الخصائص علم أنها ليست ديمقراطية، فإن الديمقراطية عبارة عن منهاج للحكم تكون فيه السلطة للشعب جميعًا، فلا تُغيّر فيه القوانين ولا تُبدّل إلا برأي الجمهور».
ثم يستدل المودودي على حرمانية الديمقراطية، فيرسي القواعد المؤسسة لحاكمية الشريعة الإلهية كناظم وحيد لحياة المسلم.
تحريم الديمقراطية هذا ذهب إليه كذلك حزب التحرير الإسلامي، الذي وضع أفكاره القاضي تقي الدين النبهاني في الأردن حالمًا باستعادة الخلافة.
ولم يختلف الأمر كثيرًا في مصر.
أنتج غياب الآلية التطبيقية للفكرة الإسلامية نوعين من الممارسة السياسية: أحدهما عملي ملتحم مع الواقع، وآخر يستدعي آلية منقرضة لمجرد أنها من داخل الفكرة الإسلامية.
يحدد حسن البنا، الإمام المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين في رسائله موقفًا واضحًا من تعريفات «الوطنية» و«القومية» و«العروبة»، فيقول: «أما أن يُراد بالقومية إحياء عادات جاهلية درست، وإقامة ذكريات بائدة خلت، وتعفية حضارة نافعة استقرت، والتحلل من عقدة الإسلام ورباطه بدعوى القومية والاعتزاز بالجنس، فذلك في القومية معنى ذميم».
نظرية الإسلام السياسي إذًا لا تقبل المفاوضة في طلبها التغيير الجذري، مستندةً إلى خصوصيتها الفكرية والتاريخية البعيدة عن المشهد القائم وآلياته، لكنها في الوقت نفسه ستختبر تشوشًا ضخمًا وهي تبحث عن آلياتها الخاصة لتحقيق ذاتها على أرض الواقع.
كان تعالي الخطاب الإسلامي، الحاضرة نبرته في التنظير، ينكسر مع أول خروج له إلى الواقع، فنجد جماعة المودودي الإسلامية منخرطة في العمل السياسي، وباختلاف مظلات الحكم وتوجهاتها الفكرية التي طرأت وتبدلت على الدولة، كانت الجماعة الإسلامية مشاركًا دائمًا في الانتخابات النيابية ولاعبًا سياسيًّا في صراع تلك الديمقراطية الكافرة، محاولةً تمرير أفكارها الإسلامية عن الحكم.
أما حزب التحرير الإسلامي فشارك هو الآخر، بعد سنوات قليلة من تأسيسه، في الانتخابات النيابية الأردنية وحصل على مقعد وحيد، مبررًا ذلك بأنها وسيلة دعوية لا وسيلة وصول إلى الحكم.
بدت الأزمة في غياب الآلية التطبيقية للفكرة الإسلامية، وأنتج ذلك نوعين من الممارسة السياسية:
- ممارسة علمية تلتحم مع الواقع ومعطياته، وهو النوع الذي تبناه المودودي والجماعة الإسلامية، واستخدمه البنا والإخوان المسلمين
- ممارسة متخبطة بين ذلك وبين آليات محدودة الفعالية، كالنصرة (دعوة الآخر إلى الفكرة والاستنصار به، على غرار ما فعله النبي محمد)، التي استدعاها حزب التحرير كأداة لجذب أتباعه، كأنه يثمِّن الانتماء على الفعالية، فيستدعي آلية منقرضة وحبيسة سياقها التاريخي لمجرد أنها من داخل الفكرة الإسلامية نفسها
لكن المشترك بين نوعي الممارسة هو الشعور بالعجز، والحاجة إلى تقوية الفكرة أيًّا كانت آلية ذلك، بالانخراط في الديمقراطية، أو بالانقلاب عليها، أو حتى باستدعاء طرف آخر قوي ليستظل بلواء الفكرة، مثلما حاول حزب التحرير بإرسال وفود دعوة إلى القذافي وصدام حسين، وحتى الخوميني خلال ثورته في إيران، ليكون خليفة للمسلمين.
بين حشيش الصبّاح وحشيش البنا
هذه الفجوة بين الأفكار جذرية التوجه، غير المرنة وغير المتصالحة مع الواقع السياسي وغير المتنازلة على مستواها النظري، وبين الآلية التطبيقية التي جاءت من خارج المنهج، بل وبنفس الآليات المبتدعة المحرمة، ربما كانت السبب وراء الشعبية المنخفضة للمودودي في باكستان، إذ بدأت الجماعة عام 1941 بـ75 عضوًا، ولم تتجاوز 37 ألفًا في 2017، بحسب كتاب «موسوعة الإسلام والعالم الإسلامي».
ربما فطن البنا لهذه الفجوة، فكانت محاولاته لتقليصها معتمدة على عنصرين:
- خطاب أقل جذريةً وأكثر تعميمًا
- رابطة اجتماعية متينة
يقول البنا في رسالة «دعوتنا»: «اعلم، فقّهك الله، أولًا: أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلى طائفة خاصة، ولا تنحاز إلى رأي عُرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة، وهي تتوجه إلى صميم الدين ولُبِّه، وتود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم حتى يكون العمل أجدى والإنتاج أعظم وأكبر، فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة بلون، وهي مع الحق أينما كان، تحب الإجماع، وتكره الشذوذ، وإن أعظم ما مُنِي به المسلمون الفُرقة والخلاف، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة».
حين يتردد أن حسن البنا كان منظِّمًا وإداريًّا فذًّا لكنه لم يكن بالمنظر العظيم، يجب أن يطرح ذلك تساؤلًا: هل كان التنظيم الإداري للجماعة تعويضًا عن الفكرة المشوشة للإخوان المسلمين؟
في الاقتباس السابق يقف البنا على الحياد من أي تحزبات عقائدية أو فكرية، محاولًا جذب تابعيه تحت فكرة الإسلام السمح المتعالي على التشرذم والتعصب. ولا نجد في الرسائل شرحًا للشكل السياسي والاقتصادي الذي ستكون عليه الدولة كما يراها الإخوان المسلمين، إلا ببضع صفحات حددت الخطوط العامة، ووضحت فقط أن الإسلام ليس منفصلًا عن السياسة، وضالع بشؤون الحكم والاقتصاد، مؤكدًا ذلك بأمثلة من آيات وأحاديث نبوية. لم يقدم البنا كذلك بديلًا عن النظام النيابي والدستوري مثلًا، بل قَبِلَ بها كآليات حديثة للتمكين.
وقف البنا بذلك في المنتصف، في المكان الذي تصبح فيه الفكرة أقل جذريةً وإقصاءً للآخَر، وفي الوقت نفسه تكون هذه الوسطية تبريرًا للآلية السياسية المستقاة من منهج وضعي.
لكن هذا التعميم كان من الممكن أن يضعف الانتماء، وينتهي إلى النتيجة ذاتها التي انتهى إليها المودودي بفشله في جذب أتباع للفكرة. يمكننا فهم ذلك إذا تخيلنا تجريد الفرد الإخواني من شعاراته الإسلامية وحياته الاجتماعية داخل تنظيم الجماعة، فلن يجد حينها ما يميزه عن أي منتمٍ إلى حزب آخر.
كانت الغاية من الهيكل الداخلي تعويض الخلل في النظرية، والهروب من فخ التشابه مع الآخر، باعتماد شكل اجتماعي له أسماء مثل الأسرة والأخ والمرشد، تحاول إنتاج انتماء خاص بأفراد الجماعة وليس غيرهم. بينما ستظل الفكرة التي قامت عليها الجماعة فكرة معممة عن الإسلام.
في تحقيق بعنوان «الإخوان العدميون» نُشر على موقع ساسة بوست، يحكي أحد الأعضاء الشباب المنشقين عن الجماعة بعد أحداث رابعة العدوية أن «أشياء كثيرة مثل هذه تكشفت لي في الطريق، فأوقفت نشاطي تمامًا، شكرًا خلاص، كانت لديك طاقة شاب، وحياته كانت مُسَخّرة كلها في سبيل فكرة معينة، ثم شوهتها أنت، ولم أجد نفسي في شيء آخر، فأصبحت كما ترى، لا أتحرك حاليًّا دون علبة سجائري، أدخن الحشيش بانتظام، جربت الكحول عدة مرات، توقفت عن الصلاة، أسعى لصداقة الفتيات، وأحيانًا الدخول في علاقة جنسية، ورغم ذلك ما زلت مقتنعًا بحرمانية ما أسلكه في حياتي الجديدة».
عندما سأله كاتب التحقيق إذا كان يعرف فتيات إخوانيات يدخنّ الحشيش أيضًا، أجاب: «أعرف بنتًا من الجماعة جربت تدخين الحشيش، وأعرف حالات لولا أنها مَسَائل أعراض كنت حكيت لك وقائع شهدتها شخصيًّا ولم تُنقل لي».
قبل أن يستطرد بلهجة مذنبة: «ما زلت أعتبر أن بنات الإخوان يمُتُّنّ لي بصِلة، أنت ممكن تصيع بره لكن مش هتصيع مع أختك، أنا أرى أن بنات الإخوان هن عِرضي وشرفي، وأنزعج جدًّا ويفور دمي إذا عرفت أن بنتًا من بنات الإخوان مارست مثل هذه السلوكيات، ﻷن الرابطة الإنسانية على أعلى درجة كما أخبرتك. لو عرفتُ أن فتاة من الإخوان سارت في هذا الطريق لن أحب ذلك وسأسعى لتغييرها، حتى لو لم تكن لي صلة بها، سأحاول تنبيه أحد معارفها».
هكذا مثَّل ذلك الانتماء الاجتماعي بالأساس محورا جوهريا ساعد بتغلغل الأيدولوجيا في عقول المنتمين إلى الجماعة، استمر مسيطرا على مشاعرهم، حتى بعد أن نفضوا أفكارها، أو بمعنى أدق: حاولوا فعل ذلك.
«فإما النصر والسيادة، أو الشهادة والسعادة»
يمكننا القول إذًا إن الآلية غير المنتمية إلى الفكرة الإسلامية أثرت سلبًا في الانتماء إلى الفكرة نفسها، وأنتج ذلك ردود أفعال متباينة لتقليص الفجوة.
ضِمن ذلك كان من الطبيعي إفراز نموذج أكثر عنفًا، مثل تكفير المجتمع وجهاده، ولم يميز هذا النموذج أكثر من أنه استمدادٌ للقوة من داخل المنهج الإسلامي ذاته لا من خارجه، كما هو الحال مع سيد قطب، المُنظِّر الإسلامي الذي تأثر بأفكار المودوي وأنتج لتطبيقها ممارسات أشد عنفًا، وورثتها منها جماعات متطرفة في ما بعد.
حتى البنا، رغم انتصار ميله إلى الممارسة العملية على مستوى التنظير الرسمي، لم يسلم من الانخراط في العنف، فظهر على جانب آخر من رسائله خطاب الجهاد متبوعًا بالتبشير بالمعاناة التي سيعانيها أهل الحق في البحث عن غايتهم.
حاول البنا استدعاء نموذج معاناة المسلمين الأوائل، مشبهًا بها تجربة الإخوان المسلمين، كي يشكل في عقولهم الهالة الضخمة التي أحاطت بالفكرة ودعمتها.
يقول البنا في رسالة «بين الأمس واليوم»: «ستدخلون بذلك، ولا شك، في دور التجربة والامتحان، فستُسجنون وتُعتقلون، وتُنقلون وتُشردون، وتُصادر مصالحكم وتُعطل أعمالكم وتُفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان: أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ - العنكبوت: 2. ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين».
الغريب أن البنا بشّر أتباعه بتلك المعاناة في بداية دعوة الإخوان المسلمين، أي في الوقت الذي كانت فيه الأمور مستقرة بينهم وبين السلطة، وقبلما يواجهون أي ظروف قمعية تعرضوا لها في ما بعد.
أُثير كثير من التفسيرات بررت ذلك بكونه استعدادًا للحرب على السلطة، لكن غموض وتردد البنا في أدبياته ومواقفه لاحقًا حيال كل ما يتعلق باستخدام العنف، قد يطرح فكرة أن التوجه إلى العنف وإبراز الاستعداد للمعاناة كانت ردود أفعال نفسية ودفاعية لدى البنا نفسه ضد هشاشة الفكرة التي يطرحها.
ربما كان ذلك أيضًا الدافع وراء إنشاء التنظيم السري، التنظيم المسلح الذي أنشأه البنا ونفذ عدة اغتيالات سياسية، فنحن لا نجد تأكيدًا من البنا للكفاح المسلح بتنظير متماسك وراسخ في العقيدة الإخوانية، وإنما هو تردُّد بين فكرة الإصلاح من داخل المنظومة الدستورية بشكل سلمي، وأفكار الجهاد، التي جاءت حتى معممة ومحملة بأكثر من معنى في الرسائل.
ذلك أن الكفاح المسلح لم يكن مرتكَزًا أساسيًّا لعقيدة الإخوان، بل مجرد استدعاء لبطولات المسلمين الأوائل لإنتاج انتماء خاص بأفراد الجماعة.
الانتماء: نملة وسط القطيع
في عام 1986، صنع الباحث «كريغ رينولدز» نموذجًا ثلاثي الأبعاد محاكيًا للطريقة التي تتصرف بها الحيوانات خلال وجودها في قطيع، كأسراب الطيور والأسماك، وأطلق على النموذج اسم «Boid»، بحيث يمثل كل «بويد» طائرًا أو سمكة.
يقول كريغ: «كل بويد لديه القدرة على الوصول مباشرةً إلى المشهد الهندسي ككل، إلا أن الانتظام داخل القطيع يتطلب التفاعل فقط مع أقرب جيرانه المحيطين به. هذه الجيرة تقاس بالمسافة من مركز البويد، بينما يتم تجاهل زملاء القطيع خارج هذه المسافة وهذه الجيرة».
وجد رينولدز أن البويد يتبع قاعدة بسيطة للانتظام في المجموع، هي المحاذاة على أقرب الزملاء ومسايرة اتجاهه.
يمكننا إسقاط ذلك على الإنسان أيضًا، فالمنتَج النهائي لعلاقة الفرد بالسلطة في ما يتعلق بقضية الانتماء يعتمد أساسًا على طمس هوية الفرد، وسحقه داخل المجموع، وتغييبه عن الصورة الكلية، وتضييق زاوية نظره لتشمل فقط محيطه الصغير.
تفعل السلطة ذلك مستخدمةً وسائل متنوعة من العنف، مستغلةً كذلك الطبيعة النفسية للفرد ذاته في مَيله إلى التخلي المريح عن هويته، مقايضًا إياها باطمئنان وهمي قد يجده داخل القطيع، لينجح الفرد بالتواطؤ مع السلطة في أن يستبدلا ذلك التطلع إلى رؤية الصورة الكلية وفهمها، وإحلال محله فكرة هلامية مريحة للطرفين، يستطيعان تجاذب أطرافها معًا، كلٌّ من موقعه.
اقرأ أيضًا: كيف شكّلت اللغة العربية والإسلام الهوية المصرية؟
من مبادئ الانتماء: تصوير الآخرين خارج مجموعتنا كأعداء، أشرار، أغبياء، وحشيين، في منزلة أدنى.
في مقال لها، تناقش الكاتبة والباحثة «كارولين كوفمان» كيف تتشكل نفسية المحارب، وتطرح عدة مبادئ يلعب كلٌّ منها دورًا في لعبة الانتماء:
- العِرقية
- شيطنة الآخَر
- الميل إلى الطاعة
- استجلاب المعاناة
تقول كوفمان: «هناك مَيل طبيعي للاعتقاد بأفضلية وتفوق المجموعة التي ننتمي إليها على المجموعات الأخرى (...) ويميل أعضاء المجموعة الواحدة لرؤية أعضاء المجموعات الأخرى على أنهم جميعًا متشابهون. فالشتائم مثلًا، كنعت المرأة بأنها شرموطة أو الأمريكي إفريقي الأصل بأنه زنجي أو مثلي الجنس بأنه شاذ، يجرد أعضاء المجموعات الأخرى من أسمائهم المتفردة (...) هناك مَيل لخلق صور سلبية متعمدة عن الآخر، تشتمل على تصوير العدو كشرير، غبي، وحشي، أو في منزلة أدنى».
«أغلب الناس لديهم مَيل قوي إلى أن يكونوا مطيعين، حين يكون مَن يُصدر الأوامر في موضع سلطة»، وفقًا لكوفمان، ففي دراسة شهيرة للباحث «ستانلي ميلغرام»، أقدم أناس عاديون تمامًا على توجيه صدمات كهربائية إلى آخرين ربما حتى الموت، عندما ضَغط عليهم المسؤولون عن التجربة.
تذكِّر كذلك بأن «التزام الفرد تجاه المجموعة من الممكن أن يصبح أقوى إذا بُذل بشأنه جهد أكبر (...) فكلما زاد الوقت والطاقة والمعاناة، زاد الانتماء إلى المجموعة (...) التكدير مثلًا، الذي يمكن تعريفه كمضايقة للجنود، بإرغامهم على أفعال بدنية ونفسية قاسية وغير ذات معنى، يزيد تبرير الفرد لقيمة المجموعة وعطائه لها».
هذه المبادئ كانت مثل قطع البازل التي رَكّبت عليها السلطة أساليبها في إنتاج الانتماء، فدائمًا ما استغلت السلطة الميل إلى الطاعة، وكانت استثمار نفسية المعاناة التي فصلتها كوفمان هي اللعبة المفضلة للسلطة، إذ استخدمت دائمًا نوعين من العنف لاستثارتها:
- عنف مادي
- عنف رمزي
الانتماء والعنف: عصا وجزرة وكرباج
في كتابه «كل رجال الباشا»، يحكي الباحث المصري خالد فهمي، أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، قصة التجنيد الإجباري لأول مرة في مصر خلال عهد محمد علي. وبخلاف القصص الشعبية عن المصريين كشعب مُضَحٍّ ومحب للجندية والجيش، يروي الكتاب قصصًا حقيقية للمقاومة العنيفة التي أبداها المصريون ضد الانخراط في جيش الباشا.
«استخدم الفلاحون مختلف الطرق للهرب من وجه رجال الباشا الذين أرسلهم لإدخالهم في الخدمة، وكان التمرد الصريح أحد هذه الطرق، ونعرف من هذا النوع تمردين على الأقل يرتبطان مباشرةً بسياسة التجنيد التي اتبعها الباشا. قد ذكرنا من قبل الانتفاضة الكبيرة في الصعيد التي شهدت تمرد 30 ألف شخص ضد أجهزة السلطة التابعة للباشا، هاجموا الموظفين الذين أُرسلوا من القاهرة ورفضوا أن يدفعوا الضرائب، وبالعام السابق على ذلك، أي بعد إدخال نظام التجنيد مباشرة، اندلعت انتفاضة معتبرة وإن كانت أقل حجمًا في مديرية المنوفية، واضطر محمد علي لإخمادها أن يذهب إليها بنفسه مسلحًا بحرس قصره وستة من مدافع الميدان».
«في البداية، كان على فصيلة التجنيد أن تصل إلى القرية وتجمع أكبر عدد تجده من الرجال، إلا أنه في ضوء السرعة التي تصل بها أخبار قدومهم الوشيك إلى القرية، كانت تنشأ موجة من الهرب تجعل من المستحيل على الضباط المتحدثين بالتركية أن يتأكدوا مما إذا كان الرجال الموجودون ساعة وصولهم إلى القرية هم كل الرجال المتوفرين حقًّا، أم هناك آخرون تركوا القرية».
«واتضح سريعًا أنه بغير تعاون مشايخ القرى لن تكون السلطات متأكدة من ذلك. وعليه، طُلب من المشايخ أن يعاونوا ضباط التجنيد في مهمتهم. إلا أن العديد منهم رفض التعاون مع السلطات ضد رفاقهم القرويين (...) وحين اكتشف الفلاحون عدم جدوى الانتفاضة الصريحة أو الفرار الجماعي في التهرب من فصائل التجنيد، لجؤوا إلى أعمال التمرد الفردية، ومن وسائلها تشويه أنفسهم عمدًا حتى يُعتبروا غير صالحين طبيًّا للخدمة»، بحسب فهمي.
استدعت هذه المقاومة الكثيفة كثيرًا من العنف لإجبار الفلاحين على دخول الجيش، فأصدر الباشا منشورًا هدد فيه المشايخ المتعاونين بالقتل، ووُشمت أجساد بعض الجنود كي يُعرَفوا في حالة الهرب. وداخل الجيش نفسه، مورست عقوبات جسدية وحشية على المجندين لأسباب تأديبية بحتة لا تتناسب مع أفعالهم الخارجة على الانضباط.
يروي الباحث المصري أنه «في الجيش، كان الاستخدام المتكرر على نطاق واسع للفلقة والكرباج أحد وسائل تنفيذ العقوبات البدنية. فعلى سبيل المثال، جُلد جنديان لكلٍّ منهما 20 جلدة لتشاجرهما خلال زحف أورطتهما (كتيبتهما). وحين ثبت في حق أحد الجنود أنه مذنب لأنه فقد دلوًا من الماء، عوقب بخمسين جلدة أمام أورطته، وعوقب جندي آخر بمئة وخمسين جلدة لسرقة بعض المشمش من سوق محلية».
وربما كانت كلمة «حماية الظهر» في لحظات الخطر، لحظات الكر والفر في المظاهرات مثلًا، أو لحظات إطلاق النار في الحروب، ليست بعيدة عن إحساس الفرد بالخطر واحتياجه إلى أن يحتمي بوجوده وسط آخرين يتبادلون حماية ظهور بعضهم بعضًا.
لكن هناك مشكلة: العقوبات المتطرفة في التوحش لا تكون كافية لتؤدي الغرض المطلوب منها، إذ يجب أن يكون القيد قيدًا من أفكار المنتمين ذاتهم لا من خارجها.
في ظاهرة سلوكية تُدعى «تبرير عدم الكفاية»، وجد الباحث «إليوت أرونسون» أن عدم وجود رادع خارجي قوي يمنع الشخص من شيء ما، يستحث فيه وازعًا داخليًّا يجعله رافضًا للشيء المحظور.
نفذ أرونسون تجربة على مجموعتين من الأطفال، هُدِّدت إحداهما بعقاب شديد إذا لعبوا بألعابهم المفضلة، بينما هُدِّدت الأخرى بعقاب أقل حدة. وجد الباحث أن الأطفال الذين هُددوا برادع قوي امتنعوا عن اللعب بالفعل، لكنهم عادوا إلى العب بمجرد أن غابت عين المراقب، بينما الأطفال الآخرون وجدوا أن ألعابهم لا تستحق هذه المخاطرة.
سنجد في ذلك السياق فهمًا لطرق أخرى من العنف، استخدمها محمد علي لاستدعاء تلك الروح المنتمية من داخل الجنود. فحين لم تُجدِ الآليات المتطرفة في العنف، كانت تتكشف ميول جديدة نحو عقاب أقل فيزيائيةً وأكثر اهتمامًا بالانضباط.
يحكي خالد فهمي واقعة حدثت بعد أن استولى الجيش المصري على مدينة عكا، إذ «انتهز عدد كبير من الجنود الفرصة ليهربوا من الجيش كلية، فكتب أحمد بك، الذي عُين مسؤولًا عن قلعة عكا بعد سقوطها، يشكو إلى إبراهيم باشا من الوضع. لكنه بدلًا من أن يطلب إرسال قوات لتقبض وتنتقم من الهاربين، اقترح حلًّا بسيطًا ولكنه فعال: التمام (إثبات الحضور أمام القيادة). قال إنه يجب أن يُجرى مرتين يوميًّا، ومن لا يُعثَر عليه يقيد كحالة فرار، وحين يتم العثور عليه، يُعاقَب عقوبة الفرار».
يظهر هنا إدراك السلطة لأهمية الانضباط على العقوبة الانتقامية، والأهم فاعلية ذلك في إنتاج انتماء من داخل الجنود أنفسهم، لتلعب تلك الوسائل المتباينة المستخدمة للعنف، بتنوعها وأشكالها، دورًا فعالًا في تنظيم الصفوف واستنفار حالة المسؤولية تجاه الكتيبة، ومن ثَمّ الجيش.
الرأسمال الرمزي: فقاعة الأساس المتينة
الفعالية الكبرى في رأيي نتجت عن وسائل عنف رمزي استخدمها محمد علي بقصد أو بغير قصد، وعلى الأرجح حدثت من تلقاء نفسها بشكل خفي وناعم، لكنها لعبت الدور الأهم في تشكيل عقيدة الحربية المصرية بأثر واضح حتى اليوم.
هناك عاملان أنتجا تلك العقيدة، هما:
- الأسطورة
- الرغبة في الترقي الطبقي
على لسان محمد علي، يقول فهمي: «نظرًا لأن الفلاحين غير معتادين على الخدمة العسكرية، فيجب أن لا يُسحبوا إلى الجيش بالقوة، فعلينا أن نرغِّبهم فيه. ويمكن تحقيق ذلك بتعيين بعض الوعاظ والفقهاء، الذين يجب أن يقنعوا الفلاحين بأن الخدمة العسكرية ليست كالسُّخرة، ونستطيع أن نذكِّرهم بأن الفرنسيين استطاعوا بسهولة أن يجمعوا الأقباط للخدمة في جيشهم بسبب تلهفهم على عقيدتهم. فإذا كان هذا حال القبط، فلا شك في أن حال المسلمين سيكون أفضل، فقلوبهم مليئة بالتقوى والحماس للدفاع عن الدين».
مثل هذه الأفكار، رغم أنها كاذبة تمامًا ولا تَمُت إلى واقع المصالح والمطامع السياسية بِصِلة، إلا أنها كانت مهمة للغاية للطرفين: الباشا الذي يحاول إضفاء صبغة مقدسة تخص نظرته إلى نفسه، والمجند الذي يريد تبرير ما يحدث، وإرجاعه إلى غاية أَسمَى تتعلق بأرضه وأهله وحياته وعقيدته.
مثّلت هذه الفكرة المشوشة البسيطة كل الرأسمال الرمزي للعقيدة الحربية، ومع الزمن، تراكمت فوقها أفكار أخرى دعمتها، سواء من داخل المؤسسة العسكرية نفسها، بتبنيها خطابًا ربما ليس متجذرًا في التراث الإسلامي، لكنه يتعامل معه في مواضع هشة ويتشبث بها، كحديث خير أجناد الأرض مثلًا، أو بتأثير خطابات إسلامية من خارج المؤسسة تواصلت بطريقة ما مع العقل العسكري.
يصف «بيير بورديو»، عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، «الرأسمال الرمزي» بأنه مزايا معنوية كالشرف والهيبة والشهرة، قد يمتلكها شخص أو مجموعة من الناس ضمن بنية اجتماعية ما، فتمنحهم امتلاكًا وسيطرة رمزية على وسائل إنتاج وتوجيه الثقافة، ممارسين بذلك ما سماه العنف الرمزي تجاه الطبقات أو المجموعات الأقل وفرةً في هذه المزايا.
وبالتأكيد، مع استقرار المؤسسة العسكرية، تحولت إلى وسيلة عملية جذابة للحصول على تلك المزايا والاقتراب من دوائر السلطة الملكية والقصر والحكومة، وأصبحت ببساطة وسيلة للترقي الطبقي وممارسة العنف بدلًا من تلقيه.
محمد نجيب: من الطين إلى القصر
مثالًا على ذلك، نجد في مذكرات الرئيس المصري السابق محمد نجيب «كنت رئيسًا لمصر»، هذه النبرة التي تفتخر بقُربه من دوائر السلطة وصنع القرار. فيحكي مثلًا ما جرى في أول مرة رأى فيها الملك فاروق، وكيف كان الملك معجبًا به، ليس على مستوى الأداء العسكري والعمل، بل على مستوًى شخصي وحميمي، إذ داعبه الملك وقال له: «أنت قوي، ماذا تأكل؟»، ليرد عليه نجيب: «باكُل فول». وفي موضع آخر، يذكر أن الملك قابله مرةً أخرى في حفل تخريج دفعته، فصافحه وغمز له بعينه.
ثم يقول نجيب عن علاقته بالحكومة: «منذ ذلك التاريخ، توطدت علاقتي بالوفد (حزب مصري كبير وقتها) ورجاله وزعمائه، فكثيرًا ما كان النقراشي باشا يأخذ رأيي في الأمور التي كانت تتعلق بالسودان، وعندما ذهب النقراشي لعرض قضية مصر على مجلس الأمن عام 1947، حمل معه كتابي (رسالة عن السودان) الذي كتبته عام 1943».
هذه القصص بعضها كان خارج السياق تمامًا، ولم يكن لها معنى سوى الفخر بالمكانة التي وصل إليها الرجل بعد حياة مليئة بالكفاح بدأها من الصفر.
لكن، بالتوازي مع ذلك، كانت النبرة الراغبة في تأسيس السردية الخاصة عن الرجل المهموم دائمًا بالوطن ومصيره على طول حياته، هي النبرة الغالبة والمُصدّرة على طول الكتاب، ولا أقصد أنه كان مدعيًا أو كاذبًا، بل العكس، كان مؤمنًا بدرجة تجاوَز فيها أي أسئلة أو شكوك تخص طبيعة الشيء الذي ينتمي إليه.
وعلى طول الكتاب، لم يتعرض نجيب بشكل تفصيلي لما تعنيه كلمة الوطن في ذهنه. حتى رغبته في الاستمساك بالديمقراطية وتعدد الأحزاب في خِضَم أزمته مع جمال عبد الناصر لاحقًا أسسها على قصة غريبة، يذكر فيها أنه بعدما حل الملك البرلمان وكان بأغلبية وفدية، تنكّر في جلباب ودخل متسللًا إلى منزل النحاس باشا ليقنعه بدخول البرلمان بالقوة، وأكد له أن الجيش سيساعده، لكن النحاس قال إنه يفضل ابتعاد الجيش عن السياسية وأن تظل الأمة المصدر الوحيد للسلطات. وبحسب تعبير نجيب، فقد تعلم درسًا من ذلك الموقف.
توضح تلك القصة مدى تشوش فكرة الوطن التي عاش من أجلها الرجل، لدرجة أن يدخل إلى النحاس مقتنعًا بفكرة الانقلاب على الملك، ثم يخرج من عنده بفكرة مضادة تمامًا تثمِّن حرية التمثيل البرلماني واتخاذ الشعب مصدرًا للسلطة.
هكذا أُنتجت العقيدة الوطنية على أساس مشوش لدى كثير ممن انتموا إليها، وستُمرّر بتشوشها لاحقًا لتأسيس فكرة الوطنية عند المواطن المصري العادي، لينتقل من الفلاح المقاوم للدولة المركزية إلى المواطن الملقَى في أحضانها والداعم لتسلُّطها، ليبدو ذلك من على السطح انتماءً متماسكًا إلى الوطنية والعقيدة والأرض، رغم أن تلك الشعارات ليست أكثر من فقاعة تواطأت لصنعها كل الأطراف.
التقاء البندقية والقفطان: ميلاد المواطن الصالح
لم يلبث الجندي العسكري أن يشعر بقوته، حتى فكر في الاستيلاء على السلطة، الأمر الذي سيُترجَم باقتراب منتصف القرن العشرين في شكل انقلابات عسكرية متتابعة في المنطقة، يتبعها إعلان جمهوريات عربية وإلغاء النظام الملكي، لكن الانقلابات لن تتوقف.
في سوريا، انقلب المشير حسني الزعيم على شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية الأولى في مارس 1949، ثم في أغسطس من العام نفسه انقلب عليه العقيد سامي الحناوي، وفي ديسمبر التالي انقلب على الحناوي عقيد آخر هو أديب الشيشكلي، متممًا ثلاثة انقلابات في عام واحد، ضمن سلسلة أخرى انتهت بانقلاب وزير الدفاع حافظ الأسد على صلاح جديد.
كذلك، لم يتمكن انقلاب عبد الكريم قاسم على الحكم الملكي في العراق، الذي أسس الجمهورية العراقية عام 1958، من الصمود أمام انقلاب آخر بعد خمس سنوات، نتج عنه اغتيال قاسم على يد ضباط حزب البعث، ليتولي عبد السلام عارف منصب الرئيس.
وفي 16 إبريل 1966، يتولى الرئاسة عبد الرحمن عارف بعد مقتل أخيه في حادث سقوط مروحية مع قيادات آخرين، ثم يُطاح به في يوليو 1968 عن طريق أحمد حسن البكر، القيادي في حزب البعث، ليتولى الرئاسة حتى عام 1979، ويمررها إلى صدام حسين ليصبح خليفة له.
أما في ليبيا، ينقلب العقيد معمر القذافي على الملك إدريس، معلنًا قيام الجماهيرية الليبية عام 1969، وتتوالى عليه محاولات انقلاب محبطة طوال سنوات حكمه.
وفي مصر، يوضع الرئيس المصري الذي أتى به انقلاب يوليو تحت الإقامة الجبرية في 1954، ويتولى الضابط جمال عبد الناصر زمام الحكم.
هكذا، كلما استولت مجموعة ضباط على الحكم يطيح بها ضباط آخرون، إلى ما لا نهاية. هذا الاضطراب وانعدام الأمان أفرز أولوية للأنظمة، هي تقديم الولاء على الكفاءة، والحفاظ على مكتسبات الوضع القائم على التمسك بالأفكار والانتماء إليها.
لا يمكن فهم الميل إلى التوريث في الجمهوريات العربية بمعزل عن تأثرها في الخطاب الإسلامي.
في بحث بعنوان «التوريث في الأوتوقراطيات الحديثة»، يتتبع الباحث «جيسون براونلي» 22 نظامًا استبداديًّا في دول العالم للخروج بنظرية سياسية تفسر التوريث، مستندًا إلى أفكار «غوردن تولوك»، أستاذ القانون والاقتصاد، الذي افترض نجاح التوريث في الإبقاء على موازين القوى على نفس التوزيع بين النُّخب في دائرة السلطة، مما يجعل احتمالات الانقلاب أقل.
يقول براونلي على لسان تولوك: «الحاكم عندما يعين خلفًا له، قد يمنحه بذلك كل الدوافع القوية لاغتياله، وكل التأمينات اللازمة ليأمن العقاب. وبالنظر من زاوية الديكتاتور، فإنه من الخطر اختيار خليفة رسمي (...) أما الابن فإنه من الحكمة بالنسبة إليه أن ينتظر ببساطة موت أبيه».
كذلك، تفرق الدراسة بين حالتين، الأولى هي وضعية الأنظمة التي تكون شرعية الحاكم فيها مقدمة على الحزب، أو يستأثر فيها الحاكم بمفاتيح السلطة دون وجود أرضية حزبية أو مجموعة ينتمي إليها هذا الحاكم. في هذه الحالة، يصبح توريث الابن الحالة الأكثر قدرةً على إبقاء الاستقرار. بينما الحالة الثانية يكون فيها الحزب، أو المجموعة الحاكمة، سابقة على الحاكم، وتفرز رجالًا لهم نفس المصالح مع الوضع القائم.
حتى الحالة الثانية بالتأكيد ليست انتقالًا لأفكار الحزب في منافسته المشروعة لاستمرار أفكاره، كما هو الحال في التجارب الديمقراطية، فأحيانًا تكون هذه المجموعة الحاكمة لا تملك أفكارًا عن الدولة من الأصل، لكنه انتقال لسلطة الأمر الواقع، ليصبح أيضًا شكلًا من أشكال التوريث.
حدث هذا في امتزاج بين الحالتين أحيانًا، كما هو الحال في تجربة توريث بشار الأسد نجل حافظ الأسد في سوريا، وفي مصر فرّخت المؤسسة العسكرية حكامًا على اختلاف توجهاتهم الفكرية ورؤاهم السياسية، جمعهم الانتماء إليها وأولوية الاحتفاظ بسيطرتها على البلاد، لكن رغم ذلك تواترت أخبار عن نوايا غير معلنة لحسني مبارك، الرئيس المصري الأسبق، لتمرير الحكم إلى نجله جمال، لولا أن أحبطتها ثورة 25 يناير.
المدهش أيضًا ما جاء في التجربة التونسية، بحسب ما ذكره المفكر الفلسطيني عزمي بشارة في كتابه «الثورة التونسية المجيدة»، إذ يوضح في حديثه عن فترة ما قبل الثورة أن الرؤى الفكرية في التجربة التونسية لم تتبدل بين حكام مختلفين كما هو الحال في مصر، بل تحولت تحت حكم الرئيس السابق الحبيب بورقيبة وحده، الذي طوّح البلاد بين الاشتراكية والرأسمالية وانغلاق السوق وانفتاحه، تماشيًا مع المهمة المحددة للحكم: السيطرة على الأوضاع.
لكن لا يمكن فهم الميل إلى التوريث في الجمهوريات العربية بمعزل عن تأثرها بالخطاب الإسلامي.
قد يكون التوريث فكرة عالمية ليست مقصورة على التجربة العربية فقط، لكن كل هذه التجارب ارتبطت برأسمال رمزي يُستمَد من المكوِّن الثقافي لكل شعب حسب ثقافته. وفي تجربتنا العربية، كان الخطاب الإسلامي جزءًا أصيلًا من هذا الرأسمال، فناهيك بالاستخدام السياسي في تكريس الدولة الوطنية نمطًا معينًا من الإسلام «الوسطي» ليكون الدين الرسمي للدولة والمواطن، تأثرت سيكولوجيا الحكم الوطني نفسها بالسيكولوجيا الإسلامية، حتى مع الاستقطاب الدائم بين الإسلاميين والدولة.
يوافق المفكر المغربي محمد عابد الجابري على إرجاع تأريخ البدء في تدوين الحديث عند السُّنّة إلى عام 143 من الهجرة، كما جاء عند الذهبي، ويرى كذلك أن تدوين الحديث عند الشيعة بدأ في الوقت نفسه تقريبًا، ثم يتتبع عملية التدوين فيجدها حدثت في بلدان متباعدة وفي الوقت ذاته، مما يرجح لديه أن التدوين تم بتوجيه من المؤسسة الرسمية للدولة وفي سباق مع التدوين الشيعي للحديث.
أنتج ذلك عقلين معرفيين تنافسا على تثبيت المرجع الثقافي بحسب رؤية كلٍّ منهما، في محاولة من السنة لترسيم الدين ومن الشيعة لترسيم المعارضة السياسية، ليسمى عصر التدوين بالإطار المرجعي للعقل العربي، وفق ما جاء في كتاب الجابري «تكوين العقل العربي».
ولا ينكر المفكر السوري جورج طرابيشي، في مشروعه لنقد الجابري المسمى «نقد نقد العقل العربي»، إرجاع التدوين إلى العامل السياسي، غير أنه يُرجع بداية الأمر إلى وقت مبكر يعود إلى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز في نهاية القرن الأول الهجري، بالاختلاف مع الخلفاء الأوائل مثل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، الذين رفضوا التدوين خوفًا من اعتماده كمرجع ثقافي بديل للقرآن.
يوضح طرابيشي أن التدوين بدأ كرد فعل على انتشار الأحاديث الموضوعة، ودور ذلك في صناعة أزمات سياسية عاصفة حدثت قبل التدوين بعدة عقود، ذكر منها وقعة الحرة التي حدثت عام 63 من الهجرة، والتي يقول فيها السيوطي عن أهل المدينة المنكل بهم بواسطة جيش يزيد بن معاوية، في تعبير عن فداحة الوقعة: «ما كاد ينجو منهم أحد، قُتل فيها خلق من الصحابة، ونُهبت المدينة، وافتُضّت فيها ألف عذراء».
في هذا السياق، كتب بلال علاء في مقاله «ظل الله ومملكته» عن تأثير تلك الأزمة ووقعها على السيكولوجيا الإسلامية، التي أفرزت في ما بعد منهجية تثبيت الأوضاع السياسية، وأولوية تقديم الاستقرار على الفكرة.
لكن هذه الرغبة في التثبيت لم تقتصر على الرؤية السياسية للدولة فحسب، بل أنتج ذلك ظلالًا ثقافية تحاول تثبيت كل شيء بالعودة إلى الأصول، الأصول السياسية في نموذج الخلافة والعقائدية في مبدأ إجماع العلماء، وتفسير القرآن وفقًا لمفسرين معتمدين، وحتى الميل إلى تثبيت الآداب العربية في الشعر العمودي، وتثبيت الفن في صورة «زمن الفن الأصيل». هذا المناخ الثقافي أثر في سيكولوجيا الحكم الوطني في الجمهوريات العربية، حتى ولو بدت الوطنية فكرة لها بنية ثقافية مختلفة أو مستوردة، لكنها أخذت طابع هذه الثقافة إسلامية الأصول.
بل وتأثر الخطاب الإسلامي أيضًا بالمكتسبات الوطنية، تأثرًا طال البنية النظرية في خطابه، ولم يقف عند الممارسة فقط، فنجد مصطفى السباعي، المراقب العام والمؤسس لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، يكتب كتابًا باسم «اشتراكية الإسلام»، يحاول فيه المقاربة بين المبادئ الإسلامية في التكافل الاجتماعي والمبادئ الاشتراكية. ورغم سطحية الطرح، يعكس ذلك تأثرًا إسلاميًّا بالحداثة، ومحاولة ستظل مستمرة لمواكبة التطوير، وستُقدّم كأولوية على الفكرة المنتمَى إليها نفسها إذا استدعى الظرف السياسي.
هذا التقارب كان منحناه يصعد كلما هدأت حدة العنف بين الطرفين، وفي ضوئه تجلى ما عُرف في مصر باسم «المواطن الصالح»: المواطن المسلم إسلامًا شبحيًّا، والوطني وطنيةً متعصبة. تجلى ذلك المواطن شامخًا ومنتصبًا وبهيًّا.
متجر الفيتيشات الثورية: بدلة عسكرية و«Geek»
«الفيتيش» هو الهوس بأشياء جامدة أو لا روح لها في الأغلب. وتُستخدَم الكلمة عادةً بمعنى الهوس الجنسي واستمداد المتعة من أشياء ليست لها طبيعة جنسية في ذاتها، كالمقتنيات والملابس.
الهاجس الذي يزورني كلما رأيت مقطع فيديو لحاكم في حُلّته العسكرية وبين جماهيره، أن هذه الجماهير لديها «فيتيش» البدلة العسكرية. هؤلاء الشبان الشجعان الذين حاربوا المستعمر وحرروا الشعوب، جذبوا الأضواء واعتلوا كراسي الحكم، حملوا أرواحهم على أكُفِّهم وقتلوا الوحوش.
هذا الطابع الملحمي لمرحلة التحرر الوطني ربما خَفَت أثره مع الجيل الثاني للنخبة الحاكمة، تقريبًا مع العقد الأول في الألفية. فالاستقرار النسبي في ذلك الوقت أفرز جيلًا جديدًا يتطلع للاستفادة من الأوضاع المستقرة، وصناعة استثمارات ستصب في مصلحة الأنظمة ومصلحتهم.
ذلك ما تُرجِم في سياسات أخذت طابعًا نيوليبراليًّا في مصر وتونس، فبدأت مجموعات من الشركات ورجال الأعمال في غزل شبكة مصالح ضخمة مع النظام، أثرت في صناعة القرار داخل دوائر الحكم.
المواطن الذي عاصر التحرر الوطني، ذو الشريحة العمرية الأكبر سنًّا، لم يعِ المتغيرات الجديدة من حوله، فالوطنية كما يراها ظلت تعني حمل السلاح والحرب، إسقاط المستعمر وإذلاله، وكل أسباب التخلف من وجهة نظره سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو أيًّا كان نوعها، سببها فقط نقصان في وطنية الحاكم، في «رجولته»، وسببها انبطاحه أمام الغرب، أو سببها نُقصان في دين المحكومين، فيضبط على الأولى بوصلته الذكورية، ويترك الثانية لها طبيعة مبعدة وشبحية، لتكون مخرجًا آمنًا لو اختلت هذه الرجولة.
لذلك لم يُرجِع المواطن تلك السياسات التي لم تصب في مصلحته إلى أسبابها الحقيقية، بل أرجعها إلى النمط الوحيد المفهوم لديه: نقصانٌ في وطنية الحاكم، أو نقصانٌ في الدين. لذلك، ومع أول فرصة، جاء برجال الدين ثم عاد برجال من الجيش إلى الحكم.
وربما السبب وراء انجذاب المواطن إلى البدلة العسكرية أنه جرّب معها الانتصار، فورة التستوستيرون في منتصف القرن الماضي، ثم عاد بحنين إلى تلك الأمجاد من جديد.
لم يستطع الـ«geek» العربي تصدير نفسه كبديل للحاكم العسكري أو شيخ المسجد، إذ لم تكن أولويته أن يكون ذكيًّا بقدر ما يكون خيِّرًا.
تحول هتاف «الشعب يريد إسقاط النظام» إلى شعار فارغ المضمون، لأن المواطن لم يقصد الأنظمة بقدر ما قصد الشخصيات التي سيطرت على المشهد والمشكوك في انتماءاتها، ذلك أن الثورة بالنسبة إلى المواطن ذي الشريحة العمرية الأكبر كانت غايتها إرجاع الحق إلى أصحابه، ولم تصبح تلك الاضطرابات مفهومة لديه إذا تحققت تلك الغاية.
ماذا عن الشريحة العمرية الأصغر؟
بالعودة إلى السياسات الاقتصادية للجيل الثاني من النخبة الوطنية، نجد أنها تطلبت فتح المجال للاستثمارات أجنبية، وبالتالي كان لزامًا عليها أن تنشئ مناخًا أكثر استقرارًا وبعيدًا عن الاضطرابات السياسية. أنتج ذلك تغيرًا في طبيعة الوضع القائم، فانتقلت بلدان مثل مصر وتونس من حكم يستأثر وحده بالسلطة إلى شكل من السلطوية التنافسية، لعب دورًا في فتح المجال العام نسبيًّا، وأنتج أيضًا، بالتوازي مع الإتاحة المعلوماتية التي جاء بها الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، نمطًا جديدًا من الشباب العربي القادر على الوصول إلى المعلومة.
لذلك، فالفيتيش الذي أنتجته الثورات العربية عند الشاب الأصغر سنًّا مقابل البدلة العسكرية كان فيتيش الـ«Geek» (غيك)، أي الشخص الذكي المهوس بالكمبيوتر والكتب والثقافة. كانت هناك محاولات في بداية ما أُطلق عليه «الربيع العربي» لتصديره على أنه ثورات ذكية، لكن لم يستطع الغيك العربي تصدير نفسه كبديل للحاكم العسكري أو شيخ المسجد، إذ لم تكن أولوية الشاب الثوري أن يكون ذكيًّا بقدر ما يكون خيِّرًا.
الشاب الثوري وَعَى إلى أن تلك الأنظمة الوطنية هي نفسها المسؤولة عن مأساته، إلا أنه رأى العالم بثنائية الأبيض والأسود، فكانت الأنظمة بالنسبة إليه هي الشر المطلق، واستنفر فيه ذلك أن تكون ثورته ثورةً أخلاقية، كأن الأخلاقي هو الانتصار الضمني على الأنظمة.
تكونت لدى الشباب أنفسهم فيتيشات أيضًا، كان يحركها على طول الخط عنصران:
- السِّلمية
- التجميع
موجب وسالب: فاعل ومفعول فيه
على غرار الجملة الشهيرة للرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات «الديمقراطية لها أنياب»، يمكننا القول إن السِّلمية أيضًا لديها أسلحة وأدوات فعالة في الاحتجاج ضد الأنظمة. لكن إلى أي مدى وعى ثوار «الربيع العربي» هذه الأسلحة؟ وإلى أي مدى كانت مناسبة وفعالة؟
بدأت سوريا باحتجاجات سلمية في درعا، ثم امتدت إلى حمص وحماة وباقي المدن السورية، واستمرت الانتفاضة سلميةً رغم جرائم النظام البشعة مدة ستة أشهر تقريبًا، قبل أن يعلن بعض الضباط انشقاقهم عن الجيش النظامي وتأسيس الجيش السوري الحر.
ربما كانت السلمية طريقة لها وجاهتها السياسية وقتها على إثر ثورتي مصر وتونس، لكن من غير المفهوم الآن أنه بمجرد بدء تنفيذ اتفاقيات وقف إطلاق النار، التي رعتها روسيا بين الأطراف المتصارعة في بعض المناطق، أن تتعالى أصوات سورية بالسلمية مجددًا، هكذا ببساطة بعد سبع سنوات من الحرب أفرزت كمًّا هائلًا من الجماعات الإسلامية المسلحة والشبيحة والمنشقين.
يقول منصور الأتاسي، رئيس حزب اليسار الديمقراطي السوري، إن ما نلاحظه حتى الآن هو «استمرارٌ للصراعات بين قوى الثورة العسكرية والسياسية وغيرها، وزيادة في تبعية عديد من التجمعات للمحتل الروسي (...) واستمرار النشاطات المحلية المعادية للاستبداد والهيمنة دون أي تنسيق بينها، كل هذه المعوقات لا تسمح بالاستفادة أو باستغلال مناطق خفض التوتر لتحريك نشاطات شعبية جماهيرية تهدف إلى إعادة الثورة إلى طبيعتها السلمية والديمقراطية (...) ونحن متأكدون أنه إذا توحدت قوى الثورة، وعادت للتفاعل مع جماهيرها، ومنعت الخطاب الديني الطائفي والقومي (...) فإن واقعًا جديدًا سيتحقق».
هذا الالتصاق بالسلمية كأنها غاية لذاتها، يقابله في الجانب العكسي شعار «العنف للعنف»، الذي يرفعه العرب في كل ما يخص القضية الفلسطينية.
في مقال له، يتخيل «نواه فيلدمان» أستاذ القانون الدولي في جامعة هارفارد حركةً فلسطينيةً تُقاد بواسطة غاندي، ويستعرض الأسباب التي تجعل اللاعنف خيارًا أكثر فعالية، ويبين أن طبيعة التعاطي العالمي مع الصراع العربي-الإسرائيلي قد تجعل التغيير اللاعنيف ممكنًا، ربما أكثر إمكانيةً من أوطان عربية أخرى. ذلك أن الخطاب المؤسس لليمين الإسرائيلي يعتمد في تصدير نفسه محليًّا (داخل إسرائيل) ودوليًّا، بوصف إسرائيل كدولة سلمية مدافعة عن نفسها تجاه العنف الفلسطيني.
هذا الطرح قد يجد وجاهة حقيقية خصوصًا في ظل المكتسبات التي حققتها انتفاضه أطفال الحجارة، التي صدّرت نضالها بأدوات سلمية فأجبرت العالم على التعاطف، وأفرز ذلك مكتسبات حقيقية للقضية وزعمائها في اتفاقية أوسلو، لولا العودة إلى العنف مجددًا.
نحن هنا لا نثمِّن العنف على اللاعنف أو العكس، وإنما نقف فقط على خواء الشعارات والانتماءات من جوهر أو جدوى، وعدم إدراك المنتمين طبيعة الصراع وأدواته.
يمكن تأمل هذا على مستوى الأفكار الفردية بصورة أوضح. في مصر وتونس، كانت تكتيكات اللاعنف في كثير من الأحداث محصورة على التظاهر والاعتصام، وحتى حين اتسعت لتشمل أدوات أخرى، كانت تُستخدم كرد فعل على أفعال النظام، دون أن تحدد مطالب واضحة أو تضع تصورًا عن خطوات التصعيد.
بدأت أحداث محمد محمود في القاهرة مثلًا كرد فعل على فض اعتصام محدود العدد لمصابي الثورة، وتطورت الأحداث أيضًا كردود أفعال على استخدام مفرط للقوة من الشرطة المصرية. تلك الردود بالتأكيد مشروعة ولها أهميتها كغاية في ذاتها، لكن على مستوى الفعالية الثورية والمكتسبات، لم تفرز مطالب واضحة ومتفقًا عليها من ناحية، ومن ناحية أخرى رفع بعضهم مطالب ذات سقف توقعات مرتفع للغاية ولم تكن مدركة للتأثير الحقيقي للمتظاهرين على الشارع وعلى استعدادية المواطن للاشتراك، فلم يكن التصعيد لتكتيكات أكثر فعالية شيئًا متاحًا أبدًا دون انضمامه إلى الحدث.
أنتج ذلك مجرد ميدان رمزي، مهما امتلأ عن آخره سيظل منزوع الفاعلية ومنفصلًا عن الواقع. لذلك، ورغم عدم رضى المعتصمين عن الحكومة الجديدة التي شكلها النظام كاستجابة للأحداث، انفض الاعتصام بتأثير الملل وانعدام الجدوى.
مثّل ذلك نقطة حرجة في نظرة الثوار إلى أنفسهم، فالثوار الذين بدؤوا كفاعلين ومحركين للأحداث، خسروا هالتهم كمخلِّصين لشعوبهم، وجعلهم ذلك عالقين في دور الضحية، فأصبحت السلمية لديهم سلمية سلبية حصرت الفعل الثوري في فعل وحيد فارغ: مناوشة العساكر وتمجيد الشهداء، ثم الاحتفال بذكرى المناوشات بمناوشة جديدة وتمجيد شهداء جدد. وبعد ذلك يأتي التعالي الأخلاقي على كل من هو ليس ثائرًا أو شهيدًا.
كمِثل الجسد الواحد
«فاز اليسار بالحرب الثقافية، يستطيع المثليون جنسيًّا أن يتزوجوا. أغلبية الأمريكيين الآن يتخذون الموقف الليبرالي في كل سؤال يُطرَح عليهم في استطلاعات الرأي: مساواة أجر النساء بالرجال؟ نعم. تقنين الإجهاض؟ نعم. قوانين بيئية أقوى؟ نعم. سيطرة أكبر على الأسلحة؟ نعم. تقنين الماريوانا؟ نعم. تغيرٌ كبير حدث (...) وليس هناك شك في رأيي في أن الناس إذا أمكنهم التصويت من على أرائكهم في المنزل على أجهزة الإكس بوكس والبلايستيشن، فإن هيلاري ستفوز بفارق كبير. لكن ليست هذه الطريقة التي يحدث بها التصويت في الولايات المتحدة». يقول المخرج الأمريكي «مايكل مور» تلك الكلمات في مقاله الشهيرة «خمسة أسباب ستجعل ترامب يفوز».
وعلى غرار كلمات مور، سأحاول هنا أن أكون متفائلًا: هناك مجموعات شبابية أفرزها «الربيع العربي»، ويمكن أن تكون إجاباتها على استطلاعات الرأي «نعم» أيضًا لكل ما يتعلق بالحريات وقضايا الهوية الجنسية وحقوق المرأة وغيرها. هذه المجموعات ليست قليلة العدد، لكن لِمَ تظل دون أثر في التغيير السياسي؟
في كراسات السجن، يشرح المُنظِّر الإيطالي «أنطونيو غرامشي» أهمية مواجهة هيمنة الدولة الثقافية الرسمية بهيمنة ثقافية مضادة، يحاول إنتاجها أفراد يحملون أفكارًا تقدمية، وتمريرها والتأثير بها في شريحتهم المجتمعية، لتكوين ما أسماه «الكتلة التاريخية».
هذه الكتلة التاريخية لا تتكون باجتماع شرائح المجتمع كافة، ولا بالتوفيق بين رؤاهم وتوجهاتهم الثقافية، بل على العكس، إنها محاولة لفرض بنية ثقافية معينة تحاول سحب البساط من تحت بِنَى ثقافية أخرى وإحلال محلها، أي العكس تمامًا مما فعلت المجموعات الثورية العربية.
يقول البيان التأسيسي لحزب الدستور، الحزب المصري الذي أنشأته عقب الثورة شخصيات انتمت إلى أفكار تقدمية وثورية، كان أبرزها الدبلوماسي المصري محمد البرادعي: «وعت ثورة يناير منذ اليوم الأول أن دعوات الحرية والعدل لا قيمة لها إن لم تستند إلى قوة تحميها، والقوة الوحيدة القادرة على ذلك هي احتشاد الشعب حول مبادئ الثورة في تنظيم سياسي يجمع قواه ويوحد صفوفه خلف هذه المبادئ، ومن هنا جاءت فكرة حزب الدستور، حزب يفتح أبوابه لكل أبناء الشعب ولكل مدارس الفكر والعمل الرئيسية، ابتداءً من الإسلام السياسي، مرورًا بالليبرالية، انتهاء بالراديكالية الاجتماعية والاشتراكية».
مشكلة المجموعات التحررية في الوضع العربي بعد الثورة أنها فَصَلت دائمًا بين أفكارها وبين الممارسة السياسية التي حملت مبدأ «الوحدة لا الفُرقة»، ولم تكتفِ بتكوين ائتلافات وأحزاب تجميعية لكل الأطياف والأفكار، بل حاولت أحيانًا أن تختبأ بأفكارها المتحررة باعتبار أن المجتمع ليس جاهزًا لتقبلها.
كان من أكثر الأشياء طرافةً أن نجد الشاب أو البنت يبتعد ويدخل شارعًا جانبيًّا خلال المظاهرة ليحدث أمه أو أبيه في الهاتف من مكان هادئ، باعتباره بعيدًا عن الأحداث. ورغم العادية التي يبدو عليها الفعل، فإنه يعكس عجز الفكرة الثورية التي ينتمي إليها الشاب عن كسر أبسط القيود الاجتماعية، فالثورة مجرد مناوشة مع العساكر ومن ثَمّ العودة إلى البيت.
ثم ماذا بعد؟
كان هذا استعراضًا تاريخيًّا لنماذج وآليات تكريس الانتماء في خطابات سياسية مختلفة، لكن العالم الحديث اليوم متنافر بين نزعة مركزية لا تزال متجذرة عند السلطة، وتلك النزعة الفردية التي تحارب وتصنع مكتسباتها بتراكمات مستمرة بطيئة لكنها فعالة، فما موقف الشعوب من قضاياها الكبيرة اليوم؟
في استطلاع رأي عالمي عن مدى استعداد المواطنين للدفاع عن أوطانهم، جاء المغربيون بنسبة 94% في المركز الأول، تلاهم مواطنو باكستان وفيتنام وبنغلاديش وأذربيجان.
وباستثناء فنلندا التي وقعت في المركز الحادي عشر، لم تتضمن المراكز الثلاثون الأولى أي دولة من أوروبا الغربية، بل إن أغلب هذه الدول جاء في المراكز العشرة الأخيرة، وقبل اليابان التي حلت في المركز الأخير، بينما كان 66% فقط من مواطني إسرائيل، الدولة ذات العقيدة العسكرية الخالصة، مستعدون للدفاع عن بلدهم.
يمكننا، بالاستناد إلى نتائج مثل هذه، أن ننشئ علاقة عكسية بين مدى الانتماء والحريات الفردية. يمكن أيضًا رسم كتالوج جديد من خلالها لعلاقات الفرد بالسلطة، التي تقوم اليوم على تلاقي المصالح وتنافرها، محررةً نفسها من شعارات الهوية. وربما تستدعي تلك النتائج كذلك منا التفكير في سؤال: ما الانتماء من الأصل؟