تجلس لتكتب، وفي محاولة لتحفيز نفسك على الكتابة تستمع إلى الموسيقى. من الممكن أن تجد أمامك بعض الفيديوهات الرياضية على يوتيوب، وطمعًا في مزيد من التحفيز، فإنك قد تشاهد أحد هذه الفيديوهات عن مهارات «ليونيل ميسي» ومراوغاته وأهدافه مثلًا، أو لقطات من مباريات لاعب التنس «روجر فيديرر» وانتصاراته، أو الملاكم «فلويد مايويذر».
تتركك مثل هذه الفيديوهات مجهَدًا لا متحفزًا. تتساءل كثيرًا عن الأسباب وراء ذلك الإجهاد، أو بالأدق الإحباط والشعور بالذنب.
حين سُئلت الكاتبة الأمريكية الكبيرة «سوزان سونتاغ» عن الأشياء التي تساعدها على الشروع في الكتابة، أجابت: «القراءة التي نادرًا ما تكون متعلقة بما أكتبه»، لكنها أكدت في النهاية: «الشروع في الكتابة مسألة توقف، توقف عن القراءة أو الاستماع إلى الموسيقى التي تحفزني بقدر ما تجهدني. تشعرني بالذنب لأنني لا أكتب».
عندما تقرأ رواية أو قصيدة من روائع الأدب، أو تستمع إلى مقطوعة موسيقية لبتهوفن مثلًا، فإن الجوانب الجمالية قد تبرر حالة الإحباط التي تشعر بها بعد ذلك. الشعور بالعجز في مواجهة عمل فني عظيم. في المقابل، فإن مشاهدة المقاطع الرياضية من المفترض أن تشعل حماستك، إذ تعزز لذة المنافسة والرغبة في بذل الجهد. فغاية الرياضة الفوز لا الجمال.
توضح كلمات «فرجيل هنتر»، مدرب الملاكمة المخضرم، سبب الإحباط الذي قد يصيبنا من جراء مشاهدة نوابغ الرياضة. يتحدث هنتر عن الملاكم الأمريكي فلويد مايويذر قائلًا: «الأفضل، المُعلم، دائمًا ما يجعل الأمور تبدو سهلة». ومايويذر هو الأفضل بالفعل.
ينتمي مايويذر، المولود في ميتشغان عام 1977، إلى عائلة من الملاكمين. كان أبوه ملاكمًا، وعمه كذلك. لكنهما لم يحققا أي إنجازات كبيرة، باستثناء منافسة مايويذر الأب للملاكم الفذ «شوغر راي ليونارد» على اللقب. إلا أن مايويذر الابن استطاع البقاء أكثر من عقد من الزمان متربعًا على العرش دون هزيمة في الوزن الخفيف والمتوسط وخفيف المتوسط.
في عالم الملاكمة، تتنوع الأسباب التي تجعل من الملاكم بطلًا عظيمًا. هناك من يكتسب شهرته وعظمته من قوته المفرطة وعدوانيته، مثل «مايك تايسون» و«روبرتو دوران». وهناك من تكمن عظمته في قوة إرادته، مثل «إيفاندر هوليفيلد». ومن الملاكمين أبطالٌ تميزوا بمواقفهم الشجاعة ونضالهم من أجل الحقوق المدنية، إلى جانب مهاراتهم الفذة، مثل «محمد علي كلاي».
سنسلط الضوء هنا على الملاكم الأمريكي «فلويد مايويذر جونيور»، وتحديدًا على جماليات أسلوبه وأدائه، وعلى الأسباب التي جعلت منه ملاكمًا عظيمًا وملهِمًا، وما يمثله من حالة فنية فريدة. لكن في البداية، ينبغي علينا أن نتناول المسألة الجمالية في الرياضة عامة، والملاكمة بصفة خاصة.
اقرأ أيضًا: سيناريو صحفي: الطريق إلى النزال الأخير لمحمد علي كلاي
هل تخلو الرياضة من جانب جمالي؟
الإجابة الفورية عن هذا السؤال هي: لا. إذ توجد جوانب جمالية عدة في الرياضة بالفعل. تكمن المعضلة في كيفية إدراك البعد الجمالي داخل الرياضة التنافسية.
في عدد من الرسائل المتبادَلة بين الكاتب الجنوب إفريقي الحائز على جائزة نوبل «جيه. إم. كوتزي» والكاتب الأمريكي «بول أوستر»، يتحدث كوتزي عن «المسألة الجمالية» في الفعاليات الرياضية.
يقول كوتزي إن لحظات الجمال هي ما يستجيب لها في الرياضة. فيتذكر الأوقات التي شاهد فيها لاعب التنس «روجر فيديرر»: «أعيد الرجوع بالذاكرة كي أدقق في هذه اللحظات، أعود إلى فيدرير إذ يضرب بظهر المضرب كرة عابرة للملعب. وأسأل نفسي: هل الجمالي حقًّا، أو الجمالي وحده، هو الذي يُحيي بداخلي هذه اللحظة؟».
يفكر كوتزي في أنه لو قضى طفولته كلها يتدرب على اللعب بظهر المضرب، ما كان ليقدر على ضربة كتلك: «ليس في ظل توتر المنافسة، ليس وقتما أشاء». ويضيف في كلمات دالة: «لقد رأيت للتو شيئًا هو في الآن نفسه إنساني ومجاوز لما هو إنساني. رأيت للتو شيئًا أشبه ما يكون بمثال تحقَّق (نموذج مثالي للجمال)».
عند تفكيرنا في الجانب الجمالي للرياضة. فالألعاب الفردية التي تعتمد على الأداء، يتجلى فيها الجمال لأنها تنشد نوعًا من الكمال.
ينتهي كوتزي لا حاسدًا ولا معجبًا بفيديرر، وإنما فخورًا بإدراك ما لإنسان مثله أن يفعله. الأمر شديد الشبه بردود أفعاله على الروائع الفنية التي قضى كثيرًا من الوقت في تأملها وتحليلها، لكنه يشعر بأنه لا يستطيع أن ينتجها بنفسه: «هذا يتجاوز قدرتي. لكن الذي أنتجها رجل أو امرأة مثلي، فيا له من مجد أن أنتمي إلى السلالة التي يمثلها هذا الرجل وهذه المرأة». في تلك المرحلة لا يعود بوسع كوتزي أن يميز الأخلاقي عن الجمالي.
يذكر كوتزي أمرًا يبدو عرضيًّا، لكنه شديد الأهمية في الحقيقة، وهو أنه لا يحب من الرياضات ما تحمل نفسها على محاكاة الحرب، فيكون «المهم فيها هو الفوز، ويكون الفوز مسألة حياة أو موت. تلك هي الرياضات التي تخلو من الجمال، مثلما تخلو الحرب من الجمال».
تبدو هذه التفرقة منطقية عند تفكيرنا في الجانب الجمالي للرياضة. فالألعاب الفردية التي تعتمد على الأداء، كالجمباز والغطس، يتجلى فيها الجمالي لأنها تنشد نوعًا من الكمال، من تحقيق نموذج مثالي. أما رياضة كالملاكمة، فإن أي خطأ من أحد المتنافسَيْن لا ينتج عنه خسارة لنقطة فقط، وإنما غالبًا ما يصل الأمر إلى نزيف من الأنف أو ضلع مكسور أو عين متورمة.
فهل الملاكمة مثل الحرب في خلوها من الجمال؟
الملاكمة: فن الحرب والعنف
الملاكمة تشبه الحرب: تكتيك وهجوم ودفاع واستراتيجيات وجولات استنزاف، لكنها في النهاية حرب شريفة، دون محارق أو أسرى أو قنابل نووية.
قال الملاكم «جو لويس» في نهاية حياته: لقد بذلت أفضل ما أستطيع بالإمكانات التي توفرت لدي. وهذا ما يمكن أن أقوله أنا أيضًا عن أعمالي: لقد قدمت أفضل شيء ممكن بالنظر إلى ما توفر لدي.
بهذه الكلمات، يلخص الروائي الأمريكي «فيليب روث» سيرته ومنجزه الإبداعي.
تشبه الكتابة في أحد وجوهها الملاكمة. كلاهما صراع، الكتابة نزال مع اللغة، ونزال بين الكاتب والكلمات. أما الملاكمة، فهي صراع مع الجسد وطاقته، نزال باللكمات مع الخصم، لكن تتجلى فيها عظمة تجاوز حدود طاقة الجسد وقدراته. ربما الرغبة في تجاوز قدرات الجسد وإمكاناته ما تجعلها ملهمة لعدد من الكتاب والفنانين، كما سنذكر لاحقًا.
سنحاول الآن أن نجيب عن السؤال الذي طرحناه سابقًا: هل الملاكمة، مثل الحرب، في خلوها من الجمال؟
حين تشاهد مباراة ملاكمة، قد ترى المقاتلَيْن وهما يتبادلان اللكمات في سباق محموم. وفي غمرة هذا السباق تلحظ عيناك العد التنازلي، الثواني الأخيرة من الجولة، ثم جرس نهايتها. ربما تتوقع أن يظل الملاكمان في اندماجهما الشرس، فلا ينتبه أيهما إلى صوت الجرس. الغريب أن كلا الملاكمَيْن يتوقفان فور سماع الجرس. في حالات نادرة تطيش لكمة أو اثنتان، وتكلف صاحبها إنذارًا من الحَكَم أو خسارة من النقاط.
الأمر يتعدى مجرد الامتثال لقواعد اللعبة. لطالما توقفت متأملًا هذا المشهد، وما يحمله من قدرة على التحكم وضبط النفس. إنها مجرد جولة، يجب احترام الخصم والهدنة والتقاط الأنفاس. الملاكمة تشبه الحرب: تكتيك وهجوم ودفاع واستراتيجيات وجولات استنزاف، لكنها في النهاية حرب شريفة، دون محارق أو أسرى أو قنابل نووية.
«حرَّكَ المؤشر إلى آخر الصفحة، فوجد وثائقيات عن محمد علي كلاي، ظهرت بعدها وثائقيات عن حياة الملاكمين بعد تقاعدهم، تلتها وثائقيات عن مذابح الخمير الحُمر، وثائقيات عن مذابح الأرمن، وثائقيات عن مذبحة نانجينغ، عن مذابح الملك ليوبولد في الكونغو، عن مذابح التوتسي في رواندا، عن مذابح الصرب في البوسنة، عن تل الزعتر، عن الحرب الأهلية اللبنانية».
المقطع السابق من رواية «كل المعارك» للكاتب الأردني معن أبو طالب. يقرر «سائد»، بطل الرواية، أن يتابع فيلمًا على الإنترنت ليُلهي نفسه عن التفكير في بطولة الملاكمة التي يشارك فيها، ويتمكن من النوم قبل نزال الصباح. تقدم الرواية من خلال هذا المشهد مواجهةً بين مستويات العنف المختلفة، وتذكرنا تلك المواجهة بكلمات الفيلسوفة «حنة آرندت» عن لعبة الحرب والتسليح التي تلعبها الدول والقوى العظمى: لعبة لا يقوم هدفها «العقلاني» على إحراز النصر.
هكذا، فإن جوهر فعل العنف الذي تُسيِّره مقولة «الغاية والوسيلة»، بتعبير آرندت، يصير أكثر عقلانية داخل الحلبة، بل إن حلبة الملاكمة تصبح الساحة الأكثر عدلًا وصدقًا مقارنة بالحياة والعالم خارجها، أو كما يفكر بطل «كل المعارك» الذي يترك عمله في وكالة الدعاية والإعلان الدولية ومستقبله الواعد في عالم المال والأعمال، من أجل حلبة الملاكمة والدم والعرَق:
«شعر أنه في مكان مختلف عن كل ما هو خارجه، مكان كل شيء فيه واضح، الفوز والخسارة، القدرة والموهبة والضعف. لا مكان هنا للهيام في الرماديات».
كل مباراة ملاكمة هي قصة، دراما فريدة ومكثفة، خلوها من الكلمات لا يعني أنها لا تملك نصًّا أو لغةً. النص يُرتَجَل في الفعل نفسه.
تكثر أدبيات الملاكمة في الثقافة العالمية، تتناول تحليل اللعبة وأبعادها الملحمية والجمالية ومجازاتها ومعانيها. وتزخر الثقافة الأمريكية، بصفة خاصة، بالأعمال المكتوبة عن الملاكمة، والتي يتفحص فيها كبار الكتاب والروائيين والشعراء «جماليات» الملاكمة وقصصها الملهمة، مثل «هيمنغواي» و«نورمان ميللر» و«تشارلز بوكوفسكي»، وغيرهم.
لعل أهم ما قيل في الملاكمة هو ما كتبته الروائية الأمريكية الكبيرة «جويس كارول أوتس»، في مقالها الشهير «On Boxing» (عن الملاكمة)، إضافةً إلى سلسلة من المقالات الطويلة عن اللعبة.
توضح جويس الجوانب الدرامية الكثيرة للملاكمة، ويكتسب مقالها أهميته من أنه يتناول عدة أفكار، مثل العنف والقوة والألم والدراما والذكورة. ترصد الكاتبة تلك الأفكار من خلال تأملات عميقة وفلسفية، ويتجاوز افتتانها بالملاكمة فكرة التباهي الذكوري بالقوة.
ترصد جويس الملاكمة من وجهة نظر شعرية ودرامية، أو بالأدق، فإن الملاكمة نفسها نوع من الدراما والشعر. تقول إن «كل مباراة ملاكمة هي قصة، دراما فريدة ومكثفة دون كلمات. لكن خلوها من الكلمات لا يعني أنها لا تملك نصًّا أو لغةً. النص يُرتَجَل في الفعل نفسه».
ترى جويس أوتس الملاكمة قريبة من الموسيقى وفنون الأداء كالرقص والباليه، لكنها أكثر تراجيدية، فالعقل والروح والجسد في مواجهة مباشرة مع الخطر والدمار. كأن الملاكمة تمثيل أسلوبي للعدوان والعنف والجنون على مدار تاريخ الإنسانية، لكن في قالب فني أقرب إلى المسرح الإغريقي.
تفكر في «معضلة» الملاكمة، فهي رياضة تجمع عدة متناقضات. وهي، كنشاط إنساني، تقدم نوعًا من الخبرة الشعورية التي يستحيل تحويلها إلى كلمات. تقول جويس: «الملاكمة شكل فني لا نظير له وسط الفنون الأخرى. إنها بدائية بالطبع، وكذلك يمكن أن يوصف الميلاد والموت والحب الإيروتيكي بصفة البدائية».
لذلك، تكشف الملاكمة عن التعارض بين الروحي والجسدي. التعارض القائم في رؤيتنا الإنسانية إلى تلك الثنائية. «إنها تفرض علينا الاعتراف بأن أكثر خبراتنا الإنسانية عمقًا هي أحداث جسدية، بدنية، لكننا نستمر في تصديق أننا، ونحن بالفعل كذلك، كائنات روحانية».
فلويد مايويذر: تفكيك الأذى
لم ينظر الملاكم الأمريكي مايك تايسون إلى الملاكمة باعتبارها رياضة، بل رأى نفسه «مصارع يسلي البيض»، إذ يواجه مقاتلًا أسود آخر، وعندما «ينظران إلى خارج الحلبة، فإنهما يريان دونالد ترامب». فهو الملياردير صاحب الفنادق الضخمة ومالك غالبية الحلبات الكبيرة.
هناك اتفاق على أن الجوانب الدموية في الملاكمة هي ما تُكسبها جوهرها الخاص، لكنها، في الوقت نفسه، تباعد بينها وبين الرياضات الأخرى وتقربها إلى الألعاب الرومانية القديمة داخل «الكولوسيوم».
قد يرى بعضهم أن شعبيتها دليل على استمرار البشرية في تقديم أشكال أخرى من العبودية تتواءم مع المدنية الحديثة، وتحاول أن تُشبع رغبة وحشية متأصلة في العنف.
لكن الملاكم الأمريكي فلويد مايويذر جونيور يمثل حالة فريدة في تاريخ الملاكمة.
حول مايويذر مبارياته إلى لعبة شطرنج تعتمد على الذكاء والدقة بدلًا من الوحشية والهجوم المستمر والتقدم الضاغط.
لا يأتي تفرُّد مايويذر من سجل انتصاراته كمحترف، فقد خاض 50 نزالًا خلال مسيرته دون هزيمة أو تعادل. 50 انتصارًا منها 27 بالضربة القاضية. وواجه كل الخصوم الذين راهن كثير من المتابعين على إمكانية تغلبهم عليه، لكن ذلك لم يحدث.
لا يأتي تفرُّده من قدرته على تكوين ثروة ضخمة دون أن يتمكن وكلاء أعماله ومروِّجو مبارياته من استغلاله، كما حدث مع ملاكمين آخرين مثل مايك تايسون وإيفاندرهوليفيلد.
تكمن عبقرية مايويذر جونيور في نقطة أخرى.
طور مايويذر أسلوبًا خاصًّا به تجلى في السنوات الأخيرة من مسيرته الاحترافية. يمكننا القول إنه نحَّى عامل الضرر أو الدمار الكامن في اللعبة، والذي قد يصيبه منها، وعمل على تحييد الجوانب العدوانية والدموية في مبارياته.
عبقرية مايويذر تكمن في تحويله قاعدة الملاكمة مِن «مَن يسقط أولًا» إلى أداء فني يتلخص في أن تُصيب خصمك دون أن يصيبك.
حوَّل مايويذر مبارياته إلى لعبة شطرنج، نوع من الرياضة العقلية القائمة على الاستراتيجية والذكاء والدقة بدلًا من الوحشية والزخم العنيف المتمثل في الهجوم المستمر والتقدم الضاغط. يتفادى مايويذر لكمات الخصم في ردود أفعال سريعة إلى درجة عصية على الاستيعاب، وتعكس قدرًا هائلًا من الرشاقة والتناسق العضلي العصبي. ويصل به الأمر في بعض اللحظات إلى أن يمر من تحت إبط منافسه كأنه راقص. يجعل اللكمات تطيش كالسهام من فوق رأسه وأذنيه وكتفيه، ثم يتحين التوقيت المناسب، لحظة بعينها، كي يوجه إلى خصمه لكمة مضادة غاية في الدقة، تصيب هدفها مُحرِزًا النقطة المرجوة.
قد تمر لكمته اليمنى من ثغرة بين قفازَي خصمه المرفوعَين للصد عن وجهه. مايويذر لا يستنزف طاقته في رمي اللكمات. اللكمة عند مايويذر لا تأتي صدفة، هناك قصدية مبدعة في لكماته الدقيقة.
بالطبع يحاول كثير من الملاكمين الدفاع وتفادي اللكمات والهجوم المضاد، لكن مايويذر الوحيد الذي ينجح في كل مرة. يكفي أن عدد اللكمات التي طالته في نزالاته العشر الأخيرة يمكن عَدُّها على أصابع اليد الواحدة. منذ اللكمة المستقيمة اليمنى من الملاكم الأمريكي «شين موسلي» حتى مباراته مع الفلبيني «ماني باكيو»، لم يرَ العالم أي «لكمات ضخمة» (Power shot) تصيب مايويذر خلال خمس سنوات. ست نزالات من مايو 2010 إلى مايو 2015 في رحلة دفاعه عن اللقب.
عبقرية مايويذر تكمن في تحويله قاعدة الملاكمة مِن «مَن يسقط أولًا» (Last man standing) إلى أداء فني يتلخص في أن تُصيب خصمك دون أن يصيبك. اعتمد مايويذر هذا النمط/النسق الأوَّلي بتنويعات إيقاعية مختلفة، كما سنيبن لاحقًا.
الحس الإيقاعي عند فلويد مايويذر
يتحدث عازف الجاز «ستيف كولمان» عن الإيقاع عند فلويد مايويذر، ويقول إنه يتعلم مزيدًا من المهارات عن الإيقاع والارتجال في الجاز، من خلال مشاهدته ودراسته لأداء مايويذر في مباريات الملاكمة.
تشبه موسيقى الجاز الملاكمة في تفاعلها مع معطيات متغيرة على الدوام. وكذلك، فإن كليهما يتأسس على الحس بالإيقاع.
يعالج ذهن مايويذر الاحتمالات المختلفة كأن الحركات تحدث أمامه بالتصوير البطيء.
يحلل كولمان، عازف الساكسفون الارتجالي، أداء مايويذر في مباراته مع الملاكم الجنوب إفريقي «فيليب إندو». يقول كولمان إن الملاكمة لا تعني بالنسبة إليه تلاطم اثنين من الملاكمين في سيناريو يرفع شعار «من يسقط أولًا»، وإنما رؤية أسلوب فني ومهارة حقيقية داخل الحلبة. مشاهدة مايويذر ضد إندو (2003) كانت مصدر سعادة لكولمان، «لا لمجرد فوز مايويذر، وإنما بسبب الطريقة التي فاز بها».
وفقًا له، فإن المفتاح لفهم فعالية دفاع مايويذر الذي لم يرَ نظيرًا له، هو حركة مايويذر مع الإيقاع، فرض إيقاعه الخاص على نسق المباراة وكسر إيقاع الخصم. وسيلته في تنفيذ ذلك هي «التوقيت». كولمان عازف الجاز الارتجالي يعرف قيمة التوقيت وأهمية دقته.
يخلق مايويذر إيقاعه، ينشئ تناظرًا محسوبًا بين لكمات خصمه وحركاته هو، من دوران وتمايل ومراوغة. يقوم دفاع مايويذر على إيقاع متغير دومًا حتى لا يمكن التنبؤ بتحركاته.
يوضح كولمان صعوبة ما يفعله مايويذر واستحالة تلقينه للملاكم رغم الإعداد المضني والدراسة وتدريبات ما قبل الأداء. يقوم هذا الارتجال في الحلبة، ذلك المشابه للارتجال الموسيقي، كما سنوضح بعد قليل، على حس نبوئي بمسارات الإيقاع المحتملة. يعالج ذهن مايويذر الاحتمالات المختلفة كأن الحركات تحدث أمامه بالتصوير البطيء، أو كأن عقله يمكنه إيقاف الزمن حتى يدرس الاحتمالات والمسارات الممكن تنفيذها من الخصم، أو التي تفرضها المباراة. كيف يمكن للملاكم المعلم أن يطور الاستجابة الصحيحة في أوقات مختلفة من النزال.
يعلق كولمان على هجوم إندو الذي قد يبدو للمتفرج والمعلقين فعالًا أو مجديًا، لكنه يرى أن الفخ الاستراتيجي الذي نصبه مايويذر كان عصيًّا على فهم متابعي المباراة.
يتحدث كولمان عن التشابه مع الارتجال الموسيقي: ضبط التوقيت والتناغم مع الآلات الأخرى. يكمن الإبداع في الاستجابة للطبيعة الديناميكية في حالة اللحن عند العازف، والجسد ونسق المباراة عند الملاكم. وأهم التحديات هي استجابة العازف الصحيحة في التوقيت المناسب، وتنفيذها مع التحكم في الطبيعة العفوية للتلحين، وما تمليه الجمل الموسيقية.
تطوير تلك الاستجابات وردود الأفعال بسلاسة، مع الحفاظ على التوازن المطلوب في الظروف المتغيرة، ليس بالأمر اليسير، وهذا ما يفعله الملاكم العظيم، كما يوضح كولمان. علاقة أسلوبية مبدعة بين الشكل والحركة، تظهر في نماذج فارقة من الأداء، في حالة الموسيقى عند «تشارلي باركر» و«ماكس روش»، وفي الملاكمة عند فلويد مايويذر.
عن الأسلوب المتأخر لفلويد مايويذر
يستلهم المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد مفهوم «الأسلوب المتأخر» من الفيلسوف وعالم الجمال «ثيودور أدورنو».
في كتابه «عن الأسلوب المتأخر: موسيقى وأدب عكس التيار»، ينقد سعيد المنجز الإبداعي لعدد من الفنانين في مرحلة متقدمة من حياتهم، تحدوا «مداهمة الموت» بالسير عكس التيار في المضمون والشكل. في الأدب «جان جينيه» و«كفافيس» و«توماس مان»، وفي الموسيقى «باخ» و«موتسارت» و«بيتهوفن» و«شترواس»، إضافةً إلى أسماء أخرى.
الأسلوب المتأخر لفنان ما نوع من التمرد، أو النزوع إلى نوع من الأسلوب المتجرد بعيدًا عن الزخرفة والتعقيد. وهو تمثيل لأعلى درجات الصنعة، وتمثيل للعلاقة بين «الحالة الجسمانية» و«الأسلوب الجمالي». قد يُصقل الاقتراب من الموت أدوات الفنان ويجعل رؤيته أكثر رهافة وسؤاله أكثر جدة.
لا يرتبط الأسلوب المتأخر باقتراب الموت فقط، وإنما يرتبط كذلك ﺑـ«حلول عوامل أخرى تحمل إمكانية النهاية قبل الأوان حتى لِمَن لم يتقادم به العمر»، كما يوضح سعيد. لذلك، لا تبدو الإشارة إلى «الأسلوب المتأخر» عند الرياضي تعسفية، على الرغم من استمراره في حياة مديدة بعد اعتزاله أو بعده عن عوامل مثل «تحلل الجسد» أو «اعتلال الصحة». لكننا يمكن أن ننظر إلى الرياضي من منظور آخر، هو فرادة علاقته بالزمن والجسد. وهي علاقة أكثر كثافة وحدة من نظيرتها عند الفنان. فالرياضي لديه سنوات معدودة في مسيرته الاحترافية.
الخطأ الذي يقع فيه عدد من الرياضيين هو الثبات على نسق أسلوبي واحد طوال مسيرتهم الاحترافية، ما يُعجِّل بالنهاية. الملاكم في حالة صراع دائمة مع جسده، وفي قتال مستمر ضد الزمن.
مع تقدمه في العمر، صقل مايويذر أسلوبه الدفاعي، وجرده من الانفعال الهجومي الذي حرص عليه في بداية مسيرته.
تبدو نزالات مايويذر مثل نص محكَم دون لحظات ذروة، لكنها تُشكل في مجموعها جدارية ضخمة ومتقنة وجميلة، عبر سلسلة من الأداءات عالية التقنية.
قدم مايويذر نسخة معدلة من أداء الأسطورة محمد علي كلاي أمام البطل «جورج فورمان»، لكن مع عدة فوارق جوهرية: أولها أن استراتيجية كلاي-فورمان كانت مقامرة، أما استراتيجية مايويذر، فهي مغامرة محسوبة بدقة وعقلانية. ثانيها أن خصوم مايويذر ليسوا سريعي التعب مثل فورمان، ملاكم الوزن الثقيل، فبإمكانهم مواصلة الهجوم طوال 12 جولة نظرًا إلى طبيعة أوزانهم الخفيفة والمتوسطة. أما ثالثها، فهو أن كلاي كان يقصد استنزاف قوة فورمان في المقام الأول، ولم يضع في أولوياته العمل على تفادي اللكمات القوية، وإنما امتصاصها ككيس رمل.
قدم كلاي أمام فورمان أداءً ثوريًّا ملهِمًا، لكنه غير قابل للتكرار. وحين حاول هو نفسه استنساخه لاحقًا كان الفشل نصيبه. يذكرنا كلاي بجيفارا الذي قدم تجربة ثورية ملهِمة في كوبا، لكنه فشل فشلًا ذريعًا حين حاول استنساخها في بوليفيا.
في المقابل، تبدو نزالات مايويذر مثل نص محكَم دون لحظات ذروة، لكنها تُشكل في مجموعها جدارية ضخمة ومتقنة وجميلة، عبر سلسلة من الأداءات عالية التقنية.
مايويذر ملاكم شيطاني المهارة، تكمن صنعة الحرب عنده في القدرة على إخفائها.
خمسون نزالًا، بالتأكيد تفاوت أداء مايويذر خلالها. من أداء متوازن بين الدفاع والهجوم إلى أداء دفاعي تكتيكي كلما اقترب من سن الأربعين.
بدا في عدد من هذه النزالات بطلًا قاهرًا لا يمكن أن يُمس، كما في مباراياته مع «دييغو كوراليس» و«ريكي هاتون» و«فيليب إندو»، التي فاز فيها بالضربة القاضية، أو مع «ميجيل كوتو» و«خوان مانويل ماركيز» و«أندريه برتو»، التي فاز فيها بالنقاط بإجماع الحكام. هناك أيضًا الأداء الملهِم أمام «كانيلو ألفاريس».
ظهر محاصَرا في عدد من مبارياته الكبيرة، مثلما حدث مع «أوسكار دي لاهويا» و«ماركوس ميدينا» و«ماني باكيو»، إلا أنه استطاع الفوز في جميعها لأنه الأكثر ذكاءً ودقة وسرعة وقدرة على الارتجال.
أثار أسلوب مايويذر استهجان كثير من متابعيه، وقال بعضهم إنه يتعامل مع الملاكمة كأنها «بيزنس». رأى منتقدوه أن الملاكمة يجب أن تكون قتالًا، وأن تصير أكثر عدوانية وإثارة مما هي عليه في مباريات مايويذر. تُذكِّرنا هذه الدعاوى بالمقولات السائدة والأفكار الشائعة في كل مجالات الفنون، تلك التي لا تتفهم نسبية الجماليات والطرائق المغايرة لما هو مستقر.
من يقول إنه على الملاكمة أن تكون أكثر عدوانية، يُذكِّرنا بمن يقول إنه على الأدب أن يكون «راقيًا» أو «هادفًا» أو «أخلاقيًّا». لكننا نعلم جيدًا أن قيمة الأدب لم تتحدد يومًا بموضوعه، وكذلك الملاكمة، لا يجب أن تتحدد إثارتها بمقدار ما يراق على الحلبة من دماء.