سيناريو صحفي: الطريق إلى النزال الأخير لمحمد علي كلاي

مصدر الصورة: flickr - BagoGames

يحيى
نشر في 2016/12/11

لن أعتزل

المباراة التالية: «ليون سبينكس»

«من لا يملك الشجاعة الكافية للمخاطرة، لن ينجز شيئًا في حياته».

- محمد علي كلاي

***

مشهد أول

نهار داخلي

مكتب محمد علي كلاي

أكتوبر 1977 - ثلاث مباريات قبل «النزال الأخير لكلاي»

 يجلس «علي» إلى مكتبه، فيما يقف «فيردي باتشيكو» (Ferdie Pacheco) طبيبه الخاص، سارحًا في شيءٍ ما عبر خَصاص النافذة. تغمر شمس الخريف وجهَ الطبيب، بينما يعبث «علي» في بضعة ملفات أمامه دون أن ينظر إلى «باتشيكو»، ثم يبدأ الحديث فجأة.

«باتشيكو» (دون أن يلتفت إليه): أداؤك أمام «شيڤرز» (Earnie Shavers) كان مميزًا للغاية، كثيرون أكدوا أنه قتالك الأفضل على الإطلاق.

محمد علي: أظن هذا.

«باتشيكو»: لكن نتائج اختباراتك الطبية ليست على ما يرام يا «علي». (ينظر إليه) تكادُ تتم السادسة والثلاثين، ألن يكون من الجميل أن تختم مسيرتك بانتصار كهذا؟

محمد علي: ما الذي تقوله؟ (يتجهَّم وجهه) هل فقدتَ عقلك؟ سأخوض قتالًا أمام «ليون سبينكس» (Leon Spinks) بعد أشهر، إن وكيلي يرتّب العقد الآن!

«باتشيكو»: لا أظن أن هذا هو القرار الصحيح. بصفتي طبيبك الخاص، نصيحتي هي الاعتزال الآن. تلقيتَ كثيرًا من اللكمات بالفعل، ولن يحتمل جسدك الـ...

محمد علي: (يقاطعه) أنتَ جننتَ بالفعل يا «فيردي». سألعب ضد «سبينكس»، وهذا قراري.

«باتشيكو» (يتحرّك إلى باب المكتب): إذن، لن أكونَ موجودًا وقتها عند ركن الحلبة لأراكَ تموت. إنني أستقيل، وداعًا!

يتابعه «كلاي» بعينيه إلى الخارج دون أن يتفوَّه بكلمة. تبدو على وجهه مسحة من حزن، ويخفض رأسه ببطء إلى أسفل.

***

كان الطبيب مُحقًّا، خسر كلاي أمام «سبينكس». كانت الهزيمة الثالثة في تاريخه، ولم تكن الأخيرة. اهتزَّ الرجل مع تقدُّمه في العمر، أضحَت حركته أثقل، وتفاديه اللكَمَات أبطأ. تلقَّى الكثير من الضربات التي لم يكن غيره ليحتملها. لم يعد «الأعظم»، بل أمسى كهلًا يكاد يبلغ أربعينات عمره.

سقوط محمد علي أمام «سبينكس»

***

«لا أعتقد أنها ستكون نهاية مشواره المهني لو فزتُ عليه، فلا يزال بمقدوره أن يعمل في الإعلانات».

- «سبينكس» قبل مباراته الثانية ضد محمد علي كلاي

فاز «علي»، لكن بدنه لم يكن يعيش أجمل سنوات حياته، خصوصًا بعد خوضه ثلاث مباريات وحشية للغاية ضد «جو فريچر» (Joe Frazier) خلال أقل من خمس سنوات، لُقِّبت إحداها بـ«قتال القرن»، وثلاث مثلها في ثلاثة أعوام مع «كين نورتون» (Ken Norton)، أيقونة الملاكمة والأفضل في زمنه، ثم صموده الأسطوري أمام «جورج فورمان» (George Foreman)، بطل العالم مرتين، والحائز على ذهبية الألعاب الأولمبية الصيفية 1968 في المكسيك، لمَّا ابتدع «كلاي» استراتيجية (Rope-a-dope)؛ حين استسلم لسيل ضربات خصمه حتى أوهمه بأنه يسقط، ثم ركَّز ليعود إلى المباراة ويفوز، وأخيرًا الإنهاك الذي استمر ثلاثين جولة خلال مباراتين في سبعة أشهر أمام «سبينكس».

ملخص مباراة «ليون سبينكس»

***

أوقفوا القتال فورًا!

المباراة التالية: «لاري هولمز»

«تراجعتُ عدة مرات عن توجيه اللكمات له مخافة أن أؤذيه».

- «لاري هولمز» متحدثًا عن شعوره في الجولة التاسعة ضد علي

***

قرَّر محمد علي اعتزال الملاكمة في يونيو 1979، لكنه عاد في إبريل 1980 مدفوعًا برغبته العارمة في القتال مجددًا ، ليُعلن أنه سيواجه «لاري هولمز» (Larry Holmes)، صاحب لقب «السفَّاح»، على أهم أحزمة الملاكمة العالمية (WBC) في أكتوبر 1980.

«العراك السلمي» يبدو كذلك فعلًا في لاس فيجاس

***

مشهد ثانٍ

ليل داخلي

صالة «سيزر بالاس» للملاكمة بمدينة لاس ڤيجاس

2 أكتوبر 1980 - مباراة واحدة قبل «النزال الأخير لكلاي»

 كان الآلاف في صالة الملاكمة يزأرون، وملايين غيرهم يتابعون عبر شاشات التليفزيون في أنحاء العالم. أعلن الجرس انتهاء الجولة العاشرة، في مباراة تم الترتيب لها أن تكون من خمس عشرة جولة. كان «علي» يتلقى اللكمات من «لاري هولمز» بلا حساب، وكل نتائج الجولات السابقة تشير إلى تقدم الأخير. توقف الرجلان عن القتال واتجه كل واحد منهما إلى ركنه في الحلبة. هرع مساعدو «كلاي» إليه فورًا، مدربه «أنجيلو دَندي» (Angelo Dundee)، ومساعده «بونديني براون» (Bundini Brown) الذي عمل معه لسبعة عشر عامًا، والطبيب «دونالد روميو» (Donald Romeo) المفوَّض من ولاية نيفادا للعناية بـ«علي».

«براون» (يتحدث لعلي بحماس): بإمكانك التغلب عليه، أرى هذا بوضوح.

«دَندي» (مندفعًا ناحية براون): ما الذي تقوله؟ إنه لم يسدد لكمة واحدة إلى وجه «هولمز» خلال الجولة الأخيرة!

يحوِّل «روميو» متوتِّرًا نظراته بين الرجلين و«كلاي» الصامت، ولا يتحدث.

«براون» (يشير إلى علي): إنه «الأعظم»، سيفوز! (ينظر لعلي) ألا تشعر أنك قريب من الفوز بالفعل؟

يدخل «دَندي» إلى الحلبة ويحاول دفع «براون» بيده خارجها وهو يصرخ:

توقف عن قول ذلك! توقف!

يتدخل الحَكَم مهدِّئًا «دَندي»، ويحاول التحدّث لعلي.

يلتفت «دَندي» إلى الحكم، تبدو العصبية على وجهه جنبًا إلى جنب مع الخوف، يحرك ذراعيه وهو يصيح:

- أنا المسؤول بعد «كلاي»، وآمركَ بإيقاف القتال فورًا!

كانت هذه هي المرة الوحيدة التي خسر فيها علي، لأنه لا يقدر على مواصلة العراك.

***

«بالنظر إلى كثرة اللكمات التي كنت أتلقاها، أنا سعيد أنهم أنهوا القتال».

- محمد علي كلاي بعد مباراة «هولمز»

ملخص مباراة «لاري هولمز»

***

دراما في جُزُر البهاما

المباراة التالية: «تريڤور بيربِك»

كان الحَكَم يتلو التعليمات المعتادة قبل القتال. بدا محمد علي غير منتبه إليه تمامًا؛ يغمز لأحدهم بين الجماهير، يليِّن عضلاته بتوجيه ضربات لندٍّ وهمي، ينظر في عيني خصمه، يخبط قفازيه معًا، ثم يسلم على «تريڤور بيربِك» ويتجه إلى ركن الحلبة.

***

يتلقى «علي» لكمة في وجهه من «تريڤور بيربِك». يسطع نور مباغت في عينيه لجزء من الثانية، لكن ذاكرته تسطع بأكثر من ذلك.

لم يكن بإمكانه أن يقتنع بأنه انتهى بالفعل.

يتذكر «إيرني تيريل» (Ernie Terrell)، الملاكم الغاضب ذا المترين طولًا، الذي تعمَّد أن يدعوه «كاسيوس كلاي» (Cassius Clay)، اسمه القديم قبل الإسلام. في تلك المباراة، طار «علي» كفراشة وحطَّم وجه منافسه مثل مطرقة. لم يكن لدغ النحل ليناسب يومها. كان الرجل غاضبًا، وحين يغضب «كلاي» عليك أن تأخذ حذرك جيدًا.

لكمة ثانية تضيء ذكرى أخرى.

«سوني بانكس» (Sonny Banks)، أوَّل ملاكم ينجح في طرح «كلاي» أرضًا بضربة واحدة. حدث هذا في الجولة التاسعة من قتالهما عام 1962، وكان ذلك غريبًا بالنسبة لـ«الأعظم» محمد علي، الشاب ذي العشرين عامًا، الممتلئ ثقةً في ذاته وطموحًا بلا حدود. لم يفز «بانكس» بالمباراة، لأن «كلاي» قام غاضبًا وأوسعه ضربًا في الجولة التالية، أسقط شلالًا من اللكمات على وجهه ورأسه وجسده، حتى اضطُر الحكم إلى إعلان فوز «علي».

مزيد من اللكمات والذكريات.

دخوله عالم الملاكمة بالمصادفة.. (عليَّ أن أرفع قبضتَيَّ لأحمي وجهي).. إيقافه عن اللعب بعد موقفه من حرب فيتنام.. (أشعر بوخزٍ غريب في ساقي اليسرى، ما الذي).. تغلُّبه على بطل العالم للوزن الثقيل «سوني ليستون - Sonny Liston» وعمره 22 عامًا فقط.. (الحبل في ظهري يعيق حركتي).. زيجاته الأربع وعياله التسعة.. (لا بدَّ أن أصل إلـ…)

لكمة جديدة تقطع سيل الذكريات، وأخرى، وثالثة. لا تفلح تكنيكاته المعتادة في تفادي ضربات «تريڤور بيربِك»، يحاصره الأخير بسيل من اللكمات، يحصُره في ركن الحلبة ويشدد عليه الخناق. يظهر «كلاي» بين فينة وأخرى بضربة مباشرة، فيقسو عليه «تريڤور» بعدة لكمات شديدة الوطء. لا يفهم «علي» ما الذي جرى له، إنه يقدِّم أفضل ما باستطاعته، وهذا ما يفعله دومًا، فلِم لا يفوز؟

***

يقول الكاتب الأمريكي «دايڤ هانيجان» (Dave Hannigan)، إنه اعتقد أن «علي» دُفِع إلى خوض المباراة استغلالًا لاسمه، من أجل حفنةٍ أخيرةٍ من المال لمنظمي العراك، لكن بعد التقصِّي والتحدث إلى عدد كبير ممن اقتربوا من «كلاي» في ذلك الوقت، رأى أن «علي» قاتل يومها لأنه ببساطة لم يستطع الابتعاد عن الأضواء، لم يكن بإمكانه أن يقتنع بأنه انتهى بالفعل، لم يعد باستطاعته الوقوف بعظَمة على خشبة المسرح، ولا الإنصات إلى الموسيقى التي يصنعها زئير الآلاف حوله.

«تريڤور بيربِك» كان صبيًّا في العشرين، فيما يفصل «علي» شهر واحد فقط عن عامه الأربعين. فقدت الفراشة جناحيها، وكفَّت النحلة عن الأزيز. أمسى «كلاي» منهكًا للغاية ، وربما كان مرض «باركنسون» (الشلل الرعَّاش) يبدأ الزحف في خلاياه وقتها. كان يشعر بالفتور، قُفَّازاه ثقيلان في يديه، ينتظر جرس انتهاء الجولة بفارغ الصبر. وحين دقَّ، لم يبدُ عليه الارتياح. ضجَّت الحلبة بالصحفيين حتى لم يبقَ موطِئٌ لقدم. الكل بات ينتظر قرار المُحكِّمين، ورأس محمد علي كان مائلًا إلى أسفل قليلًا.

جسد «علي» يُخفي عقودًا من التمزُّق والإنهاك

***

مشهد ثالث

ليل داخلي

صالة «سيزر بالاس» للملاكمة بمدينة لاس ڤيجاس

11 ديسمبر 1981 - دقائق قليلة بعد «النزال الأخير لكلاي»

بدت الأمور محسومة بالفعل، رغم أن «كلاي» لم يشعر قبل المباراة بما ستؤول إليه. ربما كان محمد علي يمنِّي نفسه بالعودة إلى سلسلة الانتصارات، كان يحتاج إلى هذا. شعوره بالوهن دفعه إلى المجازفة، وربما لم تكن المجازفة أصوب قرار ها هنا. الآن هو يعرف هذا، الآن يوقن به، والآن لا سبيل إلى التراجع. اتَّضحت كل المعاني الغامضة، وباتت قراراته السابقة جليَّة أمامه في صحَّتها وخطئها، والندم لا يخالج أيًّا منها أبدًا.

تجمَّع المهنِّئون حول «بيربِك»، و«علي» تمشَّى قليلًا على الحلبة، وناوله أحدهم فرشاةً مشَّط بها شعره، وصدح صوت المعلِّق فجأةً يتلو نقاط الطرفين:

«توصل المُحكِّمون إلى فوز أحد الخصمين بالإجماع...»

ساد الصمت فورًا، والملايين ابتلعوا ألسنتهم وأضحوا كلهم آذانًا مُصغية.

«قرار الحكم ألونزو بَتلر: 97 - 94...»

هل هو «علي»؟ هل فعلها «بيربِك»؟ لا بدَّ أن ملايين المتابعين تساءلوا..

«قرار الحكم كلايد جراي: 99 - 94...»

نظرات خابِيَة على وجه «كلاي»، وعينا «بيربِك» تلتمعان بالحماس..

«قرار الحكم چاي إدسون: 99 - 94...»

لا ريب أن مئات القلوب أفلتت خفقة أو اثنتين ترقُّبًا..

«… لصالح تريڤور بيربِك!»

ملخص مباراة «تريڤور بيربِك»

***

«أعتقد أني صرتُ عجوزًا. كنتُ بطيئًا، كنتُ ضعيفًا. أعرف أنها النهاية. أنا سعيد لأني لا أزال جميلًا، كان يمكن أن أفقد عينًا أو سِنًّا. لقد نجوت كأفضل ما يمكن لرجل عجوز أن يفعل ».

- محمد علي كلاي بعد المباراة

«لم أرغب في إصابته بضرر، أردت فقط أن أضربه بالقدر الكافي لأفوز».

- «تريڤور بيربِك» بعد المباراة

***

«من لا يملك الشجاعة الكافية للمخاطرة، لن ينجز شيئًا في حياته».

امتلك «علي» قدرًا مناسبًا من الشجاعة ليخاطر، لكن عاقبته لم تكن كما تمنَّى. لعب أربع مباريات بعد تجاهُل نصيحة طبيبه بالاعتزال، وخسر في ثلاثٍ منها، لكنه كان قد صار أسطورة بالفعل، والناس لا يميلون إلى تذكُّر اللحظات السيئة للأساطير، بل الجيدة فقط، ومحمد علي كلاي عاش عشرات اللحظات العظيمة على الحلبة، والمئات خارجها.

مواضيع مشابهة