الجماعات السرية غامضة دومًا ومثيرة للفضول، حتى إنها كثيرًا ما تستأثر بشغف القراء والباحثين ليقرأوا سيرة ذاتية لمنشق عن جماعة ما صغيرة أو كبيرة، في الشرق أو الغرب. وسواء أكانت خلفية الجماعة التي انضم إليها دينية أصولية أم جهادية مسلحة أم صوفية دعوية أم سياسية أم، وياحبذا، غرائبية، تختلط الخزعبلات بالعقائد الوثنية ببعض المفاهيم الدينية المسيحية أو الإسلامية أو المفاهيم الفلسفية أو الإنسانية المألوفة.
بعض تلك الجماعات يكون منغلقًا بالكامل حتى يقع في قبضة الأمن، مثل «تنظيم الشيخ صلاح بريقع» في مصر في تسعينيات القرن الحادي والعشرين، أو «تنظيم الشيخة منال» في نفس الحقبة.
وبعضها يكون شبه منغلق أو منفتحًا وفقًا لحسابات دقيقة، على النظام العام أو على المجتمع أو على مؤسسات البلد الذي ينشأ أو ينشط فيه، مثل تنظيم الإخوان المسلمين في معظم دول المنطقة العربية، والذي غدا محظورًا في مصر بعد أن مر بمرحلة انفتاح كامل وصلت إلى أن يعتلي أحد أفراده سدة الحكم مصر.
وقد يكون التنظيم أو الجماعة سرية وغير مقبولة اجتماعيًّا بالكامل، مثل «الأخوات القبيسيات» في سوريا، قبل الاعتراف بتجمعاتهن اعترافًا مشروطًا باعتبارات أمنية وسياسية في 2006، وإن كان الاعتراف الأمني والرسمي بتنظيم القبيسيات لم ينف عنهن الغموض وسمات السرية التي اتسمت به تجمعاتهن المغلقة.
كذلك نجد عددًا من الطرق الصوفية في المنطقة، والتي تحتفظ بعلاقات جيدة مع مؤسسات الحكم، أو قد تكون جماعات صوفية معارضة ترفض مبدأ «التقية» وتجاهر بوجودها وتدخل في حلقات من المواجهة مع السلطة، متبنية المنهج غير المسلح، مثل «جماعة العدل والإحسان» في المغرب (محظورة). ومن خارج المنطقة، نجد حالة ذات منطلَق مسيحي اشتراكي، كتنظيم «معبد الناس» الأمريكي المسيحي الاشتراكي الذي تأسس على نبذ العنصرية وضم المهمشين والملونين والعجائز، حتى انتهت حكايته بواحدة من أكبر عمليات الانتحار الجماعي في العالم وأبشعها.
قد يهمك أيضًا: 7 حوادث اختار فيها البشر الانتحار جماعيًّا
الثابت بالدراسة والاستقصاء في هذا المجال الذي يلهب خيال الباحثين والصحفيين في العالم بأسره، أن الجماعات السرية والأخويات المغلقة لا تزال موجودة ونشطة في كل مكان في العالم، غير أنها لا تدخل بقعة الضوء إلا إذا تضخمت للغاية، أو تبنت حادثًا رهيبًا يضطر الإعلام لتسليط الضوء عليها، وإن كان من الصعب جدًّا الوقوف على عدد تلك الجماعات والأفكار التي يلتف حولها أعضاؤها نظرًا لسرية معظمها.
في الشرق كما الغرب: الجماعات المغلقة لا توقفها الجغرافيا
من سمات الجماعات المغلقة، الطاعة التامة التي يدين بها الأعضاء للزعيم، وتسخير الأعضاء للعمل دون مقابل، وربما تقديم خدمات جنسية أحيانًا.
من بين الكتب التي تعرضت لهذه المسألة، نجد كتاب «Deadly Cults» (الجماعات القاتلة) لـ«روبرت إل سنو»، الذي إضافة إلى استعراض عدد من أغرب حكايات الجماعات المغلقة في الولايات المتحدة، فإنه يؤصل لمفهوم الجماعة (Cult).
يُعرِّف سنو «الكَلْت» بأنه «جماعة من الأفراد يتمحورون بإيمان شديد، حول شخص أو فكرة، وينزعون لاستخدام تكنيكات متلاعبة لتكديس الموارد وللإقناع والتجنيد، ومن ثمَّ السيطرة على أفراد آخرين، ما يصب في مصلحة رؤوس الجماعة».
من سمات تلك الجماعات، الطاعة التامة التي يدين بها الأعضاء للزعيم، وتسخير الأعضاء للعمل البدني والذهني دون مقابل، وربما لتقديم خدمات جنسية أحيانًا، بحسب ما يوضحه سنو في كتابه.
هذا التعريف يمنح ثقلًا كبيرًا لدور زعيم الجماعة أو رئيس الطائفة أو شيخ الطريقة بصورة شخصية، من حيث سماته النفسية وقدرته على التأثير والإقناع والإيقاع. وهو ما برز بصورة صارخة في شهادات الناجين من أتباع القس الأمريكي «جيم جونز»، مؤسس وزعيم جماعة «معبد الناس»، الذين تحدثوا عن جاذبيته الشخصية وسحر خطابه، واقتبسوا عنه قوله: «إذا رأيتني صديقًا، فأنا صديقك، وإذا رأيتني أباك فأنا أبوك، وإذا رأيتني مخلِّصا فأنا مخلِّصك، وإذا رأيتني إلهًا، فأنا ربك».
يتكرر هذا في إشارة الفتيات المنشقات عن تنظيم «القبيسيات» السوري المحسوب على الطريقة «النقشبندية» في مذكراتهن عن افتتانهن بالـ«آنسات» المخولات من التنظيم، برعاية الفتيات حديثات العهد بالالتحاق بالتنظيم، وكذلك الحديث عن قدراتهن الروحية الخارقة وسحرهن وعفتهن وقوتهن وعلمهن الاستثنائي.
في مصر، شهدت ثمانينيات القرن العشرين حالة تنتمي لنفس الطراز من الجماعات المنغلقة على ذاتها، كان بطلها صلاح بريقع الذي سيق مع أتباعه عبر القضاء إلى أقدارهم، بعد أن أدلوا بشهاداتهم عن كل الشذوذ العقائدي والطقسي الذي اعترى مسيرتهم لسنوات.
بحسب الوارد في أوراق القضية، التي ينقلها خالد محمد القاضي، في كتابه «من روائع الأدب القضائي»، كان بريقع صوفيًّا منتميًا للطريقة «الشاذلية»، ثم «الفاسية»، حتى دبت بينه وبين القائمين على الطريقة خلافات شخصية، انشق على أثرها بطريقته التي دعا المريدين إليها بوصفها طريقة صوفية.
في إطار تلك «الطريقة» أو الجماعة التي نجحت في تجنيد عدد من الرجال والنساء من ذوي التعليم العالي الذي لم يتعارض مع الولاء الشديد لزعيمهم، شطح بريقع بتعاليمه ومفاهيمه الخاصة، كما أثبتت التسجيلات التي ضُبِطَت في «الساحة» التي كان يمارس فيها وأتباعه طقوس طريقتهم، حتى وصل إلى الادعاء بحلول النبي في جسده، ورفع أتباعه إلى مراتب الصحابة، واختص نفسه ببعض صفات الألوهة.
ورد في وثائق قضية تنظيم بريقع أن أتباعه كانوا يتوافدون على ساحة الشيخ، وتبدأ الطقوس بأن يُقبِّل كل مريدٍ يده اليمنى دون عَدٍّ ولا حَدٍّ، ثم يُقبَّل الشيخ في فمه ثلاث قبلات للمريد، وواحدًا وعشرين قبلة للمريدة، قبل أن يقبل كل مريد ومريدة قدم شيخهم دون عد ولا حد.
وُصِفَت تسجيلات الحفلات بالمجون، وذُكِرَ أنها توثق طقوسًا احتفالية جماعية بالمولد «البريقعي» الشريف. وأكدت أوراق القضية أن بريقع حرَّم على أتباعه صلاة الجمعة خلف مشايخ السُّنة في مساجد مصر المختلفة، وحرَّم عليهم تأدية الزكاة، مكدسًا موارد أفراد الجماعة في ساحته، وبمرور الوقت دعا مريديه للحج إلى تلك الساحة بعينها دون سواها.
مصر التسعينيات أيضًا، شهدت قضية تنظيم «الشيخة منال» التي، بمطالعة أوراق قضيتها في كتاب «من روائع القضاء المصري»، لن تجد اختلافًا كبيرًا في تفصيلاتها عن قضية بريقع، بينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتابع في نفس الفترة تضخم جماعة أسمت نفسها «The Body» (الجسم)، بدأت كحلقة مفتوحة لتدارس الكتاب المقدس برعاية القس «رونالد روبيدوكس»، وانتهت بجماعة سرية مغلقة انسحبت تمامًا من المجتمع، وأجبرت أعضاءها على قطع علاقاتهم مع العالم الخارجي. أما من كان يفكر في الخروج على الجماعة أو الانشقاق عنها، فإن باقي الأعضاء يرونه موصومًا ومحكومًا بالجحيم الأبدي، بحسب ما يذكره كتاب «الجماعات القاتلة».
بنهاية التسعينيات كان أفراد «الجسم» يعتقدون أنهم «المختارون»، وعليهم أن ينقطعوا عن الأنظمة السبعة التي يتألف منها المجتمع الشرير: التعليم والنظام الصحي والحكومة والبنوك والدين السائد والترفيه والعلوم الحديثة.
زيادة في الانغلاق، بدأ أفراد الجماعة إحراق ألبومات صور عائلاتهم وصور طفولتهم، لأنها تذكارات من حياة الكفر التي عاشوها قبل التطهر والدخول في الجماعة المغلقة. وقد نجح زعيم الجماعة في إقناع أتباعه بأنه يتلقى وحيًا مباشرًا من الله.
في مطلع الألفية، نشرت الصحف اليمنية خبر مقتل «محمد البكاري» مصلوبًا بأيدي أحد «أتباعه» ممن آمنوا بادعائه النبوة. وقد كان واحدًا من كثيرين اتبعوا البكاري (دارس العلوم الشرعية الذي تاجر في المخدرات لفترة قبل أن يدعي النبوة) لتسع سنوات، قبل أن يصلبه بعد أن فقد بيته وأسرته بسبب أوامر «النبي» الملهَم.
اقرأ أيضًا: محاولات الانفصال عن المجتمع: لماذا تنشأ الكوميونات وتندثر؟
لماذا ينضمون إلى مثل تلك الجماعات؟
زعماء الجماعات المغلقة يكونون أصحاب شخصيات آسرة، يخطفون القلب والعقل بحديثهم وحضورهم الطاغي.
ليس هناك نوع بعينه من الأشخاص مهيأ نفسيًّا أو عقليًّا أكثر من سواه للالتحاق بالأخويات والجماعات المغلقة. وإن كان من سمات عامة لهؤلاء، فهي أنهم غالبًا ما يكونون أفرادًا حساسين ومتنورين أكثر من سواهم، وذوي تعليم راقٍ. وعادة ما يكونون من الباحثين عن معانٍ للأشياء أو حائرين في إجابات أسئلة كبرى، وفقًا لما يذكره عالم النفس الأمريكي «فيليب زيمباردو»، المختص في علم النفس الاجتماعي، والذي كرس سنوات من حياته لدراسة الجماعات المغلقة، في دراسة نشرتها دورية «American Psychological Association Monitor».
بحسب زيمباردو أيضًا، غالبًا ما يقدم الزعيم المتسلط ذو الجاذبية الكبيرة، نفسه لهؤلاء بوصفه الرجل الذي يملك مفاتيح الإجابات النهائية والمطلقة.
وجدت الدراسة كذلك أن كثيرًا ممن انتموا في لحظة من حياتهم لتنظيم مغلق، كانوا حاصلين على درجات علمية وأكاديمية رفيعة المستوى، وغالبيتهم من أبناء الطبقة الراقية وأصحاب الأملاك.
زعماء مثل تلك الجماعات يميلون لتجنيد الأشخاص ذوي «البروفايل» الراقي والعقليات المركبة، لأن هؤلاء غالبًا ما يكون الإيقاع بهم أسهل بكثير من الإيقاع بالعوام المثقفين بثقافة «الشارع»، الذين يصعب اكتساب ثقتهم، والقادرين على إعمال حدسهم وقراءة وجوه الآخرين وسبر أغوارهم. ولذلك لا يقع فاللوم على من جرى تجنيدهم في المقام الأول، بل إن اللوم يجب أن يقع على من تلاعب بهم وأوقعهم في حبائل ذلك النوع من المجتمعات.
هناك أيضًا ملاحظة أن زعماء الجماعات المغلقة يكونون أصحاب شخصيات آسرة، يخطفون القلب والعقل بحديثهم وحضورهم الطاغي. ثم إنهم لن يبحثوا عن أشخاص خاملين يكونون عبئًا على الجماعة، بل ينتقون أعضاءهم بعناية من الناشطين في مجتمعاتهم ويتمتعون بالقبول والذكاء، كي يتمكنوا من تجنيد أعضاء آخرين واجتذاب أموال للجماعة بطريقة أو بأخرى، ما يجعل الرابط الذي أوجدته بعض الدراسات العلمية بين ارتفاع مستوى تعليم الفرد واحتمالية انضمامه لجماعة مغلقة، أمرًا مفهومًا.
للأسف، يستغرق الأمر شهورًا على الأقل، وسنوات على الأرجح، كي يدرك الواحد من هؤلاء أنه كان ضحية خدعة كبيرة، بعد أن يفقد كثيرًا من صحته النفسية والبدنية وممتلكاته، وعلاقاته الشخصية أيضًا، في دوامات تلك الجماعة.
في تلك الجماعات، عادةً ما تتلقى وعدًا من اللحظة الأولى بأن «إخوانك» في الجماعة، هم عائلتك التي تفتديك، وتناصرك في معاركك، وتساندك وتمنحك الحب والاحترام. في تلك الجماعات تجد أيضًا مساحة لتنمية مهاراتك عبر الأنشطة الجماعية المختلفة، وربما، كما يحدث في بعض الجماعات، يعدك الرئيس بقدرات استثنائية أو بالشفاء من مرض ما، وربما يقرأ لك طالعك ويتنبأ لك بالمستقبل، أو حتى يعدك بالخلود إذا آمنت بما يكفي.
في تلك الجماعات، لن ترى شيئًا مريبًا أو عنيفًا أو غير أخلاقي، أما الأفكار والممارسات الغريبة، فإنها تتسرب إليك تدريجيًّا، وعلى مدى زمني طويل، حتى تتأصل فيك لدرجة أنك قد لا تلحظ أنها غدت جزءًا من حياتك.
عبر سنوات من الدراسة، استطاع زيمباردو استخلاص بعض الحقائق حول ما يدفع أحدهم للدخول في جماعة من ذاك النوع، مشددًا على أهمية إجابة السؤال: ما الذي تُشبعه تلك الجماعات ولا يُشبعه المجتمع المفتوح؟
إجابة هذا السؤال: «الوعود» التي تمنحها الجماعة المغلقة للشخص الذي يتعرف إليها، وبعد الانضمام يأتي دور الجماعة التي تستوعب الفرد وتؤثر فيه، بحيث تكبل قدرته على التفكير النقدي وممارسة حريته الفردية.
مهما تكن طبيعة الأفعال التي ارتكبها شخص ينتمي إلى جماعة سرية، تذكر أن أنا وأنت كان من الممكن أن نقع في نفس الفخ.
إذًا، الناس لا يذهبون بأرجلهم إلى «جماعات سرية مغلقة»، بل ينضمون إلى مجتمعات صغيرة تعِدهم بتحقيق احتياجات مُلِحَّة لديهم، دون أن يبدو لهم أن تلك التجمعات خطرة عليهم أو على المجتمع. ينضمون لأن تلك التجمعات المغلقة تعكس، بما تحققه من احتياجات نفسية أو روحية، ما يعجز المجتمع عن تحقيقه لهم. فوسائل التجنيد والاستيعاب والتأثير التي تمارسها الجماعات المغلقة على أعضائها، ليست وسائل غسيل دماغ غريبة ولا وافدة، بل إنها عبارة عن تكثيف للأساليب الاجتماعية التي تمارسها باقي المؤسسات والكيانات الاجتماعية والهيئات المهنية في المجتمع يوميًّا.
فرضية زيمباردو تقوم على أن أي شخص قد يتعثر في هذا الفخ، حين يمر بظروف استثنائية أو انتقالية في حياته، كأن يكون وافدًا جديدًا على مدينة غريبة، أو فقد حبيبًا، أو يواجه أزمة في مجال عمله، أو يعيش في أسرة لا تلبي احتياجاته الإنسانية والنفسية والعاطفية. هنا تبرز أهمية الجماعة التي توفر للفرد بيئة داعمة، تعوضه عن العثرات والسقطات والاحتياجات المهمَلة بالدعم والحب، في بيئة منتظمة ذات إيقاع يومي متشابه يسهل التنبؤ به والتحكم فيه.
مهما تكن طبيعة الأفعال التي ارتكبها شخص ينتمي إلى جماعة سرية، تذكر قبل أن تصدر الحكم عليه أنني أنا وأنت كان من الممكن أن نقع في نفس الفخ، وأن نرتكب أفعالًا غريبة أو عنيفة أو لامنطقية أو مدمرة للذات، ولا تتناسب مع قيمنا بالمرة، فقط لو كانت الظروف مواتية. إنها مسألة اللحظة المناسبة والتكنيك المناسب.
هذا الموضوع اقترحه أحد قُراء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.